العمل ودوره في مكافحة الفقر من المنظور الإسلامي

د. شعبان عبده أبو العز المحلاوي

    للقيام بنشاط إنتاجي معين يلزم توافر مجموعة من العناصر، وقد ميز الاقتصاديون بين أربعة عناصر وهي الأرض والعمل ورأس المال، وأخيراً التنظيم. وذهب الاقتصاد الرأسمالي إلي أن كل عنصر من هذه العناصر يتم تحديد قيمته حسب سعر السوق - على اعتبار امتلاك الأفراد لهذه العناصر – أما الاقتصاد الاشتراكي فقد ذهب إلي أن العمل هو عنصر الإنتاج الأساسي، وعائده الأجر أو الراتب، وهو ما تحدده السلطات المختصة. أما بقية عناصر الإنتاج كالأرض ورأس المال والمنظم فتظل موجودة وإنما ينتقل عائدها للدولة([1]).

   والعمل هو الجهد البشري سواء كان عضلياً أو ذهنياً الذي يبذل في سبيل إنتاج سلعة معينة، فكل من الطب والمحاماة والبناء والتصنيع، ما هي إلا أنواع متعددة من الأعمال تنتج أنواعاً مختلفة من السلع والخدمات([2]). وعُرف أيضاً بأنه الجهد الذي يبذله الإنسان لخلق منفعة سواء كان هذا الجهد يدوياً كعمل الفلاح أو الصانع، أو عقلياً كعمل المدرس أو الطبيب أو المحامي. كما يشمل عمل المنظم وهو الذي يوجه العملية الإنتاجية ويوائم بين عناصر الإنتاج المختلفة بما يحقق سير الإنتاج ومضاعفته([3])

    يعتبر الخبراء أن العمل أساس الاقتصاد الإسلامي؛ فهو المصدر الرئيس للكسب الحلال. والعمل مجهود شرعي يقوم به الإنسان لتحقيق عمارة الأرض التي استخلف فيها، والاستفادة مما سخره الله فيها لينفع نفسه، وبني جنسه في تحقيق حاجاته وإشباعها([4]).

     والعمل قيمة عليا من قيم الإسلام ، فهو أس الدين وركيزة الإيمان وقوام الحياة الطيبة؛ لذلك أحاطه الإسلام بضمانات تكفل تحقيق غاياته، في الحفاظ علي حياة الفرد والجماعة؛ بسبب ما نشاهده من تفشي الفقر علي المستوي المحلي والمستوي الدولي، فأغلبية السكان داخل المجتمعات العربية تعاني الفقر والجوع والحاجة، وفي حاجة ماسة لتأمين ضروريات الحياة المعيشية من الطعام والشراب والملبس والمسكن والعلاج والتعليم. والعديد من أفراد المجتمعات الإسلامية تعيش تحت خط الفقر.

     وأحكام الإسلام واضحة في ضرورة مكافحة الفقر، وضمان احتياجات الإنسان والتحذير منه إلي حد وصف الرسول صلي الله عليه وسلم بقوله: " كاد الفقر أن يكون كفراً "؛ نتيجة الآثار المدمرة الناشئة عنه من التخلف والقهر والعوز والفاقة، وتجلياتها واضحة ملموسة في الواقع المعيشي للمجتمعات العربية والإسلامية؛ ومن مظاهر الفقر البطالة والتبطل، بكل ما يترتب عليه من حرمان وتسول وفاقة وانحراف وإهدار للطاقات وضياع للموارد. وهي مشكلة قائمة علي المستوي المحلي داخل كل دولة إسلامية، وعلي مستوي العالم الإسلامي؛ ونتج عن ذلك تخلف وتعثر في عمليات التنمية في دول العالم العربي والإسلامي . وقد نظم الإسلام عنصر العمل وحث عليه وفق القواعد التالية:

أولاً : الطبيعة التعبدية للعمل في الإسلام .

      أعلي الإسلام من قيمة العمل وأهميته، لدرجة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها صوم ولا صلاة، ولكن يكفرها السعي على الرزق والمعيشة". والعمل كما ذكرنا أعلاه مجهود شرعي يقوم به الإنسان لتحقيق عمارة الأرض التي استُخْلِفَ فيها، والاستفادة مما سخره الله فيها لينفع نفسه، وبني جنسه في تحقيق حاجاته وإشباعها([5]).

