فلاح شاكر : مسرحي يعيش أسطورة شاعر

  د.سيد علي إسماعيل

كلية الآداب – جامعة حلوان

ــــــــــــــــ

إنه شاعر .. كتب في محبوبته مجموعة من القصائد، احتفظ بها لنفسه مستمتعاً بها؛ ولكنها متعة لم تدم طويلاً؛ فالمحبوبة هجرته! فتألم وأشرف على الموت، وأوصى بأن تُدفن قصائده معه، ولا تُذاع بين الناس .. وكان له ما أراد!! ومرّ الزمن، ورُوح الشاعر لا تهنأ في قبرها، بسبب القصائد التي تؤرق راحتها! وتنتشر قصة الشاعر وقصائده وقبره بين الناس، وتتوارثها الأجيال! ويشاء القدر أن يمرّ موسيقار أمام القبر يُدندن بنغمات لحن قد ألّفه مؤخراً، فسمع همساً يأتيه من القبر، ويلقي على مسامعه قصيدة، تنطبق كلماتها ومعانيها على اللحن الذي يدندن به!! فتوهم الموسيقار بأنه يسمع صوت شيطان شعره؛ إيذاناً بظهور موهبته الشعرية! وهكذا خرجت للناس أشهر قصيدة مغناة! وعندما أراد تكرار التجربة، ولحّن لحناً جديداً، لم يأتِه شيطان شعره، وفشلت كل محاولات استدعائه؛ فيكتشف أن قصة الشاعر وقصائده المدفونة في قبره حقيقة لا خيال! فيذهب بنفسه إلى قبر الشاعر، ويتحدث مع طيفه، ويستمع منه إلى كلمات القصيدة المناسبة للحنه الجديد، فتخرج أغنيته الثانية، ومن بعدها الثالثة، ثم الرابعة .. إلخ، وظل التواصل بين الموسيقار وطيف الشاعر مستمراً، حتى خرجت للناس جميع قصائد الشاعر! ومع خروج الإبداع المدفون إلى الجماهير .. سكنت روح المبدع في قبرها الأبدي!!

هذا ملخص رواية قرأتها منذ ثلاثين عاماً - لعلي أحمد باكثير بعنوان (ليلة النهر) – ولم أتخيل أن يأتي اليوم لأعيش القصة نفسها في الواقع لا في الخيال! فقد قابلت هذا الشاعر في صورة مبدع مسرحي! كان أشهر كاتب مسرحي في زمانه! وكانت مسارح الدولة تتشرف بعرض نصوصه! وأكبر المخرجين كانوا يتسابقون لإخراج مسرحياته! وأشهر الممثلين كانوا يفتخرون بتجسيد شخصياته! وأغلب المهرجانات كانت تنجح بعروضه! وكانت الجوائز تزداد قيمة عندما ترتبط باسمه وباسم مسرحياته!

هذه الشهرة، وهذا الزخم الإبداعي، وهذا التألق الفني .. لم يترك لمبدعنا المجال؛ لأن يهتم بنشر إبداعه المسرحي المكتوب! فقد كان يظن أن الشيب لن يأتيه، وأن المرض لن يصيبه، وأن الهجرة لن تناله، وأن التقلبات السياسية بعيده عنه .. ولكن هيهات! فالشيب جاءه في غير موعده، فعلى الرغم من أنه ابن الرابعة والخمسين؛ إلا أنك تراه كهلاً في الثمانين! بعد أن أصابه المرض! وهاجر وطنه بسبب التقلبات السياسية!! وعندما شعر بدنو أجله – أطال الله في عمره - قرر أن ينشر نصوصه المسرحية، حتى لا يكرر خطيئة الشاعر ويفارق الحياة؛ دون نشر نصوصه، فتؤرق مرقده كلماتها وعباراتها الشعرية الشاعرية، وتستصرخه أن يفك أسرها لتنطلق بين المسرحيين والباحثين، ينهلون منها ما لم يقرأونه منذ ثلاثين عاماً!!

