قراءة في "الأبيض المتوسط"
ديوان الشاعر حلمي سالم
إدوارد الخراط
لا أظن أن أية قراءة لشعر حلمي سالم يمكن أن تهمل إشارة – مهما كانت عابرة – "إلى إضاءة 77" فهو لا ينتمي إليها فحسب, بل هو أحد مؤسسيها, ومنظريها أيضا.
في العدد الأول, التي هذه "المجلة – الجماعة – الحركة" في يوليو 1977 نجد برنامجا واضح المعالم – بل أحيانا قاطع الحدود – إلى درجة لعلها أكثر حدة مما يتطلب الأمر:
"تنطلق إضاءة 77 من مفهوم للفن يتجاهل – بداية – تلك الخرافة الساقطة: الشكل والمضمون, إن الفن في هذا المفهوم, إدراك جمالي للواقع, لا يعكسه آليا, بل يخلق بطرائق التعبير المجازي موازاة رمزية لهذا الواقع. فهو إذن: موقفً وتشكيله. موقف من العالم وتشكيل لهذا الموقف, يفصح عن طبيعته النفسية والفكرية والطبقية.
إن أي جهد لغوي لا يصبح – في هذا المفهوم – ترفا أو تعالياً منفصلا, فاللغة – تلك التي تجسد الحاجة والتطور الاجتماعيين – هي عماد الكتابة. أي عماد تشكيل موقف الفنان من الواقع الطبيعي والاجتماعي".
ثم نجد في العدد الثاني, ديسمبر 1977, هذا النص عكوفا من "إضاءة 77" على مسألة اللغة: "إن اللغة – بما هي كائن اجتماعي – هي أداتنا الفنية الخاصة. وعلينا أن نعمد إلى تفجير الإمكانيات اللانهائية لها, من خلال كشف الطواعية الجمالية للكلمات, وامتلاك ناصيتها. وهي طواعية تنظر إلى هذه الكلمات أو المفردات اللغوية على أنها كائنات قابلة فنيا , لأن تنتظم في سياق من العلاقات الجمالية تتفاعل وتتناغم في مستوياتها الثلاثة الرئيسية: الكلمة بوصفها جرسا موسيقيا, والكلمة بوصفها دلالة اجتماعية, والكلمة بوصفها قابلية تشكيلية أو تركيبية".
وفيما بعد:
".. إن هذا المفهوم – مفهوم الشعر عند إضاءة 77 – لن يستقيم إلا باعتبار اللغة, كأداة ذات طبيعة نوعية خاصة, وباعتبار أن العمل الفني – كواقع - وليس تصويرا لواقع – له قوانين نوعية مستقلة".
على أن هذه النصوص النظرية التي تمثل عقيدة حلمي سالم الشعرية, هو وإضاءة 77, لا أظنها ستكون في غنيةٍ عن أن تستكمل بنصٍ لم يشترك في كتابته حلمي سالم, فيما أظن وقد جاء النص في العدد الثامن أكتوبر 1982, حين كان شاعرنا في بيروت, ولكنه نصٌ له أهميته: "بالشعر – ممتزجاً بالأساطير – كان وعي الإنسان الأول بالوجود, وما زال للشعر نفس دوره وفعالياته الأساسية في تقدم الوعي الإنساني . . إن ارتباط الوعي بزمنه التاريخي وتشكيله في عالم اللحظة الحاضرة والمكان الحالي, يجعلنا نركز على زمنية فعلنا الشعري و آنيته في الوقت نفسه, فنحن داخل الزمن, ولسنا خارجه .. إلى آخره".
لا تريد هذه القراءة لشعر حلمي سالم في "الأبيض المتوسط" أن تخوض عباب المناقشة النظرية لهذه العقيدة الشعرية, و لا أن تفحص طويلا في الاجتهاد النقدي الدؤوب وردود الفعل الذي أثارها هذا الاجتهاد. والتي ظهرت على صفحات "إضاءة 77" نفسها. وإنما تريد فقط – الآن – أن تضع هذا الفرش النظري لحساسية شعرية سنرى كيف يكون هو نفسه, هذا الهم بما هو الشعر, ما هو الفن, و ما علاقته بالواقع, خبرة شعرية, تجربة شعرية, ومعاناة شعرية, هو نفسه سيكون المضمون الشعري – مهما غضب حلمي سالم عليَ إذا استخدمت هذا المصطلح – أو المحتوى, أو الموقف, حسب حسب الاصطلاح الذي يرضيه. فلا شك طبعا أن المصطلح, أياً كان , لا يعني , بالضرورة, وفي كل الأحوال, طرحا مغلوطا للقضية. ولا شك أننا في غنية – تماماً – عن أن نعود لنؤكد من جديد أن استخدام المصطلح ليس إلا مجرد أداة , أو حيلة نقدية – حيلة بالمعنى الجيد – لا شأن لها بحكاية الوحدة الجدلية في القصيدة, أو علاقة الموقف بالتشكيل, إذا شئت, أو بتضافر العلاقات الجمالية البنائية والعلاقات الاجتماعية والواقعية .. إلى آخر هذه المسألة المشهورة جداً . . أظن أننا عندما نقرأ الفن يمكن ألا نتهيب اقتطاع الجزئي من الظاهرة, ما دمنا نصدر عن كلية الظاهرة نفسها.