   وثمة حقائق أساسية عن العمل كواجب ديني ومعاشي تتجلي في أن هناك مسلمات تمثل ضمانات للعمل المطلوب في النظر الإسلامي، وتتمثل في النقاط التالية:

(1)  عده الإسلام أفضل أنواع الكسب : يعتبر الإسلام العمل فضيلة والعطالة رذيلة([6])، ففي الحديث الشريف "ما أكل أحد قط طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده ". سئل الرسول صلي الله عليه وسلم أي الكسب أفضل قال: "عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور"، والعمل يشمل كل فعالية اقتصادية مشروعة في مقابل أجر سواء كان هذا العمل بدنياً كان أم ذهنياً ([7]).

(2) السعي في طلب الرزق يعد جهاداً في سبيل الله : وفي ذلك روي أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يجلس وسط أصحابه، فمر عليهم شاب يسعي همة ونشاطا فقال الصحابة: " لو كان هذا في سبيل الله ؟ فقال النبي: إن كان خرج يسعي على أولاد صغار فهو في سبيل الله، وإن كان يسعي لأبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج على نفسه يعفها فهو في سبيل الله "([8]). كما أن الانقطاع عن العمل والدنيا انصرافاً إلي العبادة رهبانية يأباها الإسلام ويحرمها، ولقد قال رسول الله عليه وسلم للذين سألوه عن إنسان متنسك منقطع للعبادة، يعتمد عليهم في مأكله ومعاشه، كلكم خير منه، وكان من دعاء رسول الله صلي الله عليه وسلم الاستعاذة من العجز والكسل([9]).

(3) الامتنان بنعمة تسخير الأرض وما فيها، وطلب الاستفادة منها عبادةً لله:  قال تعالي: لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ"([10])، وقال أيضاً : "هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِه وإليه النشور"([11]).

(4) جعله دليلاً على صدق التوكل على الله والثقة به  :ففي صحيح الجامع الصغير من حديث عمر رضي الله عنه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطانا". والشاهد من الحديث ( تغدو ، تروح ) سعياً حركة، وليكن شعار المسلم ابذر الحب ... وارج الثمار من الرب([12]).

(5) تربية صفوة البشر من الأنبياء على العمل لاتخاذهم قدوة:  فقد عمل الأنبياء في أعمال وحرف عدة، ومنها رعي الأغنام، وصناعة الحديد، والتجارة، وغيرها:

- رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم : اشتغل بالتجارة، وتاجر مع عمه ثم مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، كما عمل في بداية حياته برعي الغنم؛ وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم، وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط".

- نبي الله داود عليه السلام : كان يعمل بصناعة الدروع، في قوله تعالي: "وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون"([13]). وفي البخاري أيضاً من حديث المقدام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".

- نبي الله موسى عليه السلام : وهو من أولي العزم من الرسل كان يعمل أجيراً بعد خروجه من مصر أول مرة، ورغم أنه نشأ في بيت حاكم مصر ولم يعتاد العمل اليدوي، وذلك في قوله تعالي: "قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ.. "([14]).

(6) الحث على أنواع المهن والحرف ومن ذلك :

* التجارة:  وقد اشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجارة، وتاجر مع عمه ثم مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، واشتغل صحابته الكرام بذلك ومنهم: أبو بكر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعا، وقد تواصى السلف فيما بينهم ومع تلامذتهم أن "الزموا السوق". وفي كتب الفقه تُخَصَّص كتب للبيوع وما يتعلق بها وغيرها من الكتب حول التجارة ومعاملاتها.

* الزراعة:  ففي صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة". وعن الترمذي وغيره من حديث جابر وسعيد بن زيد يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضاً ميْتة فهي له".

* الصناعات والحرف:  ففي البخاري يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أكل أحدٌ طعاماً قَطُّ خيراً من أن يأكل من عمل يده". وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أفضل؟ قال:  "عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور". وفي صحيح البخاري ومسلم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يحتطب أحدكم على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه".

* الطب : يدعو الإسلام إلى تعلم مهنة الطب، وذلك في قول رسول الله صلي الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله فما أنزل الله من داء إلا وأنزل له الدواء, وعلمه من علمه .." ([15]).

(7) اعتبار العمل والكسب من الصدقات ووسيلة إليها:  في الحديث المتفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل مسلم صدقة قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق".

