التكافل الاجتماعي في الإسلام
د. شعبان عبده أبو العز المحلاوي
لا يخلو مجتمع من العاجزين عن العمل والجهاد والكسب من كدّ اليد والاعتماد على النفس؛ من أمثال الأرامل واليتامى والشيوخ وأصحاب العاهات، وكذلك الذين لا يكفيهم دخلهم من العمل، و القادرين الذين لم يتيسر حصولهم على عمل، وهؤلاء جميعاً لم يتركهم الإسلام هملاً وعرضة لآفة الفقر والحرمان تسحقهم وتلجئهم مكرهين إلى ذل السؤال والتكفف، بل عمل على كفالتهم من قِبَلِ المجتمع المسلم الذي ينتمون إليه ويُحسَبون عليه.
والتكافل الاجتماعي هو التزام الأفراد بعضهم نحو بعض، وهو لا يقتصر في الإسلام على مجرد التعاطف من شعور الحب والبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يشمل أيضاً التعاطف المادي بالتزام كل فرد من أفراد المجتمع قادر بعون أخيه المحتاج، ويتمثل فيما يسميه رجال الفقه الإسلامي بحق القرابة([1])، وحق الماعون([2])، والتزام الضيافة([3])، وغيرها من الحقوق([4]).
والأخذ بالتكافل الاجتماعي في الإسلام هو من قبيل تطبيق النص، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة بقوله تعالي: " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الزكاة.." ([5]). كما أن النص علي كل من الإنفاق والزكاة على حده في آية واحدة يدل على أن كليهما يختلف عن الآخر.
وقد أرسى الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه دعائم التكافل الاجتماعي؛ حيث أن الإسلام قد وضع أسس التكافل الاجتماعي في أبعاد عديدة، ويعد ذلك من أهم عوامل مكافحة الفقر إضافة إلى كونه عامل استقرار اجتماعي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع" وقال أيضاً: "ليس بمؤمن من بات شبعاناً وجاره جائع".
ومن ثم فإن الإسلام وضع صوراً متعددة للتكافل الاجتماعي ومنها تكافل بين الفرد وذاته، وتكافل بين الفرد وأقاربه وذوى القربى وتكافل بين الفرد والآخرين من فقراء المجتمع، وتكافل بين الفرد وأيتام مجتمعة، وأخيراً تكافل بين الفرد وجيرانه. ويمكن تناول هذه الصور وفق التقسيم التالي :
أولاً : كفالة الفرد وذاته .
الفرد مكلف أن ينهي نفسه عن شهواتها، وأن يزكيها ويطهرها، وأن يسلك بها طريق الصلاح وألا يلقي بها إلي التهلكة : "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها"([6])، وهو مكلف في الوقت ذاته أن يمنع نفسه في الحدود التي لا تفسد فطرتها : "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين"([7])، كما أنه مكلف بالعمل ليكف نفسه أولاً ثم الآخرين من الأقارب أو الجيران والفقراء .
ثانياً : كفالة الأرحام والأقارب .
كفالة الأرحام والأقارب، هو تكافل بين الفرد وأسرته القريبة، يتمثل في حق الوالدين والقيام بواجب برهما، ورعاية المولود ورضاعته والإنفاق عليه، وكذلك الأسس التي تنشأ عليها العلاقة الزوجية، من المودة والرحمة، والسكن فكل منهما يسكن للآخر، وكذلك ذلك التوارث المادي للثروة والوصية، والعدل بين الأبناء وحسن تربيتهم .
قرن الله تعالى حق القربى في الإحسان بحقه سبحانه وتعالى: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى"([8]). وأمر الله تعالى بإعطائهم ما يحتاجون فقال: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى"([9]). وجعل لهم حقاً فقال تعالى: " وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ"([10]). وقال سبحانه: "فَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ"([11]). وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه".
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم صلة الأرحام ومواساتهم سبباً في سعة الرزق؛ ففي الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يُبسَط له في رزقه، ويُنسَأ له في أثره فليصل رحمه". وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرحم معلّقة بالعرش تقول، من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله". ومن أهم مظاهر صلة الأرحام كفالتهم وإعانتهم مادياً، وعدم الالتزام بذلك يعد قطيعة لهم.