"الأبيض المتوسط" هو الديوان الرابع لحلمي سالم, بعد اشتراكه مع رفعت سلام في "الغربة والانتظار" 1972, أصدر "حبيبتي مزروعة في دماء الأرض" 1974, و "دهاليزي" 1977, و "سكندريا يكون الألم" 1981.
و أول قصائد هذا الكتاب كتبت في أبريل 1975, و آخرها في أغسطس 1980, فيما عدا الأخيرة التي كتبت في بيروت 1982.
فالمرجع الاجتماعي و السياسي لها – إذن – ماثل للأذهان, بل ماثل في هذا الشعر مثولا قويا, من الأول للآخر. فقد كانت هذه الحقبة, كما قلت من قبل في موقع أخر, هي حقبة هزيمة الآمال الكبيرة , وتمزق الذات الجماعية عقب انحسار هذه الآمال, والتضاد الجارح بين الشعارات المجلجلة والتحقيقات المحدودة و المشروطة, واقتحام القيم الاستهلاكية, و أزمة الهوية المصرية , وازدواجية سلم القيم القائمة على كل المستويات, إلى آخر الصورة, وفي إطار هذا المرجع تأتي الإيماءات أحياناً, مستخفية تحت دوالٍ شاملة ومعقدة طوراً, أو سافرة مباشرة طوراً آخر, ولكنها ملحة وضاغطة في كل الأحيان.
* * *
منذ أول قصيدة في "الأبيض المتوسط" وإن كان ترتيبها التاريخي ليس هو الأول , بعنوان "بزوغ" على صغر القصيدة, وبساطتها النسبية, يمكننا نحن أيضاً , أن نلمح بزوغ قسمات أساسية في الخبرة الشعرية عند حلمي سالم. والقصيدة قصيرة جداً, فاسمحوا لي أن أقرأها كاملة:
حنجرة في الميدان يصبحون.
ترُّش النوافيرُ باللبانِ والمِسكِ والليمون
جسمين عاريين.
جسمُ الفتاةِ طَيّعٌ كَلِيم.
جسم الفتي طيعٌ كَلِيم.
يتلاصقان
يتداخلان
يتسامقان
بحجم الميدان يصبحان.
* * *
الكائنُ الذي لا يختفي ولا يبين
مهيمنٌ علي نوافذ الحضور والاغتباطْ
هو الكائنُ السِراط.
* * *
يرشقون في تداخل الجسمين وردا
يتجمعون
يتراقصون
في بهجة البدن المصفَّي يركعون
ويسبّحون.
يتجردون
يتلاصقون
نارًٌ وأغنيةٌ وليمون
صار الميدان جسداً يدخل جسداً
إن لغة تكونت،
إن شعباً ابتدا.
لا أريد أن اثقل على هذه القصيدة القصيرة والجميلة بأكثر مما تحتمل. ولكني أقرأ فيها على الفور, ملمحين أساسيين في حساسية حلمي سالم, هنا نجد التيار الشبقي الذي يلون , بل يكون جل مفرداته ولبناته الشعرية يتجاور (و لكنه لا يتحاور) مع التيار أو الهم الاجتماعي الذي ما يفتأ يلح على الشاعر ويفرض نفسه عليه في قصيدة تلو قصيدة, بغير هوادة.
