قراءة نقدية لديوان
سكندريا يكون الألم – شعر حلمي سالم
جمال القصاص
هذا هو الديوان الثالث للشاعر حلمي سالم بعد ديوانيه "حبيبتي مزروعة في دماء الأرض - 1974" , "دهاليزي – 1977". وبهذا الديوان تشف تجربة الشاعر عن مرتكزاتها الفنية وأهم هذه المرتكزات هو اعتماده الإيقاع الصوتي المفرد, كحقل للدلالات والمستويات الجمالية للفعل الشعري, وكبديل يغاير الوحدة الموسيقية المعروفة.
ومع تسليمي بان باب التجريب مفتوح على مصراعيه أمام كل شاعر بشرط أن يؤسس هذا منتوجا شعريا له مبرره الفني والجمالي الذي يرسخه, ويدنو به للإضافة الحقيقية, والجدة المتميزة, إلا أن الأمر مع حلمي سالم قد اختلف قليلا ....., فهذا الإيقاع عنده غالبا مايقف عند حدود الدلالة الشعورية للصورة الشعرية, فلا تقدم لنا سوى عالم الحس بما هو عليه, وتبدو القصيدة نسقا متهرئا من التراكيب اللغوية ذات الجرس الصوتي المغلف بالجناس المجازي, والتكرار اللفظي, ويأخذ التعامل مع الزمن شكل الرصد العادي, والومضات الشاردة, ومن ثم نستطيع أن نفصل تماما بين مستويات الشعور واللا شعور, بين الرمز ومرموزه, بين الزمن ككتلة وصيرورة, وبين الزمن كقفز, وفقر التوصل إلى شكل.
يدخل كل هذا في نسيج العالم الشعري عند حلمي سالم, فيجعل القصيدة تقف عند حد طموح: استلاب الواقع من استاتيكينه, وإذا ماعجزت بذاتها عن ذلك, فلا بأس من اشاعة الفوضى الفنية على السطح ... بعيدا عن الجذور, فالإيقاع عنده كبنية صوتية لا يؤسس علاقات جديدة في اللغة, بقدر ما يقف عند حدود الهدم للطبيعة الغيرية لهذه العلاقات. انه إيقاع مشحون بكثافة الحس, وجرأة الأسر, والغزو, لكنه ينتهي إلى نزق سريالي متناثر البنية والكثافة الفنية....., الأمر الذي لا يجعل للقصيدة أي حضور ممتد, بل يظل حضورها طيفيا, وآنيا, وعلى مستوى سماع (ما) بمعنى أدق (حضور زماني). ولا يتولد هذا الإيقاع من دراية جيدة بطبيعة اللغة وولادتها المستترة, إنما بنسقها المباشر, الأكثر نبرا ورنينا.
يدخل الصباح الصباح
فتهدأ الجراح غنوة الجراح
****
خذي المدى مني والسماء
خيمتي التي سميت فرحة ....
بالبحر وابتهاجا
لم تعد فرحة بالبحر
وابتهاجا
والكائنات التي كانت
صلبة على الماء
لم تعد صلبة على الماء
خذي المدى مني والسماء
****
إذا الملتئم انجرح
كل قوس هاهنا: قزح!
إن رؤية الشاعر مختمرة بالواقع, وروائحة المتباينة, وضاغطة على مستويات الفعل النبيل بين ركامه وهشاشته, ولكنها في لحظة التحقق الفني تستقطب ظواهره الواضحة المباشرة, وفي طور آخر تنمو بمعزل عن كل هذا.
ولا يفضي هذا إلى غرابة وإنا ثمة "فانتازيا" تفتقد السند الفني, مشكلة حشو وزوائد لا مبرر لها. ويخلق هذا نوعا من التوازي الذي يلبس شكل رد الفعل, أو الإنعكاس المنطقي لمجمل حركة الصراع على مستوى الواقع.
