أخلاقيات الوظيفة العامة
د. شعبان عبده أبو العز المحلاوي
لما كانت الأخلاق الحسنة هي قواعد سلوكية تحكم سلوك الإنسان في مجتمعه من خلال نصوص تأمر بما فيه الخير وتحض عليه، وتنهي عن كل سلوك فيه شر أو يقود إلى ما فيه شر أو مكروه، وتشدد على الابتعاد عنه وتنذر بسوء عواقبه وذلك لتكون حياة الناس هانئة يسودها الحب والعطف والتراحم والتفاهم والاحترام المتبادل والإحساس بالآخر.
الأمر الذي يجب معه على الموظف العام أن يتحلي بأخلاق الوظيفة العامة وأن يلتزم بالواجبات الوظيفية لكونها وسيلة من وسائل تحقيق الهدف الأساسي للوظيفة العامة وهو تقديم الخدمة للمواطنين بأسلوب يسوده حسن الخلق وطيب المعاملة والإخلاص في العمل والأمانة والصدق وغيرها من الأخلاقيات الحسنة كما في النقاط التالية:
(1) الأمانة.
مواطن الخيانة والإثم معروفة في دنيا الناس، وهي تبدأ في الفرد العادي وقد تكون صغيرة بكلمة فتحدث فتنة، وقد تمتد إلى أعلي الدرجات في الدولة بما يعود بالخسران على جميع الأعمال الإدارية والفنية والتجارية، وحتى تشمل كل الأعمال التي تدور فيها حركة الحياة. والأمانات في البيت والشارع والسوق والعمل الإداري والصناعي والتجاري فهي تنظم الحياة بكل مسئولياتها المادية والأدبية([1]).
يقول تعالي: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"([2])، وروي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"([3]). ولقد أوجب قانون العاملين المدنيين على الموظف العام أن يؤدي العمل المنوط به بدقة وأمانة([4]). ويجب عليه المحافظة على المعلومات والوثائق التي يطلع عليها بحكم عمله، ومن ثم يحظر على الموظف أن يفشي الأمور التي يطلع عليها بحكم وظيفته إذا كانت سرية بطبيعتها ويظل هذا الالتزام بالكتمان قائماً ولو بعد ترك العامل لخدمته([5]).
إن الوظائف العامة أعلاها وأدناها أمانات لا مغانم، وتكليف لا تشريف، وعبادة لا سيادة([6]). وأجهزة المرافق العامة تعاني من الأعطال بسبب من لا يرعون الأمانة ولن تنهض مصر إلا إذا صارت المصالح العامة أشد حرمة من المصالح الخاصة لأنها حقوق الأمة كلها، ولأن الحقوق التي تمثلها المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية والخدمية واسعة الدائرة تشمل ملايين الناس.
(2) الإخلاص والتفرغ لأعمال الوظيفة.
الإخلاص هو لب العبادات. وهو تصفية العمل من الشوائب، قال تعالي: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين..." ([7])، ووفي الحديث الشريف الذي أخرجه ابن ماجه بسنده قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امريء مسلم إخلاص العمل لله، والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم".
ولذا وجب على الموظف أن يعمل بانضباط وشعور تام بالمسئولية، وأن يخصص وقت العمل الرسمي لأداء واجبات الوظيفة، والتفرغ لأعمال الوظيفة، وإتباع الإجراءات التي تحددها اللائحة الداخلية لجهة العمل في حالة التغيب عن العمل أو التأخير عن المواعيد([8]). ولعل ما يسيء إلى موظف الدولة أن تقل درجة إخلاصه فلا يتفرغ للأعمال المنوط به تنفيذها، ويصرف بعض وقته لعمل ربحي خاص به، وينسي أنه يتقاضي أجراً على هذه الوظيفة التي ارتضاها لنفسه.
(3) الصدق.
