قلتها من قبل، وها أنا أصرح بها الآن، وأقول: إن زكي طليمات (1894 – 1982) من أهم رجال المسرح العربي، الذين لم ينالوا حقهم حتى الآن، ولم ياخذوا مكانتهم الحقيقية حتى الآن، ولم يُكتب عنهم بما يليق – أحياءً أو أمواتاً - حتى الآن!! وربما تُنشر هذه الحلقة بعد أيام من صدور كتابي الأخير (قراءة في تاريخ المسرح الكويتي من خلال وثائق غير منشورة)، وهو كتاب يشتمل على وثائق زكي طليمات المتعلقة بنشأة المسرح الكويتي وتأسيسه من عام 1961 إلى 1971. وأعدّ هذا الكتاب خطوة في سبيل توثيق جهود طليمات المسرحية في الكويت، تلك الجهود التي أصبحت ضبابية في بعض الكتابات الحديثة، ومهمشة في البعض الآخر!! وعلى الرغم من أهمية الكتاب في الكشف عن تفاصيل جهود طليمات في مصر أولاً ثم في تونس وأخيراً في الكويت، إلا إنني مازلت أكتشف الجديد المجهول في تاريخ زكي طليمات المسرحي، وأكبر دليل على ذلك وثيقة هذه الحلقة – التي لم تُنشر من قبل في أية دراسة لي عن زكي طليمات - والتي أمهد لها قائلاً:

من يطلع على الملف الوظيفي لزكي طليمات – المحفوظ في دار المحفوظات العمومية بالقلعة – سيجد مجموعة من الوثائق الرسمية، منها مذكرة مرفوعة من وزير المعارف إسماعيل القباني إلى مجلس الوزراء، عنوانها (حضرة زكي طليمات مراقب المسرح المدرسي بوزارة المعارف العمومية) - وجاء فيها الآتي: " قررت لجنة فصل الموظفين بغير الطريق التأديبي فصل الموظف الموضح اسمه بعاليه تطبيقاً للمرسوم بقانون رقم 181 لسنة 1952. وأني أتشرف برفع الأمر إلى مجلس الوزراء رجاء التكرم بالموافقة على فصله". وبالفعل وافق رئيس مجلس الوزراء اللواء محمد نجيب على فصل زكي طليمات يوم 17/12/1952 وهذا الفصل عُرف فيما بعد باسم (التطهير)؛ حيث إن زكي طليمات كان محسوباً على العهد الملكي، الذي أنهته ثورة يوليو عام 1952!!

فُصل زكي طليمات وهو في عمر الثامنة والخمسين؛ بعد أن أفنى خمسة وثلاثين عاماً من عمره في خدمة المسرح المصري! فعاش فترة في يأس وإحباط؛ لولا تونس التي بثت فيه الأمل من جديد، عندما طلبته لاختيار وتكوين أول فرقة مسرحية قومية تونسية في عام 1954. ظل طليمات حوالي عامين في تونس، عاد بعدهما إلى مصر، فعاد إلى يأسه وإحباطه مرة أخرى، على الرغم من أنه كان وكيلاً لنقابة المهن التمثيلية.

قرر زكي طليمات أن يتعايش مع الواقع الجديد، وأراد أيضاً أن ينفي عن نفسه تهمه احتسابه على العهد الملكي، مستغلاً مناسبة تاريخية مهمة، فخاطب ودّ النظام الجديد بمشروع مسرحي ضخم، كتب تفاصيله في مذكرة رسمية، رفعها إلى أحد قادة ثورة 1952. وهذه المذكرة هي وثيقتنا في هذه الحلقة، والتي تُعدّ كشفاً مهماً – ربما – كان مجهولاً للجميع!! ونص (المذكرة/الوثيقة) يقول:

ـــــــــــــــــــــ

القاهرة في 2/5/1956

 السيد البكباشي محمد عبد القادر حاتم

مدير عام مصلحة الاستعلامات

تحية طيبة

وبعد فيسعدني أن أحيطكم بما يأتي :-

أولاً – في شهر فبراير المقبل ستحتفل جمهورية مصر بإحياء ذكرى الملكة المصرية (كليوبترا) وذلك بمناسبة مرور ألفي عام على تاريخ ميلادها .. وهذه ولا شك بادرة كريمة وجديرة بأن تصدر من جانب المسئولين عن النظام القائم، الذي يعمل جهده، فيما يعمل، على بعث العزة القومية باستثارة جانب الحماس فيها، وذلك في مختلف المناسبات.