يتبين مما سبق أن الأقارب والأرحام ملزمون بكفالة قريبهم الفقير، وإعانته من أموالهم حقاً وصلة. فصلة الرحم (عاطفياً ومالياً وغير ذلك) تؤثر مباشرة في القضاء على الفقر وتصنع البنية التحتية الاجتماعية للقضاء على الفقر أيضاً، إذ بصلة الرحم تتقارب القلوب وتتكاتف الأيدي فيكون المجموع – بالتعاون- أقدر على مكافحة الفقر، وعلى النهوض الاقتصادي؛ ولذا نجد أن كثيراً من الشركات العائلية، نجحت مادامت متمسكة بصلة الرحم، وتهاوت عندما دب الخلاف وقطعت الرحم.
ثالثاً : كفالة الآخرين.
كفالة الآخرين : هذه الكفالة العامة من قِبَلِ أفراد المجتمع للفقراء، والمحتاجين تتم عن طريق:
(1) الزكاة:
لقد حارب الإسلام الفقر بالتشريع المتين الذي يشتمل على فريضة في الإنفاق، وعلى إيقاظ في الضمير؛ أما الفريضة فهي الزكاة التي جعلها الإسلام ركناً من أركانه، ودعامة من دعائمه، وكل مسلم لا يتم إسلامه إلا إذا أدى هذه الفريضة طيبة بها نفسه. والزكاة في الإسلام هي أول نظام عرفته البشرية لتحقيق الرعاية للمحتاجين والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع؛ حيث يعاد توزيع جزء من ثروات الأغنياء على الطبقات الفقيرة والمحتاجين. كما أنها طهرة لأموال المزكيَ وطهرة لنفسه من الأنانية والطمع والحرص وعدم المبالاة بمعاناة الغير. وهى كذلك طهرة لنفس الفقير أو المحتاج من الغيرة والحسد والكراهية لأصحاب الثروات . وتؤدى الزكاة إلى زيادة تماسك المجتمع وتكافل أفراده والقضاء على الفقر، وما يرتبط به من مشاكل اجتماعية واقتصادية وأخلاقية إذا أحُسن استغلال أموال الزكاة وصرفها لمستحقيها.
والزكاة ركن من أركان الإسلام يمثل الحد الأدنى المحدد الثابت المفروض في أموال أغنياء المجتمع ليرد على فقرائهم. وهي الركن الثالث من أركان الإسلام. أمر الله تعالى بها وذكرها في كتابه الكريم في اثنين وثمانين آية؛ مما يدل على أهميتها. ولقد واجهت فريضة الزكاة تحدياً كبيراً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أن الكثيرون امتنعوا عن دفع الزكاة. ولكن أجتمع الصحابة رضي الله عنهم على محاربة مانعي الزكاة في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه حتى اعتبروا أن من يمتنع عن دفعها خارجاً عن الإسلام بما أنه لا يقر بركن من أركانه. ومن ثم يتضح أن الزكاة حقاً مفروضاً لا تهاون فيه([12]).
ولقد ظهرت اليوم صنوف المال عما كانت عليه، ومن ثم ظهرت صنوف جديدة من المال لم تكن معروفة في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، بل زادت أهميتها وأصبحت هي الغالبة، ومن ثم فإن صنوف المال التي تجب فيها الزكاة يمكن إجمالها فيما يلي:
- النقود بجميع أنواعها وتشمل الذهب والفضة والأوراق المالية. ولكي تدفع الزكاة، يجب أن يمر عام كامل على ملكية النصاب .
- عروض التجارة و الصناعة.
- الزروع والثمار .
- الثروة الحيوانية - الإبل والبقر والغنم - وهي التي تقتنى بغرض النماء والتكاثر، وليست المتخذه للاستغلال أو المستخدمة في أي من الأعمال المختلفة. ويجب أن تكون النعم سائمة أي آكلة من عشب عام، وألا تكون معلوفة. أما النعم المعلوفة فتفرض بطريقة أخرى من صافي إيرادها.
