العاشر من مارس 1923 هو يوم مشهود في تاريخ المسرح المصري والعربي .. إنه يوم افتتاح مسرح رمسيس، وهو اليوم الذي ظهر فيه يوسف وهبي على خشبة المسرح محترفاً؛ بوصفه صاحب الفرقة والنجم الأول فيها، عندما شارك روز اليوسف بطولة مسرحية الافتتاح (المجنون)!! ومنذ ذلك اليوم وفرقة يوسف وهبي هي أهم فرقة مسرحية جماهيرياً وإعلامياً وفنياً، وظلت متربعة على عرش الفرق المسرحية المصرية عقوداً طويلة. وربما سر نجاحها يكمن في نجومية يوسف وهبي الفنان المميز مسرحياً. وربما سيتعجب القارئ لو قلت له إن يوسف وهبي الفنان العظيم، ظل عظيماً ونجماً محبوباً ومطلوباً جماهيرياً بعد هذا اليوم لمدة ثلاثين سنة على الأقل .. أي كان نجم الشباك بمفهومنا الحالي!! وأكبر دليل على ذلك الوثيقة المنشورة هنا، وهي عبارة عن عقد اتفاق .. هذا نصه:

                                   الفرقة المصرية الحديثة

(عقد اتفاق)

تم الاتفاق بين كل من: 1- السيد مدير عام الفرقة المصرية الحديثة .. طرف أول. 2- السيد/ سعد حنا نائباً عن جمعية الرحمة القبطية الخيرية .. طرف ثان. على ما يأتي:

أولاً: قبل الطرف الأول أن يؤجر للطرف الثاني حفلة تمثيلية يوم الخميس 19 يناير 1956 الساعة التاسعة والنصف مساء على مسرح حديقة الأزبكية حيث تقوم الفرقة المصرية الحديثة بتمثيل مسرحية القائمة.

ثانياً: قبل الطرف الثاني أن يدفع للطرف الأول إيجاراً لهذه الحفلة مبلغاً وقدره 150ج (مائة وخمسون جنيهاً) في حالة اشتراك الأستاذ يوسف وهبي في التمثيل بالمسرحية القائمة أو 125ج (مائة وخمسة وعشرون جنيهاً) في حالة عدم اشتراك الأستاذ يوسف وهبي في التمثيل بالمسرحية القائمة، وتدفع قيمة الإيجار كالآتي: 30ج (ثلاثون جنيهاً مصرياً) عربون والباقي يدفع كما يلي قبل الحفلة بعشرة أيام: 120ج (مائة وعشرون جنيهاً) في حالة اشتراك الأستاذ يوسف وهبي في التمثيل بالمسرحية أو 95ج (خمسة وتسعون جنيهاً) في حالة عدم اشتراك الأستاذ يوسف وهبي في التمثيل بالمسرحية. وفي حالة تأجيل الحفلة أو إلغائها من جانب الطرف الثاني لا يلزم الطرف الأول بتحديد موعد آخر لإحيائها. ويسقط حق الطرف الثاني في العربون ويكون ملزماً بدفع باقي قيمة الإيجار.

ثالثاً: الطرف الأول يقوم بالتمثيل وجميع ما يلزم الحفلة فنياً.

رابعاً: يقوم الطرف الثاني بطبع التذاكر وتوزيعها وعمل الدعاية اللازمة على نفقته الخاصة وألا يوزع أو يبيع تذاكر أكثر مما هو مبين برسم الصالة (بلانته) التي تسلم صورة منها.

خامساً: يقوم الطرف الثاني بدفع جميع أنواع الضرائب (ضريبة الملاهي والبلدية وخلافه) وليس الطرف الأول مسئولاً عن أي شيء من هذه الضرائب.

سادساً: يتعهد الطرف الأول بدفع قيمة إيجار المسرح

سابعاً: يتعهد الطرف الثاني بأن يتيع جميع التعليمات الخاصة بالمسرح وألا يبيع أو يتصرف في البناوير والألواج والكراسي المبينة برسم الصالة.

ثامناً: يتعهد الطرف الثاني بأن ليس لديه أي اعتراض على إذاعة الحفلة بواسطة الإذاعة المصرية. وألا يطالب بقيمة الإذاعة إذ إنها من حق الطرف الأول.