إنه الكاتب المسرحي العراقي (فلاح شاكر)، الذي كتب ثلاثين مسرحية، لم ينشر منها سوى اثنتين في مقتبل العمر - (مملكة الاغتراب، والعقاب) عام 1983 - وثالثة قبيل أواخر العمر - (تفاحة القلب) عام 2010 - أما بقية نصوصه، فأغلبها ترجوه أن يحافظ عليها بالنشر، قبل أن يفقدها مثلما فقد (قصيدة حب في زمن الحرب)، و(ملك ومهرج ولعبة) فلم يبق أثر – من هاتين المسرحيتين - سوى عنوانهما فقط!!

وأكاد أسمع (ألف قتيل وقتيل) يعاتبونه؛ لأنهم منحوه أولى جوائزه عام 1987 .. فردّ لهم الجميل بعدم نشر أسرار مقتلهم! فجاءت (ألف رحلة ورحلة)، تدافع عن نفسها، قائلة: كنت شاباً عندما منحتك جائزة أفضل مؤلف شاب عام 1988، وها أنت تضن عليّ بالحرية! أما (قصة حب معاصرة) فتوسلت إليه أن ينشرها، فهي لا تريد أن تذكره بأنها سبب فوزه بجائزة أفضل مؤلف مسرحي عام 1991. أما (العقاب والجريمة) فصمتت؛ لأن حالها ليس بأفضل من سابقتها، فقد كانت السبب في فوزه بجائزة أفضل مؤلف مسرحي أيضاً عام 1993. وترتفع بهامتها (في أعالي الحب)، وتنظر إليه نادمة؛ لأنها منحته جائزة الدولة للإبداع عام 1997! أما (العرس الوحشي) فتصرخ قائلة: ليتني ما منحتك جائزة أفضل نص وأفضل عرض في مهرجان المسرح العربي الثالث عشر في الأردن عام 2006؛ عقاباً لجعلك عرسي سرياً! وأخيراً جاءت مهرولة (الجنة تفتح أبوابها متأخرة)، وعنفته بقسوة، قائلة: لِمَ تفضل عليّ (تفاحة القلب)، وتنشرها بين الناس! هل لإنها جلبت لك جائزة أفضل نص عام 1999! فإن كان الأمر كذلك، فأنا الأولى بالنشر؛ لأني منحتك – في العام نفسه - جائزة القرن!!

وبالفعل قرّر فلاح شاكر نشر مسرحيته (الجنة تفتح أبوابها متأخرة)، وكُلفت بكتابة مقدمتها، وسعدت بهذا التكليف؛ لأنني سأعيش خيال قصة الشاعر .. في واقع قصة فلاح شاكر! فقرأت نص المسرحية في عجالة؛ وأصيبت بخيبة أمل كبيرة .. فالنص خالٍ من الحدوتة! فبحثت عن نصوص أخرى لفلاح شاكر؛ فوجدت أربعة منها، وقرأتها في عجالة أيضاً، ولم تتغير مشاعري، ولم يتغير رأيي، إنها نصوص خالية من الحدوتة!! فقررت أن أخوض التجربة، وأعيد القراءة بصورة عكسية! أي أقرأ النصوص دون البحث عن الحدوتة! وعندما فعلت ذلك؛ اكتشفت أن فلاح شاكر لا يكتب حواديت .. بل يكتب مشاعر وأحاسيس تتحرك على خشبة المسرح في صورة ممثلين! والدليل على ذلك لغته الشاعرية الشعورية، التي تجعلك تتجاوب مع الأحاسيس أكثر من تجاوبك مع الحدوتة، التي يختزلها دائماً في موقف واحد أو ذروة واحدة صادمة تتفاجئ بها منذ اللحظة الأولى!

ومن الواضح أن فلاح شاكر نجح في فرض أسلوبه الكتابي هذا؛ عندما كثف عبارات مشاعر نصوصه وأحاسيسها من خلال عنصر الثنائيات. فأغلب مسرحياته تتكون من (رجل وامرأة)! ومهما تدخلت الشخصيات الثانوية أو الهامشية؛ فإن الحوار الأساسي يكون ثنائياً بين رجل وامرأة! وهذا الحوار يجبر المتلقي على تتبعه في تشويق غريب مستمر منذ اللحظة الأولى، عندما تبدأ المسرحية بالذروة؛ لأن المتلقي يلهث متوتراً في شهيق وزفير متصاعدي الحدة، وهو يقرأ كلمات الحوار وعباراته؛ أملاً في معرفة النهاية، التي طالما تأتي بصورة غير متوقعة، مهما حاول خيال المتلقي الوصول إليها!!

