ريادات أدبية متنوعة لكاتبة عربية مجهولة

د.سيد علي إسماعيل

كلية الآداب – جامعة حلوان

ـــــــــــــــ

الحمد لله والشكر لله على ما وهبني – الله عزّ وجل - من مهارة النبش واكتشاف الكنوز الأدبية والثقافية المجهولة، تلك المهارة التي تُسعد الآخرين وتُفيد الكثيرين من الطلاب والباحثين، وهو الأمر الذي أتمنى حدوثه من خلال نشر هذه المقالة لما فيها من اكتشافات ريادية متنوعة!! ففيها ريادة تتعلق باكتشاف أول امرأة عربية نشرت موضوعاً في الصحافة العربية!! وريادة أخرى تتعلق باكتشاف أول امرأة عربية تكتب أدباً (نسائياً أو نسوياً) منشوراً في الصحف العربية!! وريادة ثالثة تتعلق بأول مؤلفة عربية نشرت قصة قصيرة في الصحف العربية!! والريادة الرابعة تتعلق باكتشاف نص أول قصة عربية قصيرة منشورة في الصحف العربية، وإعادة نشرها في ختام هذه المقالة!! عزيزي القارئ .. هذه الاكتشافات وغيرها، تلخصها هذه العبارة: " تُعدّ السيدة اللبنانية أديليد البستاني رائدة الصحافة العربية؛ حيث إنها أول امرأة عربية تنشر موضوعاً في الصحف العربية عام 1870، والموضوع تمثل في قصة قصيرة مؤلفة بعنوان (هنري وإميليا)، وبذلك تُعد رائدة القصة القصيرة في عالمنا العربي، والتي فتحت به باب أدب المرأة في الصحافة العربية. ومن خلال موضوع هذه القصة، تستحق أديليد البستاني ريادة الأدب النسائي أو النسوي" .. هذه هي خلاصة الموضوع، وإليكم التفاصيل!!

رائدة الصحافة العربية

منذ عام 1913 والجميع يعلم أن الأديبة مريانا مرّاش (1840 - 1919) الحلبية، هي رائدة الصحافة العربية؛ حيث إنها أول امرأة نشرت موضوعاً في مجلة الجنان!! هكذا قال فيليب طرازي في كتابه الشهير "تاريخ الصحافة العربية"، عندما كتب ترجمة لمريانا، تحت عنوان "مريانا مراش أوّل سيدة عربية كتبت في الصحف السيارة"، قال فيه صراحة: "... وأول مقالة رأيناها لها (شامة الجنان) نشرتها في مجلة (الجنان) في الجزء الخامس عشر لعامها الأول سنة 1870". ولو أمعنا النظر في عنوان الموضوع، سنلاحظ أن الكاتب منح الأولوية أو الريادة لمريانا؛ لأنها كتبت في الصحف، ولم يحدد نوعية الكتابة: هل هي مقالة رأي أم مقالة إبداع؟!! مما يعني أنه منح الريادة لمريانا لأنها (فقط) صاحبة أول موضوع منشور في الصحافة العربية!!

وبهذا المنطق، يحق لي أن أسحب هذه الريادة من مريانا، وأمنحها إلى السيدة (أديليد البستاني)، لأنها سبقت مريانا في النشر الصحفي بقصتها القصيرة (هنري وإيميليا)، المنشورة في مجلة الجنان نفسها، وقبل نشر مريانا لموضوعها بشهر تقريباً؛ حيث إن قصة (هنري وإيميليا) منشورة في قسمين في مجلة الجنان، وتحديداً تم نشر القسم الأول منها في المجلد الثاني للسنة الأولى من المجلة - الجزء الثاني عشر، يونيو 1870، ص(366، 367) – والقسم الآخر نُشر أيضاً في المجلد الثاني للسنة الأولى - الجزء الثالث عشر، يوليو 1870، ص(404 - 407) – أما مقالة مريانا مراش (شامة الجنان) فقد نُشرت في المجلد الثاني للسنة الأولى – في الجزء الخامس عشر - عام 1870م، ص(467 - 468)، أي بعد نشر قصة (هنري وإميليا) بستين صفحة، وبعد أكثر من شهر تقريباً.