(8) عدم الاعتراف بالملكية التي لا يكون مصدرها العمل والطرق المشروعة: فحرّم الإسلام أعمال الغصب والسلب والسرقة، والنصب، والمقامرة، والربا وما ينشأ عنها من مكاسب مالية. واتخذ إزاء ذلك العقوبات الرادعة، وفي ذلك إلزام لأفراد المجتمع في البحث عن الكسب المشروع؛ وأغلب ذلك لا يتأتى إلا عن طريق العمل. وتحرم الشريعة الإسلامية الكسب عن طريق الأنشطة غير المشروعة مثل المخدرات والبغاء وغسل الأموال والخمر والخنزير؛ لما ينشا عنها من تعطيل ملكات العقل، وانتهاكها لقيم الشرف والحصول علي المال بالطرق غير المشروعة([16])0

     إن الأمر الإسلامي للفرد والجماعة بالتكليف بالعمل والإلزام به لما فيه صالحه، يضمن له إخراجه من حالة الفقر والفاقة والعجز والتسول إلي الوفاء بضروريات حياته، واحتياجاته الأساسية، وهو الملاحظ في حديث الرسول صلي الله عليه وسلم:  "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب علي ظهره خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه" .

    مما يؤكد أن التنمية بالعمل تعتبر واجبة حالة التخلف التي تجعل دول العالم الإسلامي عالة علي غيرها من الدول الأجنبية، بما يترتب عليه من التبعية والتأثير علي حرية قرارها ورسم مستقبلها، ورفعة مكانتها في المجتمع الدولي، لذا نحن بحاجة ماسة لاستعادة قيمة العمل، وإشاعة ثقافة الجدية والسبق إلي الإنتاج علي المستوي الفردي والجماعي، وتوجيه الفرد وتنمية استعداده؛ باعتباره الركيزة في التنمية المطلوبة، هذا النهج الذي اتبعته دولاً كثيرة كانت حتى وقت قريب من أشد دول العالم فقراً؛ مثل دول جنوب شرق أسيا ومنها دولة ماليزيا والتي كانت حتى عام 1981 تعاني من الفقر المدقع والاقتصاد المتهاوي، وكان دخل الفرد فيها لا يتعدي 150 دولار في العام - أقل من مثيلة في مصر في تلك الفترة - إلا أنها أصبحت الآن من الدول المتقدمة صناعياً ويصل ترتيبها على مستوي العالم ال18 صناعياً، وارتفع مستوي معيشة أفرادها بصورة كبيرة ولم تعد في عداد الدول النامية. كل هذا من خلال الاهتمام بالفرد فقط هو الذي حقق المعجزة([17]).

    دولة سنغافورة من الدول أيضاً التي عرفت قيمة العمل, ولا يتعدي عدد سكانها 4 ملايين نسمه، ولا تمتلك أي موارد طبيعية، وقد نالت استقلالها 1965، إلا أنها تمتلك بشر وعقول مستنيرة استطاعت أن تكون أكبر دولة متقدمة في منطقة جنوب شرق أسيا، ووصل متوسط دخل الفرد فيها 40 ألف دولار في العام([18]). كما لا يخفي علينا مثال دولة الصين وما وصلت إليه من تنمية اقتصادية واعتمادهم الرئيسي على العمل في الوصول إلى هذه المعدلات من النمو، فالأمريكان يعملون لمدة خمسة أيام في الأسبوع بمعدل 8 ساعات يومياً، بينما في الصين تصل ساعات العمل اليومية 16 ساعة طوال أيام الأسبوع([19]) .

     لذلك يعتبر العمل هو عنصر الإنتاج الأساسي، وعده الإسلام أفضل أنواع الكسب. وأفضل وسيلة لعلاج مشكلة الفقر في العالم الإسلامي. وإن الأمر الإسلامي للفرد والجماعة بالتكليف بالعمل والإلزام به لما فيه صالحه، يضمن له إخراجه من حالة الفقر والفاقة والعجز والتسول إلي الوفاء بضروريات حياته، واحتياجاته الأساسية. ومن لم يجد عملاً يعد عاله على المجتمع وعرضه للانحراف، وقد زادت نسبة العاطلين عن العمل في الدول العربية والإسلامية وهو ما عرف بمشكلة البطالة.

ثانياً: حقوق وواجبات العمال في الإسلام.