- المواشي الغير سائمة المستغلة لبيع إنتاجها أو لحمها .
- المعادن والركائز.
- الأسهم والسندات سواء المتخذة للتجارة أو للاستثمار([13]).
- إلى جانب زكاة الفطر.
تلعب الزكاة دوراً حيويا في إنعاش الاقتصاد، وتحقيق التنمية، ومحاربة الفقر؛ حيث أنها تعتبر بمثابة مؤسسة الضمان الاجتماعي في الإسلام لمواجهة الفقر([14]). حيث تلعب الزكاة دوراً هاماً في الاقتصاد الإسلامي، فهي تفرض على الثروة الصافية سواء أكانت مستعملة أم معطلة وسواء أكان استعمالها في الأعمال والمشاريع الإنتاجية كالمصانع أم في أدوات ومواد الرفاه كالحلي، فالزكاة بهذه الصفات تتدخل تدخلاً أساسياً في الجوانب التالية :
- من أهم الأهداف التي تسعى إليها الزكاة هي منع اكتناز الأموال، وبقائها كموارد ساكنة لا تقدم منفعة حقيقية لاقتصاد المجتمع. و يتضح هذا المبدأ عند معرفة أن الإسلام لا يشجع إبقاء قطعة أرض لمدة أكثر من ثلاثة سنين دون إعمارها. وهذا المبدأ يعد أكثر أهمية بالنسبة للأموال السائلة، والتي لا يجب أن تبقى مكتنزة وغير مستخدمة، ويقول تعالي: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم"([15])، أي أنه مطالب باستثمار ماله لصالح المجتمع([16]).
وهذا المفهوم يتوافق مع مبادئ الاقتصاد العالمي الحالي؛ والذي يؤكد أن اكتناز الأموال من أهم العوامل التي تعوق التنمية الاقتصادية للدولة، لأن هذه الموارد الراكدة لا تدخل في عجلة الاقتصاد، وبالتالي تقلل من حجم الموارد المحلية. ومن ثم، فإن ذلك يؤدي إلى مستوى تنموي أقل بكثير مما يمكن أن يتحقق لو أن كل الموارد موظفة ومستخدمة في إنعاش الاقتصاد([17]).
- إن مفهوم الزكاة يشجع ضمنيا استثمار الأموال المكتنزة لأن أموال الزكاة إذا لم تستثمر وتنمى سوف تتلاشى مع مرور السنين بسبب دفع الزكاة كل عام. وبالتالي، فإنه من الأساسيات أن تستثمر الأموال لكي تنمى وتدفع الزكاة من أرباح هذا الاستثمار وليس من أصل رأس المال([18]).
فالذي يملك أي ثروة تفوق النصاب يعرض نفسه لفقدان ربع ثروته في مدة لا تزيد عن اثنتي عشرة سنة، ولذلك نجد الرسول صلي الله عليه وسلم يحض على استثمار مال اليتيم ويبرر ذلك بقوله :"حتى لا تأكله الصدقة" . ولم يعرف العالم بأسره نظاماً اقتصادياً مثل النظام الاقتصادي الإسلامي في حله لمشكلة تراكم الثروة المعطلة دون أن تستثمر في تحسين الأحوال المعاشية للمجتمع، وتشكل الزكاة باعثاً حثيثاً على استثمار الثروة لأنها تحد من الميل لاكتنازها([19]).
على صعيد آخر، فإن أموال الزكاة لا يجب أن تستخدم فقط لسد احتياجات الفقراء الاستهلاكية مثل الطعام والملبس، إنما يجب أن تستخدم في خلق أدوات للاستثمار لهؤلاء الفقراء حتى يستطيعوا بدورهم أن يمتلكوا أدوات الإنتاج التي تضمن لهم دخل ثابت، وبالتالي سد احتياجاتهم بصفة مستمرة. ذلك يعني أن أموال الزكاة يجب أن يستفاد بها في أن تحول الفقير إلى عضو عامل، ومنتج في المجتمع كل حسب مهاراته وقدراته، لكي يتمكن من التخلص من حالة الفقر والاعتماد على مساعدة الآخرين بصورة تضمن استقلاله الاقتصادي.