أدب المرأة في الصحافة العربية

لن أكتفي بريادة أديليد البستاني؛ كونها المرأة الأولى التي نشرت موضوعاً في الصحافة العربية عام 1870، بل وأقول إنها كانت السبب في ظهور الكتابات النسائية في الصحافة العربية؛ حيث إنها فتحت الباب أمامهن جميعاً!! وهذا الأمر اعترف به مدير مجلة الجنان (سليم البستاني 1848 - 1884) – عندما أقرّ ضمناً بهذه الريادة، وكتب تعليقاً في نهاية قصة (هنري وإيميليا)، قائلاً: " إذ كان بعض السيدات يشاركن السادة في قراءة الجنان، يحق للسادة أن يكون لهم شيء من قلم السيدات الرائق اللطيف، وها قد انفتح باب الجنان للسيدات". وهذا القول يثبت دون أدنى شك أن قصة (هنري وإيميليا) لأديليد البستاني، هي أول مقالة منشورة في الصحف العربية، ومن خلالها فُتح الباب أمام الكاتبات العربيات.

ريادة أم ريادات؟!!

من الواضح أن أمر اكتشاف قصة (هنري وإميليا) القصيرة، لن يتوقف عند ريادة كاتبتها أديليد البستاني للصحافة العربية، أو ريادتها لأدب المرأة في الصحف، بل سيتخطى ذلك إلى ريادتها لكتابة القصة القصيرة في عالمنا العربي؛ حيث إنني لم أسمع أو أقرأ – حسب علمي - بوجود قصة قصيرة مؤلفة عربياً ومنشورة في الصحف العربية قبل عام 1870!! مما يعني أن أديليد البستاني، تُعدّ رائدة القصة القصيرة في العالم العربي!! وهذا الأمر يدفعنا إلى إعادة التفكير في مصطلحي (الأدب النسائي) و(الأدب النسوي) ومكانة ما كتبته أديليد البستاني منهما!! فهل قصتها القصيرة تدخل في نطاق ريادة الأدب النسائي أم ريادة الأدب النسوي؟!! فالقصة تدور أحداثها حول رابطة الحب الشريف، التي جمعت بين هنري وإميليا، وتدخل الحسد من قبل صديقتي إيميليا – حنّة ومرثا - عندما قامتا بتدبير مؤامرة؛ لإشعال نار الغيرة بين الحبيبين، وتنجح المؤامرة في إبعاد الحبيبين فترة من الزمن، ولكن حنّة تندم على فعلتها، وتعترف بجريمتها، وتنتهي القصة بزواج هنري من إيميليا. فهل هذا الموضوع يدخل ضمن الأدب النسائي أم الأدب النسوي؟!!

خاتمة مبكرة

مهما يكن من أمر هذه الريادات المتنوعة، التي ظهرت في هذه المقالة، بفضل اكتشاف أول قصة قصيرة منشورة في الصحف العربية من قبل امرأة لبنانية عام 1870 .. إلخ، فمن حق القراء أن يطلعوا على النص المكتشف وقراءته – كما نُشر لأول مرة عام 1870 بأسلوبه وإملائه وكلماته وتعابيره – ليهتم به الدارسون، لعلهم ينظرون إليه بعيون جديدة، ويفكرون في هذه الريادات، وكيفية التعامل معها حالياً ومستقبلاً .. وإليكم نص القصة القصيرة المكتشفة:

هنري وإميليا

( من قلم الست أديليد بستاني )

