مسلة كليوباترا من رصيف الإسكندرية إلى لندن
د. سيد علي إسماعيل
كلية الآداب جامعة حلوان
ـــــــــــ
من الصعب حصر جميع المسلات الفرعونية الموجودة خارج مصر في ميادين أو متاحف العالم!! وعلى الرغم من ذلك هناك ثلاث مسلات، تُعد الأشهر من بين جميع المسلات: الأولى المسلة الموجودة في فرنسا، والثانية الموجودة في إنجلترا، والثالثة الموجودة في أميركا. وربما لا يعلم أغلبنا: لماذا هي الأشهر؛ على الرغم من وجود مسلات في دول أخرى – مثل إيطاليا وتركيا - وربما تكون المسلات في هاتين الدولتين؛ هي المسلات الأهم والأقدم!! تفسيري لهذا التناقض، هو: أن إيطاليا بها أكثر المسلات الفرعونية، وتم نقلها أثناء الوجود الروماني في مصر، بوصف مصر جزءاً من الأمبراطورية الرومانية!! وبالمنطق نفسه، المسلة الموجود في تركيا، حيث إنها نقلت أثناء حكم الدولة العثمانية، والتي كانت مصر جزءاً منها! أما المسلات الثلاث، فشهرتها جاءت بسبب نقلها إلى دول أخرى لم تكن مصر تحت سيطرتها!! وبسبب ما قيل عن نقل هذه المسلات من مصر إلى فرنسا وإنجلترا وأميركا، نالت شهرتها حتى الآن، ومازال السؤال مطروحاً حتى يومنا هذا: كيف سمحت مصر بنقل هذه المسلات إلى هذه الدول؟ وهذا السؤال لن أثيره هنا؛ لأنه معروف!! ولكن الجديد الذي أريد طرحه في هذه المقالة، هو: كيف انتقلت هذه المسلات من مصر إلى هذه البلدان؟ وربما سيقول قائل: إن طريقة النقل معروفة ومكتوبة ومنشورة في الكتب والمواقع الإلكترونية!! سأجيب عليه قائلاً: أعلم ذلك، ولكني أريد معرفة ماذا كتبت الصحافة العربية المعاصرة لهذا الحدث عن نقل هذه المسلات؟ هذا هو الجديد الذي أريده .. أريد أن أعرف ما تم نشره قبل نقل المسلات وبعد نقلها، وسأتخذ مسلة لندن مثالاً على ذلك!!
يؤرخ المختصون نقل المسلة الفرعونية إلى لندن بعام 1877؛ ولكن جريدة الجوائب تؤرخ لموضوع النقل قبل ذلك بثلاثة أعوام، عندما نشرت مقالة في ديسمبر 1874، قالت فيها: "كتب أحد الإنكليز .... يقول إني كنت مباشراً بناء جسر على النيل، ولما فرغت منه أتيت إلى الإسكندرية، فسمعت الناس يلغون في نقل العمود المنسوب إلى كليوباترا من هنا، ونصبه في رصيف التامس [التايمس]. ولا ينبغي لي الخوض في تفصيل هذا، وإنما أقول إن نقل هذا العمود وإرساله إلى إنكلتره [إنجلترا] ونصبه في الرصيف المذكور يكلف خمسة عشر ألف ليرة، وهو غير كثير على إحراز هذه الذخيرة النفيسة. وقلت معاذ الله أن يكون هذا العمود هو العمود الملقب بعمود الصواري؛ فإنه زينه الثغر، وإنما يمكن للإنكليز أن يحرزوا عموداً من الصعيد بناءً على ما عهدوه من المكارم الخديوية؛ ولأن الفرنسيس كانوا قد أحرزوا في أيام الملك لويس فيلب عموداً من هناك، غير أن الفرنسيس احتفلوا به فنصبوه بالقرب من التوليري، والإنكليز يريدون أن ينصبوه في رصيف التامس الموحش فهم غير أهل لإحرازه".