يقول فلاح شاكر في مقدمة مسرحية (الجنة تفتح أبوابها متأخرة): "لقد أوجعت الحرب نومي بكوابيس كأن جهنم تتمرن على ذاكرتي ورجف قلبي- قلت شهادتي - وأرجو أن يؤجل استشهادي فربما يستجد قول - عن شعب أكلت منه عشرون عاماً من الحروب والحصار كل أحلام التشهي، شعب وكأنه أُعِدَّ للنحر- ولولا ضمائر بعض الأصوات - لرمينا في النسيان فالعالم الجديد لا يعلمك بعذابات المقتول بقدر ما يبهجنا بشجاعة القاتل .. فوسط الانترنيت والبث الفضائي المباشر والأقمار الصناعية أقف وحدي أصرخ في البرية بملء صوتي هل تحسون بآلام الضحية؟".

حول هذا القول يتمحور أغلب إنتاج فلاح شاكر المسرحي! وصرخته الأخيرة: (هل تحسون بآلام الضحية؟)، هي المغزى الحقيقي لأغلب مسرحياته! ففلاح نذر نفسه وقلمه من أجل تسجيل الحرب العراقية الإيرانية، وما تبعها من حصار وآثار مأسوية! أي أن مسرح فلاح هو مسرح تسجيلي؛ ولكن من نوع خاص! نوع لا يهتم بتسجيل الوقائع التاريخية والأحداث السياسية؛ بقدر اهتمامه بتسجيل آثارها على النفس البشرية! وعلى الرغم من قيمة هذا التوجه الإنساني النبيل في الكتابة المسرحية؛ إلا إنه توجه يحمل في داخله توجهاً سياسياً!

حاولت أعرف صراحة توجه فلاح شاكر السياسي من خلال أعماله المسرحية .. فلم أنجح! فعلى الرغم من أن نصوصه المسرحية، تؤدي بك إلى الاقتناع بأنها مكتوبة في صالح السلطة - وما تريد أن تقوله هذه السلطة - إلا أن بها عبارات تؤدي بك إلى عكس ذلك! فمن يقرأ ما بين السطور، يشعر بأن النص المسرحي الواحد له أكثر من دلالة، وله أكثر من مفهوم، وله أكثر من معنى!! وهذا الأسلوب في الكتابة كان سلاح فلاح شاكر الأول في خداع الأجهزة الرقابية .. هكذا استنتجت الأمر!!

كان استنتاجي صحيحاً، وتفاجئ به فلاح شاكر – عندما حاورته عن بًعد – فلم يجد بُداً من البوح والاعتراف لي ببقية أسلحته من أجل تمرير نصوصه – دون اعتراض الرقيب عليها – ومن هذه الأسلحة اختياره لفريق العمل، وتحديداً المخرج والبطل؛ بحيث يكون كل منهما في موقع إداري مؤثر، بالإضافة إلى مكانتهما الفنية، وشهرتهما الإبداعية! فهذه الأمور تُعدّ شهادة ضمان إجازة النص وتمريره أمام أعين الرقباء!

أما السلاح الثالث والأهم؛ فيتمثل في استغلال كل فرصة متاحة لعرض النص خارج العراق لا سيما في المهرجانات المسرحية الكبرى؛ ومن ثم تجميع كل ما كُتب عن العرض في الصحف وفي وسائل الإعلام الخارجية؛ لأن هذه الإشادات، لها فعل السحر في إجبار الرقيب على قبول العرض داخل العراق – أثناء الحروب أو الحصار – لأن الرقيب في هذه اللحظة، يقرأ في العرض ما تريده السلطة، وليس ما يريده العرض!!