إنه لشدة الحرّ في المدن عند دخول الصيف يذهب البعض من الأهالي إلى الجبال خوفاً من الأمراض وهذه العادة ليست في بلادنا فقط بل في أوروبا أيضاً فالبعض يذهبون إلى الجبال والبعض إلى محلات مبنية على شطوط البحر لتغيير الهواء والتنزه ففي صيفيةٍ ما التقى ثلاث سيدات وخواجا فالسيدة الأولى اسمها مرثا وكانت أرملة في وسط عمرها ولم تكن خالية من الجمال والثانية اسمها حنة وكانت حنة سمراء اللون سوداء العينين ذات قدّ معتدل. والثالثة اسمها إميليا وكانت بيضاء اللون زرقاء العينين ووجهها كالبدر وعنقها كالبور الصافي طويلة القامة رقيقة الخصر. فبعد مضي خمسة عشر يوماً قويت علائق الألفة بينهم جميعاً وسرّوا جداً بتلك المصادفة لأن ذلك الشاب اللطيف كان يلاطف تلك السيدات ويعاملن بكل رقة ومحبة. فبعد الاختبار وجد أن رقة ووداعة ولطف ونقاوة قلب السيدة إميليا تفوق ما لرفيقتيها من ذلك فمال قلبه إليها وكان يلازمها ويقدم لها كل خدمة تأول إلى سرورها وراحتها وكان إذا جلسوا على المائدة يقدم لها من جميع الأطعمة اللذيذة قايلاً [قائلاً] يا سيدة إميليا أتسمحي لي أن أقدم لك قليلاً من هذا الطعام. فتأخذ قليلاً وتشكر فضله. وكانت إذا تكلمت ينتبه بكل إصغاء إلى كل حرف من كلامها. وأما المساعدة التي كان يقدمها للسيدتين مرثا وحنة إنما كانت ناتجة فقط عن واجبات الرجال بمساعدة النساء. فلم يمض إلا أيام قليلة حتى اضطرمت في قلب تينك السيدتين نيران الحسد والبغض. فأخذتا تهتمان بتدابير ما يمنع ازدياد المحبة بين ذلك الشاب وتلك الصبية. فاتفق أن الخواجا هنري خرج ذات يوم إلى حرش مجاور لتلك اللوكاندة لأجل الصيد وأما السيدات الثلاث فبقين جالسات في قاعة مزينة بالزهور الجميلة وكانت في إحدى زواياها آلات موسيقية. وبعد ما مللنَ من التكلم عزمت السيدة إميليا على أن تلعب بعض أنغام لطيفة لطرد الأفكار المزعجة التي كانت تجول في خاطرهنّ فجلست بلطف وبساطة على كرسي قدام آلة الموسيقى وابتدأت تلعب بتلك الأنامل الظريفة قارنة صوتها الرائق الرخيم بصوت الآلة. وعند ذلك التفتت السيدة مرثا إلى السيدة حنة وأومأت إليها أن تتبعها فخرجتا من القاعة إلى حجرة النوم ولما دخلتا إليها وقفلتا الباب قالتا إن هذه هي ساعة التدبير ماذا يجب أن نفعل لننال المرام. فقالت السيدة مرثا لا تخافي يا عزيزتي إني قد دبرت حيلة احتال بها على الخواجا هنري فقالت السيدة وما عسى أن تكون حيلتك. فأجابتها اصبري إلى المساء وستنظرين ما هي الحيلة وترين إني سأنجح في كل تدبيري. فأجابتها يا عزيزتي إني لا أشك بحذقك وحسن تدبيرك. وأما السيدة إميليا فبعد ما ملّت من الترتيل ورأت أن رفيقتيها قد تركتاها خرجت من القاعة لتفتش عليهما فلما رأت باب حجرة النوم مغلقاً لم تطلب الدخول بل قالت في نفسها أذهب إلى العين التي بالقرب منا وأنتظر غروب الشمس. فلبست برنيطتها وشالها وتوجهت