هذه الكلمة تشير إلى أن كرم الخديو – في هذه الفترة - تمثل في إهداء المسلات الفرعونية إلى الدول الأجنبية!! وأن هناك خلطاً بين المسلة المراد نقلها، وبين عمود الصواري بالإسكندرية!! أما الطريف في الأمر أن المشكلة عند كاتب المقال لا تتمثل في نقل هذا التراث الفرعوني المصري إلى إنجلترا، بل تتمثل في اختيار مكان وجوده في لندن!! فهو يقارن بين فرنسا، التي وضعت مسلتها – المهداة إليها من محمد علي باشا - في ميدان الكونكورد، وبين إنجلترا التي تريد أن تضع المسلة في رصيف ميناء أو على شاطي نهر التايمز!! وربما الجيد في هذا التفكير هو أن كاتب المقال، يريد أن يكون المكان ملائماً ومناسباً لأهمية هذا الأثر، لذلك أعطى الأحقية لفرنسا في أن تنقل المسلة، ولا يريد لإنجلترا الحق نفسه؛ لأنها لم تختر المكان المناسب لوضع المسلة!!
تابعت الصحف أخبار هذه المسلة، ومنها جريدة الجوائب، التي أشارت - في أكتوبر 1877 – إن الخديو إسماعيل سمح بنقل مسلة كليوباترا من الإسكندرية إلى لندن عن طريق مهندس إنجليزي. وبعد شهر نشرت الجريدة مقالة أخرى عن المسلة، أفادت فيها إن المسلة وصلت بسلام إلى لندن، وبدأت الجريدة تتحدث عن المسلة وما فيها من نقوش وكتابات، ونقلت عن صحف إنجليزية ترجمة ما هو مكتوب ومنقوش على المسلة .. إلخ؛ ورغم ذلك لم تذكر شيئاً عن كيفية نقل المسلة من الإسكندرية إلى لندن، ووصولها سالمة دون أية أضرار!! وهذا يعني أن الصحف المعاصرة لم تهتم بهذه المسلة إلا بعد نقلها إلى لندن!!
أما كيف تم نقل المسلة .. فهذا أمر لم أجده في الصحف العربية؛ إلا بعد نقل المسلة بأكثر من عشرين سنة!! فمجلة الضياء كتبت مقالة في أبريل 1899، تحت عنوان (مسلة كليوباترا)، جاءت فيها بكافة أسرار نقل المسلة، وما تعرضت له من أخطار!! ولأهمية هذه المقالة - حيث إنها أقدم مقالة منشورة في الصحافة العربية، جاء فيها الوصف التفصيلي لعملية نقل المسلة من الإسكندرية إلى لندن – سأنقلها لكم هنا بألفاظها وتعابيرها ومصطلحاتها، وفيها قالت المجلة:
"... مسلة كليوباترا هي المسلة التي نُقلت من عهد غير بعيد من الإسكندرية إلى لندرا [لندن] وقد وقفنا لها في إحدى المجلات الإنكليزية على تاريخ لطيف لعل أكثر أهل هذا القطر لا يعلمون منه إلا القليل فأحببنا نقله للقراء لما فيه من الفكاهة والفائدة التاريخية. أما تاريخ هذا الأثر فهو من عهد الملك تحوتمس الثالث أحد مشاهير ملوك مصر في القرن الخامس عشر قبل الميلاد وهما مسلتان أمر هذا الملك بقطعهما من مقطع أصوان [أسوان] لينصبهما بإزاء العمودين اللذين أقامهما رعمسيس أمام هيكل الشمس في هليوبولس (المطرية) [منطقة المسلة بالمطرية الآن]. وكل من هاتين المسلتين قطعة واحدة من الحجر المعروف بالغرانيت ولا يزال إلى اليوم في المقطع المذكور عمود آخر كان قد شُرع في قطعه ثم تُرك لأسباب مجهولة. وقد بقي هناك من أدلة الصناعة والرسوم الأثرية ما يُعلم منه كيف كانوا يقطعون أمثال هذه الحجارة وينقلونها. وذلك إنهم كانوا يخططون