أسرار الجنة

أثناء حواري مع فلاح شاكر – عبر وسائل التواصل الاجتماعي – شعرت بأن أسراراً مهمة - تتصل بمسرحيته (الجنة تفتح أبوابها متأخرة) – يتردد في البوح لي بها! ولكن مع تقارب أفكارنا، وغوص كل منا في عقل الآخر، وجدته يرسل لي رسالة بها أسرار المسرحية – وأسرار مسرحيات أخرى - كي انتقي منها ما يناسب المقدمة؛ لكنني وجدتها اعترافات مهمة، تكشف خفايا كثيرة! وأي تلخيص لها، أو تحوير في مضمونها، سيفقدها أهميتها التوثيقية؛ لذلك فضلت أن أذكر كل ما جاء في رسالته عن مسرحية (الجنة ...)؛ لا سيما وأن فلاح شاكر نادر الكلام والحوار والأحاديث المنشورة! لهذا أردت نشر رسالته، ربما تكون أولى اعترافاته المنشورة! وفيها يقول:

"مسرحية الجنة، أخرجها الفنان محسن العلي، وهو أمين سر نقابة الفنانين. والممثل الرئيسي في العرض الأول، كان الفنان محمود أبو العباس، وهو رئيس الشعبة المسرحية في نقابة الفنانين. وكان أول عرض لها في الأردن بمهرجان تقيمه نقابة الفنانين الأردنيين. وفي بغداد وصل إليهم نجاح المسرحية من خلال ما نقلته الصحف العراقية عن العرض في عمّان. وهذا الأمر مهّد الطريق لعرض المسرحية مرة واحدة في بغداد - دون إعلان أو دعاية - بمناسبة يوم الفن. ثم شاركنا بالعرض في مهرجان قرطاج وفاز بجائزة الإبداع الكبرى! وهنا بدأ الفنان محسن العلي - وهو أذكى مخرج ومنتج في المسرح العراقي - باستغلال ما كتبته الصحف عن هذه الجائزة. ومن ثم استأجر مسرح الرشيد، وبدأ حملة إعلانات في التلفزيون للترويج للعمل. وكانت دهشتنا جميعاً كبيرة، عندما رأينا القاعة دائماً كاملة العدد، والحجز لأيام قادمة. وهذا لم يحدث قط لأية مسرحية عراقية باللغة العربية الفصحى وغير كوميدية! ونتج عن هذا النجاح الساحق؛ كثرة الكتابات الصحافية، واللقاءات التلفزيونية .. إلخ! وفي يوم وأنا في الكواليس، جاء محسن العلي وهمس في أذني قائلاً: إن الفريق رئيس جهاز المخابرات، ومعه اثنان فقط وبدون حماية، قطعوا تذاكر ودخلوا لمشاهدة العرض، مثلهم مثل الناس! - عمري لم أخف من أحد؛ لسبب إني لا أنتمي لحزب أو طائفه. وبالتالي أشعر بالثقة؛ لأنني مع الوطن. وكذلك كثرة الجوائز التي حصلت عليها؛ تجعلني أكثر ثقة بنفسي؛ لأنني أشعر أنهم يقدرونها - انتهى العرض ولم يحدث أي شيء غير عادي؛ بل إننا كنا ننتظر تكريماً خاصاً من رئاسة الجمهوريه للإنجاز الذي حققناه! وبعد عدة أيام اتصل بي محسن العلي وقال: يريدوننا في الوزارة .. (البس رسمي)!! طبعاً ضحكت من عبارة (البس رسمي). وحين ذهبت إلى دائرة السينما والمسرح - التي تبعد عن وزارة الثقافة بمائة متر -  وجدت محسن العلي يخبرني بالموضوع قائلاً: تلقيت اتصالاً تليفونياً مفاده؛ إن رئيس جهاز المخابرات يريدني أنا وأنت فقط، بدون أي فرد آخر من فريق المسرحية أو من وزارة الثقافة. ومنذ أن تلقيت هذه المكالمة، وزوجتي في قلق شديد، لدرجة أنها أخبرت معظم أقاربنا وأصدقائنا والصحفيين أيضاً بفحوى المكالمة من أجل استجلاء الأمر! فقلت له: يا صديقي .. إذا كانت المخابرات تضمر لنا شراً، ما كان رجالها اتصلوا بنا؛ بل كانوا أخذونا من بيوتنا دون أن يعلم بأمرنا أحد! أما الآن فكل الناس تعرف حتى الأصدقاء من الصحفيين. وبناءً على هذا المنطق ركبنا سيارة المخابرات، التي جاءت إلينا خصيصاَ! ووصلنا إلى المكان .. وكان الجميع من البوابة حتى مكتب رئيس المخابرات في منتهى الذوق والتقدير، ودخلنا الى غرفة صغيرة. وبعد أقل من دقيقتين جاء الفريق وصافحنا، ثم استعلم منّا ما نحب أن نشرب ... إلخ، ثم قال: شاهدت مسرحيتكما مع شخصين، أحدهما قال: هذه المسرحية ضد النظام بأكمله! والآخر قال: هذه المسرحية أفضل عمل يدافع عن النظام العراقي! أما أنا فكنت أميل للأول تارة ، وللثاني تارة أخرى! لذلك أردتكما في ضيافتي لنتحدث عن المسرحية. فقلت له: أنا فلاح شاكر .. وحين أعرض مسرحياتي خارج العراق – بغض النظر عن فوزها بالجوائز - فأنا أعكس صورة للحرية الممنوحة لنا في العراق، وهذا ضروري لصورتنا في الخارج! وقبل أن أزيد عزفاً على هذا الوتر، باغتني بقوله: أنا يهمني ما يُعرض داخل العراق مثلما الخارج! وبعد نقاش طويل، قال: سأقترح عليك اقتراحاً ليس بالضرورة أن تأخذ به، وهو إنني لن أطلب منك أن تمتدح السيد الرئيس أو تمتدح الحكومة؛ بل أريد منك فقط حواراً يقول فيه الأسير – بطل المسرحية - ما معناه: إنه يحب الوطن، ولا أعتقد أنك تختلف معي في هذا؟! لذلك أرجو إضافة هذا الحوار؛ لأنني سأحضر إلى المسرح وأشاهد العرض مرة أخرى!! طبعاً الطلب قد يبدو بسيطاً؛ ولكن الحقيقة أن حب الوطن، كان مرتبطاً بحب القائد! وإضافة عبارة تفيد محبة الأسير للوطن، ستقتل أية قراءة مفتوحة للعرض! وفي مقابل ذلك .. كان من المستحيل أن أرفض اقتراح رئيس المخابرات العراقية!! لذلك أضفت إلى النص – على لسان الأسير - عبارة (لي وطن أحبه وينتظر عودتي). وللأمانة .. كان الفريق رائعاً، وعند خروجنا أهدى لي ولمحسن قنينة عطر فاخرة، ورابطة عنق أسبانية صناعة يدوية".