نحو العين فقبل وصولها إلى العين ببعض خطوات سمعت صوت تنفُّس فنظرت وإذا رجل مضطجعاً وقد أصابت الشمس وجهه فتقدمت قليلاً ونظرت فوجدت إنه الخواجا هنري فرقّ له قلبها وخلعت شالها ونشرته على شجرة فوق رأسه ليمنع الشمس عن وجهه الجميل ومضت وجلست بجانب العين. ثم بعد قليل هبّ هنري من نومه ونظر وإذا شال منشور فوق رأسه فتفرس فيه فعلم إنه شال السيدة إميليا فنهض وحمل الشال على ذراعه ومضى ليفتش عليها. فلما وصل إلى العين وجد تلك السيدة اللطيفة جالسة بجانب العين تصغى إلى دوي الماء فحياها وقال أهذا الشال شالك فتبسمت وأحنت رأسها وكانت علامة الحياء تلوح على وجهها وقالت نعم. ثم أخبرته بما جرى فشكر معروفها وقال أتسمحين لي أن أجلس هنا قليلاً فقالت حباً وكرامةً فجلس بالقرب منها وأخذ يكلمها قائلاً انظري يا سيدتي ما أجمل هذه المناظر التي حولنا. فأجابته حقاً أنها لجميلة جداً فقال ولكن يوجد هنا منظر أجمل وأظرف من كل هذه وأومأ إليها فقالت له من أين لك هذه الجسارة أن تقول لي هكذا فعند ذلك طلب منها أن تسمح له أن يضع خاتمه في يدها علامة الخطبة فسمحت له قائلة لا تتعجب من سرعة الجواب لأن لطفك وجميع خصالك الحميدة وفطنتك جذبت قلبي إليك فسره ذلك جداً. وبعد ذلك ببرهة نهضا راجعين إلى اللوكاندة. فلما وصلا رأيا السيدة مرثا وحنة كانتا تنتظرانهما للعشاء فجلسوا جميعا على المائدة وابتدأوا يتكلمون بأمور مختلفة. ولما رأت السيدة مرثا الخاتم الذي كان في يد السيدة إميليا اندهشت ونظرت إلى السيدة حنة وقالت بصوت منخفض انظري إن هذا الخاتم ليس هو إلا علامة من الخواجا هنري فإني ما نظرته في يدها إلا الآن. فمن تلك الساعة عزمت على إجراء حيلتها. فلما فرغوا من العشاء ذهب كل إلى حجرته واستغنمت السيدة مرثا الفرصة ومضت إلى الخواجا هنري وقرعت باب حجرته وقالت له أتأذن لي أن أدخل فقال أهلاً وسهلاً من أين حصل لي هذا الشرف أن أجد السيدات يدخلن وينرن حجرتي هذه المظلمة الخالية من هذا الجنس اللطيف. فأجابته إن دخولي إلى هنا ليس إلا لأقدم لك نصيحة تأول إلى راحة حياتك المستقبلية ولو لم أحسبك كأخ لي لم أتجاسر أن أذكرها. فقال ما عسى أن تكون نصيحتك فإنك أشغلت بالي بهذا الخبر فتكلمي حالاً. فقالت له يصعب عليّ أن أرى شخصاً فريداً مثلك ينقاد إلى هذه الخبيثة المحتالة الخالية من الحاميات وينخدع بكلامها الباطل. فأجابها مرتعداً أتعنين السيدة إميليا فقالت معم. فأجابها بصوت مرتعد وقد علا وجهه الإصفرار كلا كلا إني لا أظن أن كلامك هذا له أصل. فأجابته بما إنك لا تصدق كلامي فإن شئت فسترى بعينك. وعند ذلك يتضح لك حقيقة هذا الكلام. فقال إني لا أصدق شيئاً عن السيدة إميليا الجميلة اللطيفة الخالية من الغش والخداع حتى أنظر بعيني. فأجابته إنك في هذه الليلة بعد غروب الشمس بثلاث ساعات تجلس بجانب الطاقة المشرفة على شطوط البحر فترى