جرائد الوطن
فتانة, مثقوبة في المحن
اجتماع يستمر ساعتين أو دهرين
حكومة, محكومة خططت لخطة
الحلول والمثول والقبول
قمة وربوة, وقمة وربوة
على الغابات والتلول
****
أصداء وسيعة
وأصداء تضيق
هل يلوح في جلبابي الحريق
أم لايلوح في جلبابي الحريق
****
كنت في نخل طهطا مفتشا عن
قناع يرتضيه وجهك الكليل
وكنت في عباءة الأقدمين
باحثا عن ركيزة جمالية تقيم
موتك الهوائي.....
وكنت في مظاهرات (68)
****
هذا المضمون التقريري الواضح يختزل عناصر الصورة الشعرية, فيجعلها اقرب إلى المقولات الإنشائية, بينما تتراوح اللغة بين مستويين أحدهما: (شارط – شارح) والآخر (دال – مغاير), وبين هذين المستويين تتقافز الصورة وكل تكنيك القصيدة بين الغنائية الفردية, والتركيبية, وفي كلتا الحالتين يتراوح أيضا منتوج الرمز بين الجودة الفنية وهبوطها, فالرمز لا يخرج عن دلالته المباشرة, ولا يفتح أفقا للإيحاء, بل يظل في مستوى محدد, ثابت.
وبرغم نجاح الديوان - في مناطق قليلة – في تحقيق مستوى شعري طيب على المستويين: الفردي والتركيبي, إلا أن سلبيتهما تقف عائقا جماليا أمام تحقق رؤية كلية للديوان, تتضافر فيها كل القصائد, وعناصر التجربة الشعرية, فالغنائية الفردية كثيرا مايعتورها التكرار اللفظي, في غيبة التصعيد الفني, والتركيبية كثيرا مايعتورها التضمين والرصد المنطقي الذي يفقد الصورة كثافتها الشعرية.
هذه الزنابق الملغومة, الجماجم
المعشوقة, الرملة المهمومة,
المهجة المحمومة, الغزالة المغلولة,
النوافذ المقفولة, المناطق المجهولة ...إلخ
****
إذا القاتل انفضح
المعتم اتضح
جراح على جراح
الخائنون مطلقو السراح
ودبت على حفيف الطريق
صوب جميزة القيادة السياسية الظليلة
وصاحت في عريها الاستراتيجي الغريق
لا الغصن غصن, ولا التين تين
هاهو .... وطن حزين
بينما يلوح الهم الجمالي, ويكتسب بعدا فاعلا:
الجزيرة ابتنت هياجها في واصطفتني
ساعة الاصطفاء خيرتني بين كائنين
فاخترت كائن السيولة التي تسيل مني
قربي إلى حدقتي
ها أنا أبصر المدى مكونا من حزمتين صاعدتين:
فوق البحر حزمة مبلولة,
وفوق البحر حزمة مبلولة,
وفي هياج الندى خيرتني
وفي مجموعة القصائد القصيرة ينفلت الديوان من تخومه السابقة ويلبس إيقاعا شعريا آخر, حيث يبرز صفاء حاد للرؤية, وتوظيف راق للرمز, حيث قانون القصيدة يتسيد كل شئ, وتتحرك الأشياء بجاذبيته ووفق خصوصيته, ويصبح حضوره هو القافز والطاغي, ويشف الديوان عن زمن بعيد خاص, حيث كل شئ ينمو في العمق باتجاه القصيدة, وتكتسب الكونيات البسيطة, ومفردات الرمز حسا جدليا بكرا في غاية الانسجام والبراءة
نخلة تلهمني فجوري
تدور بي عند دربي
وبي عند دوري
أسلمت نوري لعتمتي
وأسلمت عتمتي لنوري
****
لي أنا الوفت, لي أنا الميلاد
لخطواتي البلاد
أنا الذي لايعاد حينما يستعاد
وككل ............القصيدة عند حلمي سالم تضع نفسها في الوجود مغامرة, وإمكانية للدائم, ليست مكتملة بذاتها, ولكنها مستعدة للتكامل, تعتمد الزمن كحركة وفعل, طامحة الا أن تظل هي فهم تواصلا لا ينقطع, وسؤالا لا يعرف الإجابات المكتملة .......
وإنما يعرف الأفق المفتوح اللانهائي.
إضاءة 77 (نحو قصيدة جديدة) العدد الثامن أكتوبر 1982