ومن ثم، يجب استخدام أموال الزكاة في بناء المصانع، والمؤسسات التجارية وخلق أنشطة مدرة للدخل لتحول الفقراء من متلقين للزكاة إلى دافعي الزكاة. وتلك الوسيلة في استخدام أموال الزكاة تعد من أكفأ الوسائل التي تحول المجتمع بأكمله إلى مجتمع منتج به تنمية بشرية، واقتصادية وخالي من البطالة والفقر.
- العامل الاقتصادي الثالث المرتبط بالزكاة هو عامل الإنفاق. طبقا للنظريات الاقتصادية المعاصرة، الاستثمار وحده ليس كافياً لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية إن لم يتواجد السوق الذي يستوعب شراء المنتجات الصادرة عن هذه الاستثمارات. فهناك علاقة مترابطة بين الاستثمار والإنفاق لأن تقليل الإنفاق يؤثر على السوق ويقلل من قدراته على استيعاب المنتجات مما يجعل الكثيرون غير راغبين في أن يجازفوا بأموالهم في استثمارات جديدة .
ولو نظرنا إلى القرآن الكريم، لوجدنا كلمة إنفاق مذكورة خمسة وسبعين مرة في نطاق تشجيع المسلمين على صرف أموالهم على شكل زكاة وصدقة. وذلك ليس فقط لتطهير النفس ومساعدة الفقراء والمساكين، ولكن أيضا لأن مبدأ الإنفاق يساعد على تداول الأموال مما يؤدي إلى زيادة الطلب في الأسواق، وإنعاش الاقتصاد. ويتضح ذلك أيضا من تشجيع الإسلام على الإنفاق ليس فقط على الفقراء، وإنما أيضا على أهل البيت مما يعد في حد ذاته صدقة. مما سبق، يتضح أن الأموال لا يجب أن تكنز وأن أموال الزكاة يجب أن تستخدم في مصارف استثمارية واستهلاكية في آن واحد لكي تحقق دورها الفعلي في إنعاش الاقتصاد.
- أثر الزكاة في توزيع الثروة والدخل . تعمل الزكاة على الأمد البعيد على إعادة توزيع الثروة، وبالتالي إعادة توزيع الدخل أيضاً في اتجاه المساواة والعدالة ، فالزكاة تؤخذ من الغني وتعطي للفقير، وتؤخذ من الغني طالما يمتلك ما يزيد عن النصاب, وتعطي للفقير سواء كانت في شكل نقود أو سلع استهلاكية، أو سلع إنتاجية فإن ملكية كل ذلك تنتقل إلي الفقير، مما يرتب زيادة في دخل الفقير وإنقاصا في دخل الغني .
(2) الحقوق المالية الواجبة مثل:
أ – الكفارات: العقوبات الدنيوية المكفّرة لبعض الذنوب مثل:
* كفارة اليمين: قال تعالى : " فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ"([20]).
* كفارة الجماع في نهار رمضان . وهو ما يبطل الصيام ويوجب القضاء والكفارة، وقد بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الجماعة عن الرجل الذي وقع على امرأته في نهار رمضان، فقال له: "هل تجد ما تعتق رقبة؟ هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟.
* كفارة الظهار. الظهار هو تشبيه الرجل زوجته في التحريم بإحدى المحرمات على التأييد بالنسب أو المصاهرة أو الرضاع([21]). كأن يقول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، وقد بيّن القرآن وكذا السُّنَّة كفارة الظهار؛ ففي القرآن وردت الآيات: "والذين يظاهرون من نساءهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذالكم توعظون به، والله بما تعملون خبير ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ..." ([22]). وفي السنة أخرج الترمذي وحسنه أبو داود (وهو حديث صحيح) من حديث مسلمة بن صخر البياضي ما يبين كفارة الظهار بما يماثل كفارة الجماع في رمضان.
*فدية ارتكاب المعذور لمحظور من محظورات الإحرام.