ثانياً – والاحتفال بهذه المناسبة سيتخذ ولا شك مظاهر مختلفة وشكولاً متباينة، إلا أنني أعتقد أن من أروع هذه المظاهر، وأوضحها دلالة على عظمة هذه الملكة المصرية، وأعمقها أثراً في نفوس المواطنين والأجانب، ولا سيما السائحين، هو أن تقدم صورة من حياة هذه الملكة تتابع في مشاهد ترسم مراحل صراعها مع الغزاة المستعمرين من الرومان وكيف استطاعت أن تفترس من أراد افتراسها، فافتدت عرش مصر وعزة مصر، بأن أذلت عزة جمالها، ولم تأبه بالوسيلة في سبيل الغاية.

ثالثاً – ولكي يكون لهذه المشاهد أثرها في الجمهور على نطاق واسع يجمع بين الترفيه والاستفادة والدعاية، أرى أن تنتظم هذه المشاهد في (مسرحية) يتولى كتابتها علم من أعلام التأليف المسرحي في مصر، ويتولى كتابتها في أسلوب يجمع إلى السهولة في التعبير، الجدة في المعالجة، بحيث تأتي هذه المسرحية على أسلوب يغاير ما جرى عليه المغفور له الشاعر أحمد شوقي في معالجة نفس الموضوع.

رابعاً – ونظراً إلى أن مناسبة هذا الاحتفال تقع في شهر فبراير، وهو من صميم أشهر الموسم السياحي، فإنني أرى أن يجري تقديم هذه المسرحية في الهواء الطلق، وليس في مسرح مغلق، وفي ساحة تختار في المحيط الذي تقع فيه أهرامات الجيزة.

خامساً – ونظراً إلى أن السائحين سقبلون ولا شك على مشاهدة هذه المسرحية، إذا قدمت على الوجه الذي ذكرته، فأرى أن تتخذوا كل ما من شأنه أن يجعل من تقديم هذه المسرحية حدثاً فنياً وقومياً يحسن الدعاية إلى مصر الناهضة، كما يحقق في الوقت نفسه الأثر الذي ينشده المسئولين من إحياء ذكرى هذه الملكة في نفوس المواطنين.

هذا ويسعدني أن أحيطكم، فوق ما ذكرت، بأن الأستاذ توفيق الحكيم، وهو من هو في عالم التأليف المسرحي، يشاركني هذه الفكرة ويتحمس لها الحماس كله، وقد أبدى رغبة أكيدة في أن يقوم بتأليف هذه المسرحية طبقاً لمواصفات ومقتضيات المسرحيات، التي تقدم في مسرح الهواء الطلق إذا طلبتم إليه هذا.

وإنني بدوري أضع تجاربي ومعارفي التي أفدتها من اشتراكي في إخراج مسرحيات من هذا النوع في مدن باريس وروان وكاركاسون بفرنسا.

وإنني بوصفي وكيلاً لنقابة المهن التمثيلية، وبعد موافقة السيد النقيب الأستاذ أحمد علام، أسجل استعداد النقابة للنهوض بأعباء هذا العمل من الناحية الفنية، باعتبار أن النقابة تتضمن جميع العناصر الفنية اللازمة، وبأن هذا العمل أكبر من أن تنهض به فرقة من الفرق القائمة، وبأن في قيام النقابة بهذا ما يكافح ناحية من نواحي مشكلة التعطيل لدى بعض الزملاء.

فإذا لاقى هذا الاقتراح من جانبكم موضع القبول، فأرجو تحديد موعد للمقابلة لأشرح تفصيلاً ما أوردته إجمالاً.