في الصخر رسم العمود ثم ينقرون نُقراً على طول الرسم ويرزُّون في تلك النُقر قطعاً من الخشب ثم يسقون تلك الأخشاب الماء فإذا تشربته انتفشت فانفلق الصخر وانفصل العمود قطعة واحدة فيأخذون في نحته وتسويته. ومتى تم نحته ونقشه وأرادوا نقله يسلكون تحته جذوع النخل حتى تكون بمنزلة عجل يدحرجونها تحته فينتقل عليها حتى ينتهوا به إلى ضفة النيل فإذا كان أوان هبوط النيل أنزلوه إلى الماء على رمث (خشب يُضم بعضه إلى بعض ويُركب في البحر) يبنونه له وتركوه هناك حتى إذا ارتفع ماء النيل زمان الفيض حمل الرمث وما عليه فساقوه إلى المكان المقصود. وقد نقل العمودان المشار إليهما على هذا الأسلوب حتى وصلا إلى هليوبوليس ومن هناك رفعوهما على عربتين كبيرتين قد صنعتا من خشب النخل وغيره وصبوا تحت عجلاتهما الزيت تسهيلاً لجريهما وجرّوا العربتين بالحبال إلى أن بلغوا بهما المكان المعد لنصبهما فرفعوهما على قواعد متينة البنيان محكمة الوضع وقد بقيتا قائمتين في ذلك الموضع ما ينيف على أربعة عشر قرناً. ولما كانت سنة 23 قبل الميلاد أمر أوغسطس قيصر بنقل هاتين المسلتين من هليوبوليس إلى الإسكندرية ليزين بهما مدخل قصره هناك وسماهما الناس مسلتي كليوبطرا [كليوباترا] تبعاً لنسبة القصر لأنه كان من بنائها ولبثتا في الإسكندرية ألفاً وخمس مئة سنة حتى انهدم القصر وعفت آثاره وهما قائمتان في عنان السماء صابرتان على مرّ الحدثان إلى أن جرفت الأمواج ما يليهما من الساحل وانكشفت قاعدة إحداهما وهي التي نحن في ذكرها فاستمرت الأمواج تضربها مدة ثلاث مئة سنة حتى خارت قاعدتها فسقطت إلى الأرض ولكنها لم تُصب بضرر. وفي سنة 1801 حدثت موقعة بحرية بين الإنكليز والفرنسيس في ميناء الإسكندرية كان الفوز فيها للإنكليز فارتأى عسكرهم أن ينقلوا تلك المسلة إلى إنكلترا وينصبوها تذكاراً لتلك الموقعة فجمعوا بالاكتتاب مبلغ سبعة آلاف جناي [جنيهاً] وهمّوا بنقلها على إحدى سفن الفرنسيس التي غنموها ولما شرعوا في العمل هاج البحر هياجاً شديداً وجرف البناء الذي كانوا قد وطدوه لها فذهبت أتعابهم أدراج الرياح ثم وافتهم الأوامر بالسفر فتركوها وانصرفوا. ولما رقي الملك جورج الرابع سرير [كرسي الحكم] إنكلترا وكان ذلك لعهد محمد علي باشا في مصر عرض عليه محمد علي نقل المسلة إلى بلاده فامتنع من ذلك لأسباب وقام بعده وليم الرابع فأعاد عليه الأمر نفسه وزاد عليه إنه هو يسيّرها إليه على نفقته الخاصة فأبى أيضاً. وبعد وفاة محمد علي باشا عاد الإنكليز إلى حديث المسلة وعُرض أمرها على مجلس العموم فمنهم من قال بوجوب نقلها ومنهم من خاف أن يدركها عطب في الطريق فخالف وبقى الأمر كذلك بين رغبة أقوام في اجتلابها واعتراض آخرين إلى أن ابتاع الأرض التي هي فيها تاجر يوناني وأحبّ التخلص منها فكتب سعيد باشا إلى إنكلترا يلح عليهم بالتعجيل في نقل المسلة وإلا فاتتهم آخر الدهر. واتفق سنة 1867 أن كان السير جمس ألكسندر في باريز [باريس] ورأى المسلة التي أهداها محمد علي للفرنسيس