تأملت كثيراً هذه الرسالة .. وترددت في نشرها بنصها؛ لا سيما وأحداثها تتعلق بمحسن العلي – بوصفه المخرج – وبمحمود أبو العباس – بوصفه أول ممثل لدور الأسير – وعندما شعر فلاح بترددي هذا، اقترح عليّ أن نتواصل معهما من أجل اطلاعهما على نص الرسالة. وبالفعل تم التواصل أولاً بمحسن العلي، الذي ردّ علينا برسالة، رحّب فيها بنشر كلام فلاح شاكر كما هو، وأضاف إليه تفاصيل أخرى تتعلق بمسرحية (الجنة ...)، قائلاً:

"كان النص الأصلي للمؤلف طويلاً جداً، وما تمّ حذفه - لتحديد نص العرض - يصنع مسرحية أخرى!! وأتذكر جلساتي مع فلاح شاكر من أجل الاتفاق على تعديل العبارات أو حذفها؛ لأن النص يمسّ مشكلة – يعاني منها كل العراقيين وقتذاك – وهي (الأسر)!! فنقاشنا كان بدون خوف – في البداية – لأننا كنا نحاكي أياماَ صعبة، وعذابات معروفة لأسرى عائدين إلى جحيم جديد؛ يعتقدونه جنة، كما كُنّا نتوهم!! وتحسباً لذلك لم أعرض النص على أية رقابة؛ لأنني أنتجته باسم (لجنة المسرح العراقي)، المُشكلة حديثاً – بعيدة عن الوزارة – وموّلت المسرحية بطلب من فاروق سلوم، واشتركنا بها في مهرجان الأردن باسم (الفرقة القومية)! وكل هذه التحصينات؛ كانت كفيلة بإبعاد عيون الجهات الرقابية الحكومية، عدا عيون المخابرات، التي طلبت مقالبتنا، فتملكني هاجس الخوف – من مجرد طلب المقابلة - رغم جهود فلاح شاكر في تقوية عزيمتي!! أما الخوف نفسه فقد لمسته، عندما سألني رئيس المخابرات: ماذا كنت تقصد بقول الممثل (إصبعي الصغير يخاف أن أطبق كفي لئلا يأكله الإصبع الذي يجاوره)؟! فقلت له متلعثماً: هذا كلام المؤلف! وهنا تلقف فلاح الكرة، وبدأ يُفسر لرئيس المخابرات المعنى المقصود من هذه العبارة، مبتعداً عن أي إسقاط سياسي! ولكن رئيس المخابرات لم يقتنع بتفسيره، قائلاً: طالما العبارة لا غرض سياسي منها، فلماذا يلفظها الممثل وهو يتلفّت يميناً ويساراً؟! فرد عليه فلاح قائلاً: هذا شغل المخرج وتفسيره!! وهكذا عادت إليّ الكرة مرة أخرى" .. وبذلك تنتهي شهادة المخرج محسن العلي!!