تاسعاً: يتعهد الطرف الثاني إنه مكلف باتباع كافة التعليمات والقوانين واللوائح والأوامر العسكرية الخاصة بالمسارح ومواعيدها والسهر إلخ. وألا يلق على المسرح أي شيء غير مصرح به من مراقبة النشر والمطبوعات.

عاشراً: تحرر من هذا العقد نسختين بيد كل طرف نسخة للعمل بموجبها عند اللزوم.

تحريراً في 20/11/1955 توقيع الطرف الأول يوسف وهبي، الطرف الثاني سعد حنا .. [ملاحظة مكتوبة] 30ج دفع عربون بإيصال رقم 114 في 20/11/1955

ــــــــــــــــــ

من يقرأ هذا العقد قراءة متأنية سيلاحظ أن أعضاء جمعية الرحمة القبطية يريدون مشاهدة إحدى مسرحيات الفرقة المصرية الحكومية، مهما كان نوع المسرحية المعروضة!! الأمر الذي جاء في العقد بتعبير (المسرحية القائمة) في البندين أولاً وثانياً في العقد: أي المسرحية المعروضة في التاريخ المحدد مهما كانت! مما يعني أن الجمهور في هذا الزمن كان ذواقاً للمسرح متابعاً له!! فالجمعية اشترت الحفلة بأكملها دون تحديد عرض المسرحية، وعبرت عن ذلك – في العقد – بقولها المسرحية القائمة، مما يعني أن الجمعية مهيأة لمشاهدة أي مسرحية يتم عرضها من قبل الفرقة المصرية الحكومية، طالما سيتم عرضها على مسرح حديقة الأزبكية (وهو المسرح القومي بالعتبة حالياً).

وإذا نظرنا إلى نص البند الثاني في العقد؛ سنتأكد من نجومية يوسف وهبي وتألقه بعد أكثر من ثلاثين سنة تمثيل!! فالجمعية التي اشترت الحفلة اشترطت أن يقوم يوسف وهبي بتمثيل دور في المسرحية!! ووضعت حافزاً لشرطها هذا بأن جعلت الحفلة بثمن 150 جنيها في حالة قيام يوسف وهبي بالتمثيل، أو ستخصم من المبلغ 25 جنيهاً في حالة عدم قيامه بالتمثيل!! وطبعاً هذا الشرط كان قاسياً، لأن يوسف وهبي هو مدير الفرقة في ذلك الوقت، ومنصبه هذا يجعله يبتعد عن الأمور الفنية مقابل الأمور الإدارية!! ولكن الحق يُقال: إن مبلغ 150 جنيهاً أو 125 جنيهاً مبلغ كبير حقاً ومن الصعب التضحية به في هذا التوقيت!! فإذا عرفنا أن أكبر دخل في أكبر ليلة عرض للمسرحية التي بيعت للجمعية كان مبلغ 29 جنيهاً فقط، وأقل ليلة عرض كان دخلها تسعة جنيهات!! فما بالنا والليلة بيعت لأعضاء الجمعية ب150 أو 125 جنيهاً!!

ولأن العقد لم يحدد اسم المسرحية، إلا أن الوثائق التي بين أيدينا تقول إن المسرحية التي بيعت وعرضت أمام أعضاء جمعية الرحمة القبطية هي مسرحية (شذوذ)، التي لم يكن ليوسف وهبي فيها أي دور تمثيلي!! وللأسف لا نملك دليلاً على أن يوسف وهبي مثّل في عرض الحفلة المباعة، فالتوثيق المنشور يقول إن يوسف وهبي لم يكن له أي دور!! والسؤال الذي يطرح نفسه: هل مثّل يوسف في هذه الليلة؟! لا أملك الإجابة؛ ولكني أزعم بأنه مثّل هذه الليلة، لأن التضحية ب25 جنيهاً في هذا التوقيت، يُعد ضربً من الجنون!!