الصدق يعني أن يتحري الموظف حقائق الأمور وواقعها بصفة مستمرة فيما يتعلق بالعمل بحيث لا يتعمد الكذب أو قلب الحقائق أو تشويها في التعامل مع الجهات التي تحكم العمل، وتحري الصدق في التعامل مع الرؤساء والزملاء والجمهور. وللقيمة العالية للصدق فقد حث عليه الإسلام، إذ يقول تعال: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"([9]).
(4) الصبر.
الصبر هو من الفضائل العظيمة، وقد ضمن الله تعالي للصابرين المدد والنصر "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون"([10])، ويجب أن يتحلي الموظف بالصبر أثناء ممارسة العمل، بحيث يتحمل مشاق العمل ولا يكون ملولاً كثير الضجر أو سريع الانفعال والتصرف. وعليه أن يتحمل ما يواجهه في محيط عمله من نقد أو إلحاح من جمهور المتعاملين معه ممن وظف لخدمتهم، أو غير ذلك مما يواجهه الموظف في العمل من ضغوط، وعيه تحمل النقد والإلحاح لكون جمهور المتعاملين صاحب حاجه.
(5) التواضع والبشاشة.
التواضع هو خفض الجناح ولين الجانب وقبول الحق والبعد عن الكبر([11]). والبشاشة تعني استقبال الموظف لجمهور المتعاملين بالكلمة الطيبة والوجه الطلق حتى ولو لم يكن بينه وبينهم قرابة أو صداقة أو معرفة، لما في ذلك السلوك الإنساني القويم من دواعي الود والرحمة والتعامل الحسن الذي يقود إلى الخير. وقد أوصي الله عز وجل عباده بحسن الخطاب في قوله تعالي: "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن"([12])، كما ورد بالسنة الشريفة" لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقي آخاك بوجه طلق".
(6) المحافظة على المال العام.
يتطلب القيام بأعمال الوظيفة العامة بكفاءة ونزاهة وأمانة المحافظة على الأموال والممتلكات العامة بما في ذلك المكاتب والأثاث والمواد المكتبية ونحو ذلك من مختلف الأدوات والمواد مما يوضع تحت تصرف الموظف وعلى مسئوليته، وعليه حسن استخدامها وعدم التفريط فيها وعدم السماح لأحد بالعبث بها أو سوء استخدامها. ومن ثم أوجب القانون على الموظف المحافظة على ممتلكات وأموال الوحدة التي يعمل بها ومراعاة صيانتها([13]).
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال "لو مات جمل ضياعاً على شط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه"، وقد كان أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما يشرفان بأنفسهما على مراقبة كل ما يمت بصلة إلى الملكية العامة، ولم يستطيعا فرض هذه المقاييس الشديدة على المسئولين عن هياكل الدولة الإسلامية وعلى جميع المسلمين إلا بفضل السيرة المثالية التي سارا عليها([14]).
ومن صور عدم المحافظة على المال العام قيام الموظفون باستخدام هواتف العمل، وأجهزة الحاسب وبرامجها، وماكينات التصوير والأوراق والأحبار والمركبات لأغراض شخصية.
(7) الإحسان.
الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، وهو لب الإيمان وروحه وكماله. والمحسن محبوب من ربه، قال تعالي: "وأحسنوا إن الله يحب المحسنين"([15])، والمحسن في صحبة الله ومعيته قال تعالي: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"([16]).
ومن الإحسان الإجادة والإتقان لكل عمل يقوم به المسلم، وكل عمل الموظف العام بحاجة إلى الإحسان بمعني مراقبة الله فيه، والقناعة التامة بأن الله يراه، الأمر الذي يمكن في حال توفره الاستغناء عن كثير من القوانين الوضعية.
(8) الترفع عما يخل بالشرف والكرامة.