ما يحدث. فلما فرغت من كلامها خرجت من عند الخواجا هنري وتركته غائصاً في بحار التفكير ينتظر تلك الساعة برغبة عظيمة. فلما قرب الوقت جلس بجانب تلك الطاقة وبينما هو على تلك الحالة نظر وإذا شخصان يتمشيان على شاطئ البحر. فقال في نفسه يا ترى من هما هذان وبعد أن تفرس قليلاً رأى شاباً لطيفاً واضعاً يده في يد السيدة إميليا. فقال وا أسفاه ما هذه المصيبة هل أنا في يقظة أو في حلم. إني لا أصدق عيني. ماذا أفعل. ثم أشرف ثانية من الطاقة وتحقق أن تلك السيدة هي السيدة إميليا. فمن تلك الساعة اشتعلت في قلبه نيران الحسد والبغض نحو ذلك الشاب وتأسف على محبته وأمانته وإركانه إلى السيدة إميليا وطرح نفسه على سريره قائلاً ما هذه المصيبة أيمكنك أيتها العزيزة التي أظهرت لي محبتك ووداعتك وصدقك أن تفعلي بس هكذا. فبقي على تلك الحالة الليل كله. ولما أصبح الصباح قال في نفسه لا بد من الافتراق ولكن مع كل هذا بقيت محبتها في قلبه. فعزم على السفر فجلس قدام مايدته [مائدته] وكتب لها كتاباً قاصداً أن يحتال به عليها. وهذا ما كتبه. الليلة ورد لي تلغراف من مدينة لندن يخبرني بوفاة أبي ويطلب حضوري حالاً لاستلم الأموال وكل ما يخصه. فأرجوك يا عزيزتي أن تعذريني لعدم إمكاني أن أودعك. فبعد ما تهيأ للسفر ذهب إلى صاحبة اللوكاندة وأعطاها المكتوب قائلاً لها أرجوك أن تعطيه للسيدة إميليا عند خروجها من حجرتها ثم ودعها وذهب. وأما السيدة إميليا فذهبت كجاري عادتها إلى حجرة الخواجا هنري لتدعوه للذهاب معها إلى الفطور فلما وصلت إلى الباب قرعت ووقفت تنتظر الجواب فلم يكن من مجيب فقالت لعله مستغرق في النوم فقرعت ثانية فلم يأتها جواب. فعند ذلك رجعت تطلب رفيقتيها وبينما هي ذاهبة لقيتها صاحبة اللوكاندة وأعطتها المكتوب ففتحته بسرعة وقرأته ثم ذهبت وأخبرت مرثا وحنة بما جرى. فبعد مضي بضع أيام تجهزن للسفر لأن الوحدة غلبت عليهنّ وذهبت كل واحدة منهم إلى وظنها. أما السيدة حنة فلما رأت أنها لم تستفد شيئاً من حيلتها ندمت جداً. وقالت في نفسها ماذا جرى وماذا فعلنا إن فعلاً كهذا يجلب غضب الباري علينا لأننا قد أخطأنا ضد تلك السيدة البرية وربما يكون ذلك سبباً لتكدير عيشها كل حياتها. فعزمت على كشف الأمر وطلب السماح من الخواجا هنري والسيدة إميليا وكتبت في الحال ثلاثة مكاتيب إحداها للخواجا هنري والثاني للسيدة إميليا والثالث للسيدة مرثا تدعوهم إلى بيتها ليصرفوا ليلة في الحظ والانشراح. فبعد وصول الجواب من كل منهم بأنهم سيحضرون في الوقت المعين ابتدأت بإعداد بيتها وترتيبه ولا سيما قاعة الاستقبال فإنها زينتها بعروق خضر وزهور جميلة حتى كنت إذا دخلت إليها تظن إنك في أجمل جنينة. ثم بعد ما أكملت ما يلزمها لبست ملابسها الفاخرة وحلاها الثمينة وجلست تنتظر ضيوفها. ففي الساعة الثانية من الليل أتى الخواجا هنري برفقة السيدة مرثا