     اهتمت المواثيق العالمية بحق العمل، وعلي رأس هذه المواثيق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية 1966([20]). ونصت على الحق في العمل، ويشمل حق كل شخص في أن تتاح له إمكانية كسب رزقه بعمل يختاره أو يقبله بحرية، وأن توفر الدولة برامج التوجيه والتدريب الفني والمهني التي تيسر للفرد اكتساب مهارات تعاونه على العمل، ويشمل هذا الحق أيضاً ضرورة توفير شروط عمل عادلة ومرضية تكفل على الخصوص :

- مكافآت توفر لكل العمال كحد أدني، كأجر منصف ومتساوي للعمل المتساوي دون تمييز. والحق في أجور عادلة ومكافآت متساوية عن الأعمال متساوية القيمة، دون تمييز من أي نوع، وعلي وجه الخصوص وبما يكفل للنساء شروط عمل لا تقل عن تلك التي يتمتع بها الرجال مع مساواة في الأجر عن الأعمال المتساوية 0

- الحق في معيشة شريفة لهم ولعائلاتهم، كحق من حقوق الكرامة .

- ظروف عمل مأمونة وصحية.

- أوقات للراحة والفراغ وتحديد معقول لساعات العمل وأجازات دورية مدفوعة وكذلك مكافآت عن أيام العطلة العامة .

- تساوي الجميع في فرص الترقية .

    وفي مصر تم تنظيم العمل والعلاقة بين العامل وصاحب العمل والأجر والعمولة والعلاوات والمنح والبدلات، وعلاقات العمل الفردية، وتنظيم عمل الأجانب والأجازات، وواجبات العمال ومساءلتهم وساعات ووقت الراحة وتشغيل النساء والأطفال، وغيرها من الأمور التنظيمية للعمل، وذلك بموجب القانون رقم 12 لسنة 2003 ، الصادر في 7 أبريل 2003 .

     أما الإسلام فقد نظم العلاقة بين العامل وصاحب العمل، بل والعلاقة بين صاحب العمل وجمهور المتعاملين معه، انطلاقاً من أن الإيمان بالله وباليوم الآخر؛ يجعل نظرتنا نحو الحياة والعمل والكسب تتأثر بهذا الإيمان؛ فالمسلم يعلم أنه محاسب يوم القيامة عمَّا فعله في الدنيا، ويؤمن كذلك بأن الرزق من عند الله، وأن خزائن الله لا تَنضب. ويعلم أنه مأمور بالتعامل بشكل جيد مع من يتعامل معهم في العمل والتجارة من رؤساء ومرؤوسين وموردين وعملاء، ويعلم أن عليه أن يكون صادقا وأمينا وألا يخدع أحدا .

    فالمسلم التاجر يكون متسامحا لأنه يعمل في التجارة لكسب الرزق الذي يكفيه ولا يهدف إلى أن يكون أغنى الأغنياء. وهو في تجارته يحاول أن يكون متسامحا مع إخوانه، ولا ينظر إلى الأمر على أنه إما أن يكسب أو يكسب الآخرون؛ لأنه يعلم أن الله هو الرزاق وهو قادر على أن يمنح الجميع. هذا التاجر يكون أمينا جداً في تجارته حريصاً على أن يكون صادقا وأمينا أكثر من حرصه على المكسب لأن الأمانة والصدقة هي مما ينفعه في الآخرة بينما المكسب ينفعه في الدنيا فقط .

     المسلم كمدير لعمل يكون متواضعاً حريصاً على أن يؤدي هو ومرؤوسيه العمل المُوكل إليهم بشكل جيد. وهو في نفس الوقت حريصٌ على ألا يكلِّف إخوانه – زملاء العمل - ما لا يطيقون، وعلى أن يقدم لهم المساعدة المطلوبة لهم لتأدية عملهم. هذا المدير يتعامل مع المرؤوسين على أساس أنهم إخوانه ولا يتعامل معهم على أساس استغلالهم لتحقيق أطماعه الدنيوية بل يحرص على ألا يظلمهم أو يسيء إليهم بغير حق؛ لأنه كمسلم يعلم عاقبة الظلم.

    المسلم كمرؤوس يكون حريصاً على تأدية عمله كما ينبغي؛ وحريص على النصح لرؤسائه. وهو ينظر إلى المناصب على أنها أمورٌ زائلة ومسئوليات يسأل عنها المرء يوم القيامة. هذا الموظف يحاول التعاون مع زملائه ورؤسائه لتحقيق مصلحة المؤسسة؛ فهو يقدم لهم النصيحة والعون عند الحاجة. هذا الموظف إذا أعد تقريرا أعده بأمانة وإذا سأله مديره أجاب بأمانة؛ وإذا تناقش مع زملاءه تناقش بجدية وبصدق، يهدفان للوصول إلى أفضل قرار يخدم مصلحة المؤسسة.