أما محمود أبو العباس، فقد قمت بالاتصال به - لصداقة قديمة جمعتني به منذ عام 2005، عندما كتبت بحثاً بعنوان (أثر مسرحيات محمود أبو العباس على شخصية الطفل)! قدمته في مؤتمر بكلية التربية جامعة دمشق، ونشرته في مجلة (البحرين الثقافية) في إبريل 2007 -  وطلبت منه كتابة بعض الظروف والملابسات، التي يتذكرها عن عرض مسرحية (الجنة ..) بوصفه أول بطل لعروضها! وبالفعل أرسل لي المطلوب في رسالة إلكترونية، بها تفاصيل خاصة جداً، ومواقف مشوقة تمسّه وتمسّ شخصيات أخرى – في مواقع سياسية حساسة – وعندما أعدت صياغة كلامه، أرسلته إليه مرة أخرى؛ كي يقرّه بصورة نهائية. وللأسف الشديد تأخر في الرد – وبالتالي تأخر في إقرار ما سينشر منسوباً إليه – والوقت لم يكن في صالح نشر المسرحية ومقدمتها؛ لذلك تجنبت كافة التفاصيل الحساسة، واكتفيت فقط بما يتعلق بالعرض .. الذي قال عنه محمود أبو العباس:

"الجنة تفتح أبوابها، جاءت في وقت كانت نتائج الحرب تعصر في قلوب الناس، ومن ضمنها أُسرّ المفقودين، والشهداء والأسرى .. وكما تعلم أن المسرحية استثمرت فكرة الأسر، والتي كانت تغلف فعلها .. ولأن حساسية هذا الموضوع بقيت مقلقة للسلطة في ذلك الوقت؛ إلا إنها كانت جواز مرور للنظام في تطبيق فكرة اللارقابة الشديدة على المسرح!! ومع هذا كانت تضرب المسرحية بقسوة على أثر الحصار، الذي أفرغ البطون من لقمة العيش؛ ولكنه شدد على إنارة العقول .. كما في شخصية الحارس في المدرسة .. بالتاكيد فلاح من الكُتّاب الذين يعزفون كثيراً على الألم بلغة شفافة تدمي القلوب!! أما ذكرياتي عن هذه المسرحية، فتتمثل في: أن عرضها الأول كان في مهرجان المسرح الأردني عام 1998، وكان العرض شرارة أوقدت حزن المتلقي الأردني والعربي .. فقد كنت أمثل وأسمع النشيج يعلو في داخل الصالة، وآهات وصرخات الجمهور عندما أقول: (لماذا تهدي الحرب لأطفالنا شوارب بيضاء؟!). والملاحظ أن فلاح شاكر، كان يتكلم عن وجع عربي وليس عراقي! فقد قال لي أحد ضباط مخابرات السفارة العراقية وقتها: (والله مسرحيتكم تحتاج تقرير وناني)! وكلمة (وناني) تعني إدخالنا في دهليز لا مفر منه، ولا تمييز بين مؤلف ومخرج وممثل! بعد ذلك قدمنا العرض على مسرح الرشيد في بغداد، وكانت القاعة ممتلئة بالجمهور جلوساً ووقوفاً".

ومن الملاحظ أن من يقرأ الشهادات السابقة الخاصة بمسرحية (الجنة ...) – من قبل مؤلفها ومخرجها وممثلها - يشعر بأننها أمام أبطال في مهمة وطنية، لا أمام فريق فني يقدم مسرحية! وهذا الشعور قرأه فلاح شاكر في عبارات حواري معه، فقال لي: "لم نكن أبطالاً أو جهاديين يقاومون النظام .. بل كُنّا مجموعة من فنانين، حاولوا الاحتيال على الرقيب وأجهزة الرقابة .. لا أكثر ولا أقلّ!".