ومسرحية (شذوذ) عرضتها الفرقة المصرية الحديثة على مسرح حديقة الأزبكية لأول مرة يوم 28 ديسمبر 1955، وظلت تعرض بصورة متبادلة مع عروض أخرى حتى يوم الرابع من مايو 1956، وهو آخر يوم عرض لها، وهي من تأليف شابويه وترجمها محمود شوقي، وأخرجها نبيل الألفي، ومثلها كل من: أمينة رزق، ملك الجمب، سميحة أيوب، صلاح سرحان، محمد السبع، روحية خالد، فتحية علي، علوية جميل. وفي البرنامج (البمفلت) الذي كان يُوزع على الجمهور، كتب المخرج نبيل الألفي كلمة عن المسرحية ومضمونها، قال فيها الآتي:

"إنه شذوذ عانس في الثانية والأربعين من عمرها، أدركها الخرف قبل أن تدرك السعادة، وانقضى ربيع عمرها دون أن تحظى بالسير في موكب الحب والزهور، ودون أن تستمتع بالمرح والشباب. إنها من خلال تعاستها تبدو بتصرفاتها الشاذة وكأنها أمست تجد سعادتها في أن تشعر بالألم، وتستمتع بإيلام الآخرين. وهي كذلك عانس في المرحلة الخطيرة من عمرها .. إنها مرحلة انتقال تمر أثناءها بما يسمونه (خط الظلال)، فترتجف أمام شبح الشتاء الرابض وراء الخريف، مهدداً بصورة الجليد، والشجرة الجافة من بعيد كأنها هيكل عظمي فارقته الحياة .. لقد أرادت هذه العانس قبل ظهور الشتاء من وراء مكمنه القريب .. أرادت أن تسير ولو مرة في موكب الحب والزهور .. وسنحت لها الفرصة، فاغتنمتها بكل قوتها، محطمة من حولها كل القيود ... ولكنها في النهاية تفشل في تحقيق هذه السعادة ، وتتابع السير نحو مصيرها المجهول، في ثوبها الحزين.

إنه كذلك شذوذ زوجة ضاقت بما في حياتها الزوجية من رتابة وملل .. وعندما انفتح أمامها باب المغامرة على مصراعيه .. اندفعت هاربة منه واستسهلت المغامرة، ولكنها في النهاية تعود إلى بيت الزوجية محطمة، بعد أن تقوض حلمها في السعادة العاطفية التي كانت تنشدها .. وهو أيضاً شذوذ زوج هجرته زوجته .. ولكنه يقبلها في النهاية، بعد ستة أشهر قضتها بعيداً عن بيت الزوجية في أحضان عشيقها .. وهو إلى جانب هذا وذاك شذوذ شخصيات أخرى عديدة تلتقي وتفترق في جو المسرحية، وكل منها يكشف في طباعه عن جانب من الشذوذ.

وهكذا نرى أن مؤلف مسرحية (شذوذ) قد توخى الصراحة التامة في تصوير شخصياته، فهي جميعها شخصيات تحمل طابعاً من النقص، وتنطوي في تكوينها النفسي على جوانب متضاربة من الجمال والقبح .. أو من الخير والشر .. أو من الحقائق والأباطيل .. إننا في هذه المسرحية لن نجد أنفسنا أمام البطل المثالي .. وإنما سنجد أنفسنا أمام الإنسان الذي كثيراً ما تتعارض أهدافه مع الاعتبارات الأخلاقية المحيطة به ... والذي كثيراً ما يجد نفسه منتظراً أن يضرب بقبضته الشر ليمسك بزمام حقه، وينال قسطه من الدنيا .. سنجد أنفسنا أمام الإنسان في تمسكه بوجوده، وفي التصاقه بالأرض، بالرغم من تضافر العوامل الوراثية والتربوية والاجتماعية على حرمانه من حقه المشروع في الحياة .. وبالرغم من أن الحياة نفسها قد تبدو في نظره غير عادلة".

 

وفي ختام المقالة، أزعم أن القارئ سيجد أموراً كثيرة في الوثيقة المنشورة، وأقصد بها عقد الاتفاق! فهناك بنجود في العقد لم نتحدث عنها مثل الشروط المنصوص عليها، لا سيما الشروط العسكرية!! ومحاذير الرقابة التي كانت تسمى مراقبة النشر والمطبوعات .. إلخ، وهذه الأمور أتركها للباحثين ينقبون في ثناياها عن مبتغاهم!!

المصدر: جريدة مسرحنا - عدد 400 - 30 مارس 2015
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 148 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

755,736