    هذا الموظف وهذا المدير وهذا التاجر يتعاملون مع العملاء بأمانة ومع الموردين بأمانة. فكلهم يتعامل مع العميل أو المورد على أنه أخ له فلا يحاول خداعه أو استغلاله أو غشه. فهو يعلم أن زيادة المبيعات بأمر الله وأنه لا ينبغي أن يحاول الوصول إلى زيادة المبيعات بالغش والخداع.

    مما سبق يتضح لنا أن الإسلام قرر حقوقاً للعمال لدي أصحاب العمل، وواجبات على العمال ملزمين بأدائها، ويمكن إجمالها في النقاط التالية:

(1) حقوق العمال في الإسلام .

    إذا كان الإسلام دعا إلى العمل والكسب فإنه حمى العامل، وصان حقوقه، وشدد في ذلك جداً؛ لأنه - أي العامل - في الغالب الطرف الضعيف. وتشمل حقوق العامل في الإسلام ما يلي:

* مناسبة الأجر للعامل .

    فمن حق العامل الأجر المناسب لقدراته ومواهبه. فيقول تعالي: "ولا تبخسوا الناس أشيائهم"؛ أي لا تنقصوا أموالهم، كما يحذر الله من سوء العاقبة إذا لم يتناسب الأجر مع العمل كما في قوله تعالي: "وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ " ([21]).

* سرعة دفع الأجر .

     الإسلام يقرر سرعة دفع الأجر للعامل بعد الانتهاء من عمله مباشرة؛ لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير أجره, قبل أن يجف عرقه"، ويروي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره".

* مناسبة العمل للعامل .

    جعل الله التكليف في دائرة التوسع والطاقة فقال تعالي: " لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ"([22]).

(2) واجبات العمال في الإسلام .

     قرر الإسلام واجبات يلزم بها العامل أثناء قيامة بعمله، وقرر أيضاً عقوبات أخروية على العامل المخالف لهذه القواعد والتعليمات، على اعتبار أن العامل غالباً ما يكون الرقيب عليه هو ضميره. ومن ثم حث الإسلام على القيام بالعمل على أفضل حال، وذلك من خلال الحث على القواعد التالية :

* مسئولية العامل عن مال صاحب العمل .

     ورد في الحديث الشريف عن‏ ‏سالم بن عبد الله ‏عن ‏عبد الله بن عمر ‏ ‏رضي الله عنهما‏ ‏أنه ‏سمع رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول: ‏ "‏كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته، قال فسمعت هؤلاء من رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وأحسب النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال والرجل في مال أبيه راع وهو مسئول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" .

* طاعة صاحب العمل وتقديم النصح له .

    وذلك في الحديث الشريف عن ‏ ‏أبي بردة ‏ ‏عن ‏ ‏أبي موسى ‏ ‏رضي الله عنه ‏عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال: ‏"‏المملوك الذي يحسن عبادة ربه، ويؤدي إلى سيده الذي له عليه من الحق، والنصيحة والطاعة له أجران" .

* عدم الغش .

    ورد في حديث ‏ ‏سهيل بن أبي صالح ‏ ‏عن ‏ ‏أبيه ‏ ‏عن ‏ ‏أبي هريرة ‏أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال:‏ "‏من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا".

* تحريم الرشوة وهدايا العمل.

     إن من طرق الكسب الخبيثة والمحرمة شرعاً الرشوة، فهي أكل أموال الناس بالباطل وحرم الإسلام على المسلم أن يسلك طريق الرشوة، كما حرم عليهم أن يقبلوها إذا قدمت لهم، وحظر على غيرهم أن يتوسطوا بين الآخذين والدافعين؛ حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم " وقال أيضاً " الراشي والمرتشي في النار"([23]).