يجب على الموظف العام عدم الوقوع في التصرفات التي تتعارض مع قواعد الأخلاق وتسيء إلى سمعة الموظف، وسمعة الجهة التي يعمل بها كتعاطي المخدرات والمسكرات([17]) وارتكاب الفواحش والأعمال المخلة بالآداب العامة داخل مقر العمل أو خارجه. والأعمال المخلة بالشرف والمحظورة على الموظف قد يؤدي الوقوع فيها إلى فصل مرتكبها من العمل ومن تلك الأعمال مايلى:
أ- الرشوة.
الرشوة تعني قيام الموظف بقبول أو طلب أو أخذ مقابل مادي أو غيره للقيام أو الامتناع أو الإخلال بعمل من أعمال الوظيفة، وتعني المتاجرة بالوظيفة. وقد حرم الدين الإسلامي الرشوة حيث يقول تعالي: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون"([18])، وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم"([19]).
وتعتبر الرشوة أهم تعبير عن الفساد المالي، وهى أكثر أعراض الفساد ظهوراً. ويرى كثير من الآراء أنها جوهر الفساد حيث أنها تؤدى إلى انهيار النظام العام، حيث لا يرى الراشي ولا المرتشي إلا تحقيق مصلحتهما. وتستشري الرشوة عند خطوط التماس بين القطاعين العام والخاص؛ فكلما كان لدى موظف عام سلطة توزيع منفعة أو تكلفة ما على القطاع الخاص تولدت حوافز الرشوة. والشركات الخاصة دائماً على استعداد لدفع مقابل الحصول على المنافع. وكلما كان للحكومة دور أكبر في إنتاج وبيع وشراء السلع، والخدمات كلما كان الفساد أشمل وأعم([20]).
الأمر الذي يمكن حدوثه في التعاقدات العامة، والتي تتم بين القطاعين العام والخاص، ويكون غرضها أداء خدمة أو توريد سلعة لأحد الجهات العامة، مثل طباعة الكتب الجامعية والمدرسية، أو توريد أدوات طباعة للمطابع العامة، وبناء وترميم المسارح ودور السينما، وإقامة حفلات فنية في إحدى المناسبات القومية. الأمر الذي يؤدى إلى منح الصفقات لشركات ليست بالضرورة جيدة في الإنتاج, بل قادرة على شراء ذمم المسئولين .
ومن ثم فقد حظرت القوانين على الموظف العام قبول هدايا أو مكافأة أو عمولة أو قرض بمناسبة قيامة بواجبات وظيفته([21]). ولقد أدي عظم هذه الجريمة إلى وضع عقوبات مشددة على مرتكبها وهي عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة، وقد تصل إلى عقوبة الإعدام في حال ما إذا كان الغرض من الرشوة هو ارتكاب جريمة عقوبتها أشد من عقوبة الرشوة([22]).
ب- الواسطة.
الواسطة هى التدخل لصالح فرد ما أو جماعة معينة دون الالتزام بأصول العمل والكفاءة اللازمة. مثل تعيين شخص في عمل معين لأسباب تتعلق بالقرابة أو غيرها من الأسباب رغم كونه غير مستحق، وذلك لوجود من بين المتقدمين من هو أفضل منه([23])؛ ويمكن حدوث ذلك في كافة المسابقات المعلن عنها لشغل الوظائف.
والمقصود بالواسطة هنا الواسطة التي تؤدي إلى مخالفة الأنظمة وليست الشفاعة الحسنة التي تعني السعي في قضاء حاجات الناس ومصالحهم لدي الآخر، بينما لا يجيز ممنوعاً أو يمنع مسموحاً أو العبث بالأنظمة من أجل تسهيل أمر شخصي بذاته، فالشفاعة الحسنة أثني المولي عز وجل على فاعلها بقوله تعالي: "من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا"([24]).
ج- الاختلاس.
الاختلاس من الجرائم المخلة بالشرف ولا تحدث إلا من ذوي الأخلاق غير السوية ويكون أشد سوءاً وضرراً عندما يقع من موظف عام مُنح ثقة لم يكن على مستواها وحمل أمانة فخانها. ويعرف في الشريعة الإسلامية بالغلو كما ورد في قوله تعالي: "وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة"([25]).