وهي المنصوبة في الموضع المسمى بساحة الكنكرد فأعجب بها ولم يلبث أن ارتحل إلى مصر فقابل إسماعيل باشا الخديوي الأسبق واتفق معه على أخذها ثم شرع يسعى في جمع مالٍ لنقلها فاستمر على ذلك مدة عشر سنوات. ولما كانت سنة 1877 شرع في العمل وتولى أمر نقلها مهندس بارع يقال له دكسن على أجر عشرة آلاف جناي. فعمل لها أطواقاً من حديد طوقها بها من الطرف الواحد إلى الآخر ثم غلفها من جميع نواحيها بغلاف من أخشاب متينة حتى صارت أشبه بسفينة تستقل بنفسها على ظهر الماء واستغرق تطويقها وتغليفها بالخشب مدة ثلاثة أشهر ونصف. ولم يكن مرفأ الإسكندرية إذ ذاك صالحاً لأن تدنو السفن من البر فبقيت المراكب بعيدة ومُدت منها سلاسل حديدية جرّوا بها المسلة بقوة البخار حتى أُنزلت إلى البحر فعامت على وجه الماء ثم ركّبوا عليها صارياً وسكاناً (دفّة) وجهزوها بسائر ما تُجهز به السفن وشدّوها إلى مؤخر سفينة تسمى أولغا فسافرت بها من الإسكندرية في 21 سبتمبر سنة 1877. واستمرت في سفرها مدة عشرين يوماً تقطع في الساعة خمس عقد حتى بلغت بحر بسكاي وهناك ثارت عليها العواصف وجاش البحر جيشاناً عظيماً فانكسر الصاري الذي عليها وخشى ربان الباخرة أن يلحق بباخرته ضرر فقطع الحبال بينه وبين المسلة. ولما هدأ البحر استغاث بحارتها بالباخرة فتطوع خمسة من رجالها لإغاثتهم وركبوا قارباً وساروا إلى جهة المسلة فما كادوا يقطعون إلا مسافة قليلة حتى جرفتهم الأمواج وحاول ربان أولغا أن يعود فيقتاد المسلة فأعياه الأمر فتركها في مكانها وتوجه إلى فلموث. ولبثت المسلة هائمة في عُرض البحر حتى انتهت بعد ستين يوماً إلى نواحي إسبانيا على بعد تسعين ميلاً من شمالي فِرَّول ومرّت بها إحدى البواخر فاقتادتها إلى ميناء فيكو من إسبانيا فلبثت هناك مدة ثلاثة أشهر حتى أرسلت حكومة الإنكليز من أحضرها فوصلت إلى إنكلترا في 20 يناير سنة 1878 ونُصبت في لندن على إحدى ضفتي نهر التمس [التايمز]".
هذه قصة مسلة كليوباترا، التي كانت ملقاة على رصيف ميناء الإسكندرية ونقلت إلى لندن، وحتى الآن لم يجرؤ أحد على منع خروج هذه المسلات وهذه الكنوز من مصر، معتمدين في منعها على المناخ والخوارق والخزعبلات، حيث وجدت هذا المعنى في آخر كلمة وجدتها معاصرة لهذا الأمر، وفيها قالت مجلة المقتطف عام 1890، تحت عنوان (مسلة كليوباترا في لندن): "صبرت مسلة كليوبترا وهي في القطر المصري على تقلبات الجو ونوائب الأيام مئات بل ألوفاً من السنين فلما نقلت إلى البلاد الإنكليزية أخذ الهواء ينخر بدنها وقد مضى عليها الآن ست عشرة سنة فنخر منها ثُمن العقدة وبما أن عمق الكتابات التي عليها نحو عقدتين فستطمس هذه الكتابات كلها وتمسى أثراً بعد عين في نحو مئة عام فعسى أن يكون ذلك عبرة للذين يطمعون بالآثار المصرية فلا يحاولوا نقلها من مقرها ولا تعرية هذا القطر مما يفاخر به بقية الأقطار". وللأسف مرّ أكثر من قرن من الزمان، وما زالت مسلة كليوباترا قائمة شاهقة في لندن، دون أن يصيبها أي ضرر!!
ساحة النقاش