قال تعالى: " فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك"([23]) . وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما تفصيل ذلك في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي آذى رأسه الهوام: "احلق ثم اذبح شاة نسكاً، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين" .
ب - فدية الصيام.
قال تعالى: "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ"([24]). وقد بيّن ابن عباس المقصود منها كما في صحيح البخاري، وكما روى عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ: "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ". قال ابن عباس، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوماً فليطعما عن كل يوم مسكيناً. ومن الفقهاء من يرى أن تفدي المرأة الحامل والمرضع التي تفطر خوفاً على نفسيهما أو أولادهما.
ج - النذور.
يقول تعالى: "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ"([25]). ودائماً ما يكون النذر لعمل خير، ومن هذه الأعمال إطعام الفقراء أو التبرع لصالح الجمعيات الخيرية، أو أي من الأمور التي تعود بالنفع على الفقراء.
(3) الأطعمة والذبائح، ومن ذلك.
- الهدي. التي تذبح ضمن مناسك الحج، ويكون للفقراء منها نصيب قال تعالى: "فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ"([26]).
- الأضحية. الأضحية والضحية : اسم لما يذبح من الإبل والبقر والغنم يوم النحر وأيام التشريق، تقرباً إلى الله تعالي. وقد شرعت الأضحية في القرآن الكريم، والسنة النبوية، كما أجمع عليها المسلمون. فقال تعالي: " إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر.."([27])، وقوله تعالي: " والبدن جعلناها لكم من شعائر الله فيها خير"([28]). وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن واقد في آخر الحديث: ".... فكلوا وادخروا وتصدقوا" .
ويأكل المضحي من أضحيته ويهدي الأقارب ويتصدق منها على الفقراء والمحتاجين، وقيل أن الأفضل أن يأكل المضحي الثلث، ويتصدق بالثلث، ويدخر الثلث. وقال أبو حامد الغزالي, يأكل الثلث، ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث للأغنياء ولو تصدق بالثلثين كان أحب([29]).
- العقيقة. التي تذبح عن المولود في اليوم السابع: شاتان للغلام وشاة للجارية، ويكون للفقراء فيها نصيب، بل قد ورد في الحديث الحسن الذي أخرجه أحمد في مسنده والبيهقي في السنن الكبرى من حديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة: "احلقي شعره وتصدقي بوزنه من الورق على الأوقاص أو على المساكين".
(4) الصدقات الاختيارية.
يقصد بها نافلة الواجبات المالية التي تُترك لإيمان الإنسان ونفسيته الخيِّرة الكريمة بأن يعطي دون طلب؛ وينفق دون سؤال وإنما يؤمن بالخَلَف، ويبتغي مزيد الأجر والمثوبة. قال تعالى: "وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً "([30]). وقال أيضاً: "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ"([31]). ويكفي أن نختار من أحاديث الحث على الصدقات ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تصدّق بعِدْل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوَّه أول ما يولد حتى يكون مثل الجبل".
وقد بين الرسول محمد صلي الله عليه وسلم حقيقة الأمر فيقول، وفي صورة سؤال مثير للصحابة: " أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟". وبطبيعة الحال فكل إنسان يحب ماله هو عن مال أي مخلوق آخر حتى ولو كان ولده، ولهذا قالوا " كلنا يحب ماله أكثر من مال وارثه، قال فإن مالك ما أنفقت ومال وارثك ما أبقيت". يوضح الحديث أن ليس للمرء عند الله إلا ما قدم من مال طيب ابتغاء وجه الله تعالي، سواء في صورة زكاة مفروضة، أو صدقة تطوع، أو معروف أو إحسان ونحوه([32]). ومن الصدقات الاختيارية: الصدقة الجارية، الوقف الخيري.
أ – الصدقة الجارية.
لقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة الجارية كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ".
ب – الوقف الخيري.