الاختلاس هو استيلاء الموظف العام أو المسئول، على أموال الدولة لنفسه دون وجه حق. ويختلف الاختلاس عن الرشوة في كونه في حاجة لطرف واحد ( الموظف أو المسئول ) حتى تتم عملية الاختلاس. على خلاف الرشوة التي لا تتم إلا بوجود طرفين، وهما الموظف أو المسئول ( المرتشي ) وطالب المصلحة (الراشي) إلى جانب الاستيلاء على المال كعنصر مشترك. وإن كان مالاً عاماً في الاختلاس، إلا أنه مال الراشي المقدم على سبيل الرشوة في حالة الفساد عن طريق الرشوة. وقد أوضحت دراسة ميدانية أجريت في أوغندا، أن 13% من مخصصات الإنفاق الحكومي على قطاع التربية فيها لا تصل إلى أهدفها، وتطالها أيدي كبار المسئولين في الدولة([26]).
د- التزوير.
يعد التزوير من الأفعال التي ينبغي على الموظف العام أن يترفع عنها لما تؤدي إليه من تغيير الحقائق بالغش والتدليس والانحراف واستغلال الوظيفة.
هـ-استغلال السلطة.
من الواجبات الأخلاقية التي يجب أن يتحلي بها الموظف عد استغلال سلطته الوظيفية سواء كان مشرفاً أو قيادياً أو مختصا أو مستشاراً أو تنفيذياً أو غير ذلك، لأن استغلال السلطة يؤدي إلى الإضرار بالمصلحة العامة الأمر الذي يطال مصالح الناس بالإساءة وهذا أمر لا يقره الشرع ولا يتفق مع الأنظمة وغير مقبول من قبل المجتمع لأنه سلوك مشين.
([1]) د/ سيد أحمد فرج: الغزالي في كتاب خلق المسلم، مجلة الأزهر، عدد مارس 2010الجزء 3 السنة 83، ص 365.
([4]) المادة 76 فقرة 1 من القانون 47 لسنة 1978 في مصر .
([5]) المادة 77 فقرة 8 من القانون 47 لسنة 1978 في مصر .
([6]) د/ سيد أحمد فرج: الغزالي في كتاب خلق المسلم، مرجع سابق، ص 366 .
([8]) المادة 76 فقرة 5 من القانون 47 لسنة 1978 في مصر .
([11]) د / عبد العزيز انميرات: أثر حُسن الخلق في حياة الدعوة الإسلامية، مجلة منار الإسلام، العدد 379، السنة 32، يوليو2006 ، ص 30.
([13]) المادة 76 فقرة 6 من القانون 47 لسنة 1978 في مصر .
([14]) د/ الحبيب الجنحاني: المجتمع العربي الإسلامي، الحياة الاقتصادية والاجتماعية، سلسلة عالم المعرفة، العدد 319، سبتمبر 2005، ص 23.
([17]) المادة 77 فقرة 13 من القانون 47 لسنة 1978 في مصر .
([20] ) كيمبرلى آن اليوت : الفساد والاقتصاد العالمي، ترجمة محمد جمال إمام , مجلة العربي العدد 539 أكتوبر 2003 ، ص 190 .
([21]) المادة 77 فقرة 14 من القانون 47 لسنة 1978 في مصر .
([22]) تناول المشرع المصري عقوبات جريمة الرشوة في المواد 103، 103 مكررا، و104، 104 مكررا في حالتها البسيطة، والمواد 104، 108 من قانون العقوبات.
([23] ) ما هو الفساد؟ 20-10-2007 www.aman-palestine.org/Arabic/PPAC.htm
([26] ) بشير مصطيفى : الفساد الاقتصادي وأثاره المدمرة ، مجلة العربي الكويتية العدد رقم 565 الصادر في ديسمبر 2005 ، ص 25 .
ساحة النقاش