    وحرم الإسلام الرشوة في أي صورة كانت، وبأي اسم، فتسميتها باسم الهدية لا يخرجها من دائرة الحرام والحلال، وذلك في حديث ‏ ‏علي بن عبد الله ‏ ‏عن ‏ ‏سفيان ‏ ‏عن ‏ ‏الزهري ‏ ‏أنه سمع ‏ ‏عروة يقول: ‏أخبرنا ‏ ‏أبو حميد الساعدي ‏ ‏قال ‏استعمل النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏رجلاً من ‏ ‏بني أسد ‏ ‏يقال له ‏ ‏ابن الأتبية ‏على صدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏على المنبر -‏ ‏قال ‏ ‏سفيان ‏أيضا فصعد المنبر-‏ ‏فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ‏"ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لك وهذا لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا"([24]).

    إذن فهناك الكثير من الأوامر الدينية المرتبطة أساساً بالمعاملات التجارية واستئجار العمالة، والإدارة وغير ذلك من أمور العمل، نظمها الإسلام وحث على القيام بها حتى لا يطغي طرف على آخر، ويحقق العمل أهم أهدافه من تنمية المجتمع وعمارة الأرض وحماية العمال ضد الفقر .  

 



([1] ) د / محمد شوقي الفنجري : الإسلام والتوازن الاقتصادي بين الأفراد والدول، الطبعة الثانية, سلسلة قضايا إسلامية، تصدر عن وزارة الأوقاف، العدد 148، يونيو 2007، ص 66.

([2] ) د / رضا عبد السلام : مبادئ الاقتصاد السياسي, الاقتصاد الجزئي ، دار الإسلام للطباعة والنشر, 2002، ص 308.

([3] ) د / محمد شوقي الفنجري : الإسلام والتوازن الاقتصادي بين الأفراد والدول، مرجع سابق، ص 71.

([4] ) سياسة الإسلام في محاربة الفقر :16-1-2010   www.albr.org/books/bn028.htm

([5] ) سياسة الإسلام في محاربة الفقر : saaid.net/Anshatah/dole/15.htm 16-12-2009

([6] ) د / محمد منذر قحف : الاقتصاد الإسلامي، دار القلم ، بدون سنة نشر ، ص 103.

([7] ) قيمة العمل في الإسلام : www.nfaes.com/Articliesfiles/1The_value_of_work_in_Islam.doc

([8] ) د / فتحي مرعي : العمل عبادة ، جريدة الأهرام ، العدد الصادر في 26 يناير 2010 ، ص 31.

([9] ) د / محمد منذر قحف : الاقتصاد الإسلامي، مرجع سابق ، ص 105 .

([10] ) الأعراف : 10 .

([11] ) الملك : 15 .

([12] ) سياسة الإسلام في محاربة الفقر : مرجع سابق .

([13] ) الأنبياء : 80.

([14] ) القصص : 27 .

([15] ) د / فتحي مرعي : العمل عبادة , مرجع سابق , ص 31 .

([16] ) قيمة العمل في الإسلام : www.nfaes.com/Articliesfiles/1The_value_of_work_in_Islam.doc

([17] ) أشرف الليثي : الأهرام الاقتصادي ، العدد رقم 2144 الصادر في 8/11/2010، ص 52.

([18] ) أشرف الليثي : المرجع السابق, ص 52.

([19] ) شريف عبدالرحيم: أزمة صناعة السيارات في أوربا وأمريكا، الأهرام الاقتصادي ، العدد رقم 1938 ، الصادر في27/2/2006, ص 71.

([20] ) الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948, والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966, والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966, هذه الوثائق الثلاثة والصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة, والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ولجنة حقوق الإنسان التابعة له, ولجنة الشئون الاجتماعية والإنسانية والثقافية. قد تضمنت حقوق الإنسان الأساسية, وهي تكفل كل أو معظم حقوق الإنسان وتعتبر الشريعة العامة للحقوق الإنسانية, وقد نظمت حق الإنسان في العمل في الجزء الثالث المواد 6 , 7 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, والمواد 23, 24 , 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. 

([21] ) المطففين : 1-3 .

([22] ) العمل في الإسلام : 18-1-2010 en.wikipedia.org/wiki/Poverty

 

([23] ) فكري حسن إسماعيل : الرشوة سحت وهلاك, مجلة منبر الإسلام , السنة 66, العدد2 فبراير- مارس 2007, ص 104.

([24] ) فكري حسن إسماعيل : الرشوة سحت وهلاك, المرجع السابق, ص 105.

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 688 مشاهدة
نشرت فى 13 يونيو 2011 بواسطة shabanElmahlaw

ساحة النقاش

دكتور / شعبان عبده أبوالعز المحلاوي

shabanElmahlaw
اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,789