الوقف لغة هو الحبس والمنع، أما في اصطلاح الفقهاء فهو، حبس العين والتصدق بمنفعتها على جهة من جهات البر في الحال أو المآل([33]). وينقسم الوقف باعتبار الموقوف عليه إلى نوعين:
وقف خيري: وهو ما جُعل ابتداء على جهة من جهات البر ولو لمدة معينة يكون بعدها على شخص أو أشخاص معينين. فإذا وقف شخص بعض عقاراته لينفق منها على الفقراء والمساكين أو على مسجد أو مدرسة أو مستشفي مؤبداً كان الوقف خيرياً، وكذلك يكون الوقف خيرياً إذا كان وقفه على جهة البر محدداً بمدة معينة ثم بعدها على شخص أو أشخاص معينين([34]).
وقف أهلي: وهو ما جُعل ابتداءً على شخص أو أشخاص معينين، ثم من بعدهم على جهة من جهات البر.
وإذا كان القرآن الكريم لم يعرض للوقف بنحو خاص فإن السنة النبوية المطهرة قد ورد فيها ما يفيد مشروعيته، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أتي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني ؟ فقال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها"، فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف .. ([35]).
وكان هذا أول وقف في الإسلام وبعد ذلك تتابعت أوقاف الصحابة رضوان الله عليهم حتى قال جابر بن عبد الله : " ما أعلم أحداً كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس من ماله صدقة مؤبدة لا تشترى أبداً ولا توهب ولا تورث" .
ونظام الوقف في الإسلام يمثل معني عظيم من معاني البر التي أنبتها الإسلام في أرضه وغذاها بتعاليمه فنمت وأينعت وأتت أكلها كل حين بإذن ربها، وإن هذا المعني ليتمثل في غرس روح المودة والتعاطف والتكافل والإيثار بين المسلمين جميعا. واستجاب المسلمون لهذا الترغيب فأصبحت الصدقات الجارية من الكثرة والضخامة ما يجعلها مفخرة وميزة للنظام الإسلامي؛ إذ تتبع المسلمون مكامن الحاجات الاجتماعية الظاهرة والخفية فأرصدوا لها الأوقاف المختلفة التي شملت كافة احتياجات الإنسان والحيوان.
وفي مصر فقد فاقت الأوقاف فيها كل تصور فكانت جملة ما وقف على المساجد فقط في عهد الناصر محمد بن قلاوون 130 ألف فدان، وكانت جملة الأوقاف في عهد محمد على باشا قد بلغت 600 ألف فدان، بينما كانت كل الأراضي الزراعية حينذاك لا تتجاوز مليوني فدان. وكان متوسط ما يوقف سنوياً حوالي19 ألف فدان، فلما زادت الأوقاف زيادة كبيرة جعلت لها الحكومة ديواناً يقوم على أمرها ورعاية شئونها، وقد تحول هذا الديوان إلى وزارة الأوقاف في 20 نوفمبر 1913م .
هذا وإنه لمما يثير الإعجاب ويبعث على الفخار أن يري العالم كيف يعالج الإسلام مشكلة الفقر من خلال قيام آلاف المسلمين في كل بقاع الأرض وقد رصدوا الكثير من أموالهم في سبيل الله، وأوقفوها على مختلف نواحي البر من تعمير للمساجد وإنشاء للمدارس، ورعاية للمرضي والمسنين، وعناية بالفقراء والمساكين، إلى غير ذلك من كل أمر فيه بر ورحمة. ومصدر الفخر هو: هل يوجد في أي نظام آخر من يقدم أمواله إلي المجتمع عن طيب نفس دون أن تؤخذ منه عنوة وقهرا ؟ .
رابعاً: كفالة اليتيم.
اليتيم هو من فقد والده قبل الاحتلام لقول النبي صلي الله عليه وسلم : " لا يتم بعد احتلام" رواه أبو داود. وقد حث الإسلام على كفالة اليتيم، والذي فقد من كلف برعايته والاهتمام بشئونه ومنحه الحب والحنان دون انتظار مقابل، ولكن بفطرة أودعها الله في قلوب الآباء ورحمة بالأبناء.