لماذا قررت نشر مسرحياتك؟

سؤال طرحته على فلاح شاكر أكثر من مرة: لماذا قررت نشر مسرحياتك الآن؟ وفي كل مرة يذكر لي أحد الأسباب الثانوية – التي لا تروي ظمأي المعرفي - دون أن يذكر السبب الحقيقي!! ومن هذه الأسباب، أنه لا يملك نسخاً من نصوص مسرحياته، وعندما حاولت زوجته تجميعها من أجل أرشفتها، لم تنجح بصورة كبيرة؛ لذلك فهو يحاول نشر ما استطاع تجميعه! وعندما شعر بأن هذا السبب غير كافٍ أضاف سبباً ثانياً، وهو أن أغلب نصوصه كان يحتال على الرقباء من أجل عرضها – كما مرّ بنا – لذلك كان لا يهتم بالنشر؛ لأن النشر يعني انتشار أفكاره المكتوبة، مما يعني إثارة المشاكل! وهذا السبب ربما يكون مقنعاً بعض الشيء؛ ولكنه لا يُعد مقنعاً في نظري بنسبة 100%!

وعندما لاحظ فلاح ذلك، أضاف سبباً ثالثاً، وهو إنه عادة لا يكتب نصاً مسرحياً متكاملاً، بل يكتب مشروعاً لنص مسرحي، يحتمل الحذف والإضافة والتعديل! ولهذا السبب تبدأ نصوصه المسرحية بعبارة (سيناريو تخطيطي أولي لعرض مسرحية كذا)!! وعندما يتم التعامل مع فريق العرض في التمارين، يكتب نصاً ثانياً؛ بناءَ على النقاش المتبادل بينه وبين فريق العمل، إضافة إلى إغراء الخشبة، واستفزاز المخرج. وبهذا الأسلوب يكون للعمل الواحد نصان! ويستطرد فلاح في شرح هذا السبب، فيقول: "وبكل أسف بعد أن تنتهي ليالي عرض المسرحية، أفقد الحماس تماماً للعودة إلى النص من أجل تعديله وإضافة ما استجد عليه من تغييرات، وهذا الفتور نحو النص؛ يُعدّ رخصة لعدم نشره، ومسوغاً لضياعه!".

ومن أجل تأكيد هذا السبب، ضرب فلاح مثلاً بمسرحية (الجنة ..)، قائلاً: "نص الجنة تنطبق عليه هذه المعايير! أي أنه يختلف عن نص العرض، الذي أرسلته إليك؛ لأنني لم أرسل لك النص الأصلي؛ لأنه مفقود في الواقع، ومحفوظ في الحقيقة ببيتي في الفلوجة!! ولو كنت أرسلت لك النص الأصلي المفقود، كنت ستجد ضمن شخصياته (رجل دين) متمرداً في حواره الديني! وبسبب هذا التمرد – وبعد نقاش كبير مع فريق العمل – حذفت هذه الشخصية من نص العرض، وأدمجت أقوالها في حوار باقي الشخصيات". ومن الطريف أن نص العرض الذي أرسله لي فلاح شاكر لم يكن في حوزته؛ بل كان في حوزة محمود أبو العباس، الذي قال في رسالته: "أنا أعتبر فلاح شاكر من الكُتّاب الرائعين، الذين أرشفوا لحروب العراق وأثرها على الإنسان؛ ولكنه لا يحتفظ بأرشيف نصوصه! فنص مسرحية (الجنة ..)، استعاره مني أحد الأصدقاء، وأرسله إلى أخي فلاح".

السبب الحقيقي!

لم يطمأن قلبي لكل الأسباب السابقة؛ بوصفها مبررات لقرار فلاح شاكر بنشر مسرحياته الآن!! ولعل فلاح نفسه أيقن عدم اقتناعي بهذه الأسباب، لا سيما بعد أن اقتربنا روحياً بصورة لم أجد تفسيراً لها حتى الآن! فوجدته يعترف لي قائلاً: قررت النشر، لأنني غادرت العراق ولم أعد أكتب مسرحاً! فأنا منذ سنوات لم أكتب شيئاً مهماً .. غيابي عن مسارح العراق، والتمارين مع الأساتذة الكبار .. كل هذا دفعني إلى نشر نصوصي في محاولة أخيرة للتخلص مع الشعور بالعجز المطلق في أن أفعل شيئاً من أجل الوطن! لا سيما وأن معظم مسرحياتي تتحدث عن العراق .. فالنشر هو سلاحي الأخير ككاتب مسرحي!