فتعجبت السيدة حنة من ذلك الأمر فسألتها قائلة يا للعجب كيف هذه المصادفة إني أعلم إنكما لستما ساكنين في بلاد واحدة فأجابها الخواجا هنري أما بلغك إني مزمع أن أتزوج بالسيدة مرثا بعد ثلاثة أسابيع. وبينما هنا في هذا الكلام وإذا السيدة إميليا داخلة في الباب فلما رآها الخواجا هنري والسيدة مرثا تعجبا لأنهما ظناً إنهما قد دُعيا وحدهما. وأما السيدة حنة فلاقتها إلى الباب واستقبلتها بالترحاب فحيتهم جميعاً بالسلام وجلست متعجبة من هذه المصادفة. فبعد ما صرفوا برهة يتكلمون عن أشياء مختلفة التفتت السيدة حنة إلى السيدة إميليا وقالت لها ما أجمل هذه الزهور البيضاء التي على رأسك وما أنقى هذا الثوب المخمل الأبيض الذي لا يشبه إلا نقاوة قلبك الخالي من الغش والرداءة ثم التفتت إلى السيدة مرثا وقالت لها كم يليق لك هذا الثوب الأسود المرصع بأحجاره الكريمة إلا أنني قد نظرتك مرة في ثوب كان يليق لك أكثر من هذا فأجابتها متى كان ذلك فقلت لها أما تتذكرين تلك اللية التي لبست فيها ونحن في اللوكاندة ثوب رجل ونزلت أنت والسيدة إميليا إلى شاطئ البحر وكنتما تتمشيان ويدك بيدها فلما سمعت ذلك ارتعدت فرائصها وخافت خوفاً شديداً. أما الخواجا هنري فلما سمع ذلك كاد يغيب عن الرشاد واشتعلت نيران الغضب في قلبه وتقدم نحو السيدة مرثا وقال يا للعجب أهذا فعلك ومحبتك لي كيف أمكن للشيطان الحسد الخبيث أن يقودك إلى فعل كهذا وأما عي فلشدة خوفها بقيت صامتة ولم تقدر أن تجاوبه بكلمة ثم التفت إلى السيدة إميليا وقال لها العفو والمعذرة أيتها الحمامة الوديعة المسربلة بهذا الثوب الأبيض النقي الذي لا أشك بأنه يدل على نقاوة قلبك ثم ركع على ركبتيه أمامها وطلب منها الصفح عن كل ما صدر منه. أما هي فكانت لشدة حيرتها وتعجبها تلتفت من الواحد للآخر ولم تجاوبه بكلمة وهو لشدة فرحه صرخ قائلاً جاوبيني حالاً وإلا أموت كمداً. فاستفاقت حينئذٍ من غفلتها وسامحته على ما مضى. فقام وتقدم نحو السيدة مرثا وقال لها قومي واخرجي من هنا ولا تدعيني أنظر وجهك بعد ثم التفت إلى السيدة حنة وشكر فضلها وطلب منها أن تحسب أنها كأختٍ له والتمس من السيدة إميليا أن تتهيأ للعرس بعد أسبوعين فلما حان الأوان زفت إميليا على هنري وقضيا حياتهما بالحظ والمسرات إلى أن فصل بينهما هادم الملذات وأما مرثا فذهب كيدها في نحرها فماتت غيظاً وكمداً. ومن هنا يستفاد أن من حفر لأخيه حفرة يسقط هو فيها وأن حبل الكذب قصير انتهى. [تعليق صاحب المجلة] إذا كان بعض السيدات يشاركن السادة في قراءة الجنان يحق للسادة أن يكون لهم شيء من قلم السيدات الرائق اللطيف وها قد انفتح باب الجنان للسيدات.

المصدر: جريدة القاهرة - عدد 969 - بتاريخ 12 فبراير 2019
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 247 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

826,351