والله أكبر والعزة لمصر

والسلام عليكم ورحمة الله

(توقيع) زكي طليمات

وكيل نقابة المهن التمثيلية 2/5/1956

ــــــــــــــــــــــ

هذه (المذكرة/الوثيقة) المجهولة، تكشف عن أسرار خطيرة، وربما تفتح مجالات بحث متنوعة أمام الباحثين والدارسين، لأنها تثير عدة أسئلة، منها: نظرة طليمات لكليوباترا، قائلاً عنها: (أذلت عزة جمالها، ولم تأبه بالوسيلة في سبيل الغاية)!! فهل هذه نظرته إليها كمخرج مسرحي يريد تجسيدها في عرض مسرحي، أم نظرته إليها كمواطن مصري؟! ولماذا أراد طليمات إخراج مسرحية عن كليوباترا، تختلف عن معالجة أمير الشعراء أحمد شوقي للشخصية نفسها؟!

أما بخصوص قوله إن توفيق الحكيم على استعداد لكتابة النص المسرحي – المخالف لمعالجة أحمد شوقي – فهذا أمر خطير؛ لأنه يفتح مجال البحث عما تركه الحكيم من أوراق غير كاملة، أو من أفكار مسرحية مخطوطة، ربما يجدها الباحثون مستقبلاً، وبالتالي نجد هذه المسرحية أو أفكارها أو بداياتها على أقل تقدير!!

أما مكان عرض المسرحية، الذي حدده طليمات في المذكرة بقوله: (ساحة تُختار في المحيط الذي تقع فيه أهرامات الجيزة)، فهذه أهم مقولة في المذكرة بأكملها!! لأن القارئ سيستحضر الفكرة الحديثة، التي بدأت منذ سنوات قليلة من خلال تمثيل أوبرا (عايدة) بين الآثار الفرعونية الطبيعية، الأمر الذي استغله القائمون على السياحة والثقافة في مصر مؤخراً، وتحديداً منذ عشرين سنة تقريباً، عندما عُرضت عايدة بين الأهرامات وأبي الهول!! وهذا الأمر هو الذي اقترحه زكي طليمات في مشروع كليوباترا، مما يعني أن زكي طليمات هو الأسبق في هذا المقترح!!

وإن كان المنطق يؤكد هذه الأسبقية؛ إلا أن هناك تأكيداً من نوع آخر، وهو أن زكي طليمات لم يُخرج كليوباترا – وفقاً لمشروعه – بين الأهرامات وأبي الهول عام 1956، بسبب الظروف السياسية التي منعته من تحقيق مشروعه طوال فترة وجود الرئيس جمال عبد الناصر!! أما السادات، فقد أعطى الفرصة كاملة لطليمات كي يحقق مشروعه في إخراج وعرض مسرحية في الساحة بين الأهرامات وأبي الهول، فكانت مسرحيته (موال من مصر) عام 1972. وهنا يجب أن أوجه نظر القراء بوجوب قراءة ما كتبه الدكتور كمال عيد عن هذه المسرحية في كتابه (المعمل المسرحي)!! ومن عجائب القدر إن مشروع كليوباترا الذي لم يتحقق، والذي قدمه طليمات إلى محمد عبد القادر حاتم عام 1956، يتحقق مشروع مماثل عام 1972، والذي ينفذه هو محمد عبد القادر حاتم نفسه، أطال الله في عمره!!

وأرجو من القارئ ألا يظن بأن زكي طليمات هو أول من فكر في إقامة أول عرض مسرحي تاريخي عن كليوباترا بين الأهرامات وأبي الهول عام 1956، أو يظن إنه أول من أقام بالفعل عرضه المسرحي (موال من مصر) بين الأهرامات وأبي الهول عام 1972!! فالحقيقة التاريخية تقول: في عام 1912 قامت شركة الأعياد والحفلات باستغلال أوبرا (عايدة) بصورة فنية جديدة، جذباً للسُيّاح الأجانب لزيارة مصر ومشاهدة (عايدة) في جوها الطبيعي بين أبي الهول والأهرامات، وقد خصصت الشركة موعداً لهذا العرض الفريد، وهو شهر مارس 1912. كما قامت شركة الترامواي المصرية بتسهيل ذهاب وإياب المتفرجين لهذا العرض. وهذه المعلومات أخبرتنا بها جريدة (المقطم)، وجريدة (مصر) في فبراير ومارس 1912.

 

 

المصدر: جريدة مسرحنا - عدد 401 - 6 أبريل 2015
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 253 مشاهدة
نشرت فى 24 إبريل 2015 بواسطة sayed-esmail

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

754,977