هذا الاعتراف لم يكتبه لي فلاح في رسالة .. بل كتبه أثناء حواري معه عبر الإنترنت! أي إنه كتبه بمشاعر صادقة! وأمام هذه المشاعر الصادقة، قفزت إلى مخيلتي قصة الشاعر، فقلت له: أنت تريد أن تترك أثرك الإبداعي قبل أن تفارق الحياة - بعد عمر طويل - خشية أن أعمالك هذه تؤرق مرقدك الأخير دون أن تنشرها ويستفيد منها الناس!! فرد عليّ بحب كبير، قائلاً: أنت قريب عجيب في سرعة تواصلك مع قلبي رغم أننا لم نلتقِ سوى مرة واحدة! فقلت له بتلقائية صادقة: أشعر بأنني أعيش معك عمرك كله .. رغم عدم لقائنا سوى دقائق معدودة في الشارقة!!

كلمة أخيرة

عزيزي القارئ .. عذراً على الإطالة! فأنا لم أكتب هذه المقدمة بعقلي، بقدر ما كتبتها بقلبي وبمشاعري! وحتى الآن لم أقف على سبب تعلقي بفلاح شاكر رغم أنني التقيته مرة واحدة ولدقائق معدودة! ورغم ذلك عشت أجمل اللحظات وأنا أقرأ مسرحياته الأربع التي توفرت لي! وأتمنى أن أقرأ جميع مسرحياته (منشورة) في يوم ما. أما مسرحية (الجنة تفتح أبوابها متأخرة)، فلن أتحدث عنها – رغم أن المقدمة لها – لسببين مهمين: أولهما، عدم إفساد معناها وأحاسيس شخصياتها، ومضمونها الذي يجب أن يقف عليه كل قارئ بنفسه .. فالمسرحية لها قراءات متعددة! والسبب الآخر، هو عدم تأكدي من أن النص الذي قرأته، هو النص نفسه الذي سينشر!! فقد مرّ بنا الكلام عن نص أصلي في الفلوجة – ربما يحصل عليه المؤلف – وهو النص، الذي تم حذف نصفه ليكون صالحاً للعرض – كما أخبرنا محسن العلي - وهو النص الذي كان في حوزة محمود أبو العباس! وربما استدعاء الذكريات القديمة – والتواصل بين المؤلف والمخرج والممثل – يكون عاملاً مهماً في تذكر ما تمّ حذفه أو تعديله .. فنجد أنفسنا أمام نص ثالث!!

 

وفي الختام .. أتمنى من الله عزّ وجلّ أن يمدّ في عمر مبدعنا فلاح شاكر حتى ينشر جميع مسرحياته، وهي وفقاً لترتيبها الهجائي، ومن باب التوثيق: اكتب باسم ربك، ألف أمنية وأمنية، ألف حجارة وحجارة، ألف حلم وحلم، ألف رحلة ورحلة، ألف قتيل وقتيل، ألف لعبة ولعبة، ألف محنة في محنته، تفسير الشخير، قصة حب معاصرة، العقاب والجريمة، في أعالي الحب، تفاحة القلب أو عشر ليال ونهار، الجنة تفتح أبوابها متأخرة، حذاء سعيد، الختان والإنسان، دولة الصعاليك، السقوط إلى الأعلى، العرس الوحشي، العقاب، قصيدة حب في زمن الحرب، كذبة بيضاء، كلمات متقاطعة، ليلة محمد الزرقطوني، ليلة من ألف ليلة وليلة، مأساة مؤلف النكات، مائة عام من المحبة، ملك ومهرج ولعبة، مملكة الاغتراب، نعم لدى الجنرال من يخاطبه.

المصدر: فلاح شاكر مسرحي يعيش أسطورة شاعر – مجلة (كواليس) الإماراتية – عدد 39 – فبراير 2015 – ص (104 – 111)
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1463 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

755,100