ورغب الإسلام في كفالة اليتيم ورعايته والقيام بأمره، فيقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بإصبعيه السبابة والوسطي"، رواه البخاري ومسلم. ومدح النبي صلي الله عليه وسلم نساء قريش لأنهن أحناء على اليتيم في صغره، ويبين رسول الله صلي الله عليه وسلم أهمية الحنان الذي يمنح لليتيم فيقول: " من مسح على رأس يتيم ، لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنة "، رواه أحمد بإسناد حسن .
وجاء الإسلام محرماً أكل أموال الناس بالباطل، وخص بالتحريم أكل مال اليتيم، فجاء التحذير في قوله تعالي: " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيرا"([36]).
وكفالة اليتيم لا تكون بمجرد توزيع بعض الأموال على الأيتام أو دور رعاية الأيتام كما يحدث اليوم، حيث أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يربط العطف على اليتيم بالفقر، نظراً لافتقاد اليتيم لما هو أهم من المال وهو الأب والحنان والمودة والرحمة، ومن ثم تكون كفالة اليتيم بتربيته ورعاية أموره في كل شئون حياته، فالرعاية تشمل الرعاية الصحية والنفسية والرياضية والاجتماعية ومراعاة تعليمه، وسلوكه واجتماعياته، مع الآخرين، وتوجيهه توجيه الآباء لأبنائهم، وخلاصة القول أوجب الإسلام على المسلمين رعاية الأيتام كما يرعون أبنائهم .
خامساً: حق الجوار.
حق الجار أو الإحسان إلى الجار أو رعاية الجار أمر له أهميته في الشريعة الإسلامية، فالجار أسرع الناس إلى جاره عند الحاجة وأستر عليه على ما يكون منه، وحق الجار يكون بزيارته إذا مرض، والسؤال عنه إذا غاب، وتقديم المعونة إليه إذا احتاج، والمبادرة إلى نجدته إذا طلب النجدة، ومواساته إذا نزل به مصاب وتلبية دعوته ومشاركته أفراحه .
جاءت آية الأمر بالإحسان إلى الأقارب، والأرحام، في قول الله تعالى: "وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم "([37])، لتؤكد حق الجار في الإحسان إليه. كما ورد في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه"، أخرجه الشيخان.
وعندما يرزق الإنسان بجار صالح فهذا مصدر سعادة له، ويؤكد النبي صلي الله عليه وسلم على حق الجار في أحاديث عده فيقول : " من سعادة المرء الجار الصالح والمركب الهنيء والمسكن الواسع". ويقول أيضاً : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره " ، ويقول أيضاً: " ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه"، حديث حسن .
([1] ) حق القرابة هو التزام المسلم الغني بالإنفاق على قرابته الوثيقة من الفقراء كأصوله وفروعه حيث يعتبرون جزءاً منه ويلتزم شرعاً بهم , ومن ثم فإن إنفاق الفرد على أولاده أو أحفاده أو والديه أو إخوته الفقراء لا يعفيه من أداء الزكاة, حيث أنه يعتبر كأنه دفعها لنفسه .
([2] ) حق الماعون يراد به إعارة الأشياء الصغيرة التي يحتاجها الجيران بعضهم من بعض فمانعها مستحق للويل كالساهي عن الصلاة لقوله تعالي " فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون " (الماعون 4- 7 ).
([3] ) التزام الضيافة في الإسلام غايته ثلاثة أيام لقول الرسول صلي الله عليه وسلم : "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم ضيفه" .
([4] ) د / محمد شوقي الفنجري : الإسلام والتوازن الاقتصادي بين الأفراد والدول، الطبعة الثانية، سلسلة قضايا إسلامية، تصدر عن وزارة الأوقاف، العدد 148 , يونيو 2007، ص 61.
([12] ) د / محمد شوقي الفنجري: الزكاة بلغة العصر، مجلة منبر الإسلام, السنة 67, العدد3 مارس 2008, ص 80.
([13] ) د / محمد شوقي الفنجري: الزكاة بلغة العصر, مرجع سابق, ص 82.
([14] ) د / محمد شوقي الفنجري: الزكاة بلغة العصر، مرجع سابق، ص 80.
ساحة النقاش