رسالة الموت
نشأ أحمد بن طولون في صيانة وعفاف ورياسة ودراسة للقرآن العظيم مع حسن الصوت به، وحكى ابن عساكر عن بعض مشايخ مصر: أن طولون لم يكن أباه وإنما كان قد تبنّاه لديانته وحسن صوته بالقرآن، وظهور نجابته وصيانته منذ صغره.
وبعثه طولون مرة في حاجة ليأتيه بها من دار الإمارة، فذهب أحمد، فإذا حظية من حظايا طولون مع بعض الخدم وهما على فاحشة، فأخذ أحمد حاجته التي أمر بها طولون وكرَّ راجعا إليه سريعا، ولم يذكر له شيئا مما رأى من الحظية والخادم، ولكن الحظية توهمت أن يكون أحمد قد أخبر طولون بما رأى، فجاءت إلى طولون وقالت: إن أحمد جاءني إلى المكان الفلاني وراودني عن نفسي، وانصرفت إلى قصرها.
فوقع في نفسه صدقها، فاستدعى أحمد وكتب معه كتابا وختمه إلى بعض الأمراء، ولم يواجه أحمد بشيء مما قالت الجارية، وكان في الكتاب "إن ساعة وصول حامل هذا الكتاب إليك تضرب عنقه وابعث برأسه سريعا إليّ".
فذهب أحمد بالكتاب من عند طولون وهو لا يدري ما فيه، فاجتاز بطريقه بتلك الحظية، فاستدعته إليها.
فقال: إني مشغول بهذا الكتاب لأوصله إلى بعض الأمراء.
قالت: هلم فلي إليك حاجة.
وأرادت أن تحقق في ذهن الملك طولون ما قالت له فحبسته عندها ليكتب لها كتابا، ثم أخذت من أحمد الكتاب الذي أمره طولون أن يوصله إلى ذلك الأمير، فأعطاها إياه، فأرسلت به ذلك الخادم الذي وجده معه على الفاحشة، وكانت تظن أن في الكتاب جائزة تريد أن تخص بها الخادم المذكور، فذهب الخادم بالكتاب إلى ذلك الأمير.
فلما قرأه أمر بضرب عنق ذلك الخادم وأرسل برأسه إلى الملك طولون، فتعجب الملك من ذلك، وقال: أين أحمد؟!
فطلب له: فقال: ويحك أخبرني كيف صنعت منذ خرجت من عندي؟! فأخبره بما جرى من الأمر.
ولما سمعت تلك الحظية بأن رأس الخادم قد أتي به إلى طولون أسقط في يدها وتوهمت أن الملك قد تحقق الحال، فقامت إليه تعتذر مما وقع منها مع الخادم، اعترفت بالحق وبرأت أحمد مما نسبته إليه فحظي عند الملك طولون وأوصى له بالملك من بعده(1).
(1) "البداية والنهاية" بتصرف يسير.
ساحة النقاش