هذه الثنائية الأساسية, إذن, يمكن أن نراها على أكثر من مستوى: على مستوى أول, بين التركيبة الجسدية الحسية من ناحية وبين التركيبة الجمعية من ناحية أخرى. وعلى مستوى ثان في داخل التركيبة الجسدية نفسها: جسم الفتاة . . وجسم الفتى . . والرقصة التي تدور, دائما مثناة, بينهما . . وعلى مستوى ثالث: في بناء القصيدة نفسه, بين الأبيات الطويلة نسبيا ولتكن أ, والأبيات القصيرة جداً التي يتكون كل بيت منها من كلمة واحدة, ولتكن ب, وعلى ترتيب واضح نراه على النسق التالي:
أ ب أ ب أ ب أ,
هكذاو بصرامة تكاد تكون مطلقة, وإن كانت فيها تنويعات يسيرة جداً, وسوف نجد هذا النوع من المعمار, في معظم قصائد الكتاب, سائدا, وواضحاً, بل يكاد يكون أحياناً صرفا في خضوعه لهذه "المعمارية" حتى توشك أن تكون صماء, مصمته, وإن كانت تصل – في أحيان كثيرة – إلى نوع من التوازن, والرشاقة أيضاً.
سوف أقترح الآن فقط , ومنذ البداية أن الثنائية هنا – وفي الكتاب كله على وجه التقريب – تظل غير محلولة, وأنه حتى عندما تصل الخبرة الشعرية إلى طرح صيغة جماعية, فإنها تطرحها كإحدى كفتي ميزان, كطرف في مثنى, بل إن الصيغة الجمعية نفسها تنشق دائما شقين. انظر إلى نهاية هذه القصيدة: صار الميدان جسداً يدخل جسداً / إن لغة تكونت (من جانب) إن شعباً ابتدا (من جانب آخر). لم يصبح الجسدان جسدا واحدا يتجاوز شقيه , ولم تجد اللغة شعبها, و لا الشعب لغته, بل ظلا مشقوقين, منفصلين, في توتر مشدود.
ليس في هذه القراءة إدانة, وليس هنا من ثم, حكم خلقي. أريد فقط أن أضع هذه القراءة أمامكم , لكي نعود إليها مرة بعد مرة, فلعل هذا الاقتراح مما يضئ لنا هذه الخبرة الشعرية.
وإذا كان مما يسهم في هذه الإضاءة أن أشير الآن مجرد إشارة إلى دوالٍ أساسية في هذه الخبرة مثل "النخل" أو "اللغة" (اللغة في داخل اللغة – "إن لغة تكونت") و "الكائن السراط" و "الليمون" فإنما أفعل ذلك لكي أعود إليه بتفصيل أكبر قليلا في سياق هذه القراءة.
ومن الواضح أن فك الشفرة الشعرية لا يعني بالضرورة استهلاكها, وانتهاك مغاليقها, تماماً, المفروض أن يحمل التشكيل الشعري, عن طريق شفرته من بين طرائق أخرى , شحنة من الدلالات لا تفض أختامها مرة واحدة ونهائية أبداً, بل أزعم أنه إذا أمكن فك الشفرة الشعرية تماماً لما كانت – من الأصل – شعراً, بل شيئاً آخر. ولكن سبر غور الدلالة, إلى حدٍ ما على الأقل, قد يكون فيه إضاءة لموقع الشعر كله من ساحة الدلالات المتشابكة والوجود المتشابك.
قصيدة "يفعل السماء" المكتوبة في أغسطس 1975 تأتي لتؤكد ثنائية الخبرة الشعرية مرة أخرى وعلى مستوى آخر, فنحن هنا بمحضر حوارية بين جسم الفتى وجسم الفتاة, دون أن يعطيا هنا, هذه التسمية الصريحة, وإذا كانت دالة "الماء" وهي أساسية في حساسية هذا الشاعر, لم تبرز إلا على هنه واستخفاء في قصيدة "بزوغ": (ترش النوافير . . جسمين عاريين), فإنها هنا موجة مخامرة تصعد وتهبط, من السحاب والبحر والمد و دفقة النماء, وتواجه في نفس العلاقة الثنائية, نقيضاً أو مضاداً, أو وجها مقابلا قوامه العشب والأرض والثمار والحقول والبقول. الثنائية هنا بين البحر ورخة السحاب وبين الصهد وشقوق الأرض. هذا القاموس الصغير كله المكون من صفحتين متقابلتين, هو قاموس هذه القصيدة.
ومن الواضح بمكان , وله دلالة عبر الكتاب كله, أن المبدأ الذ كوري هنا هو الماء والبحر والسحاب وهو في الوقت نفسه مبدأ الاقتحام والمبادرة والصعود والهجوم أيضاً, أما الطرف الآخر من المثنى فهو المبدأ الأنثوي الذي قد يحتمل طبقة أخرى من الدلالة بالإضافة إلى الأرض والثمر , والمخصب, والخصيب, والمتلقي السلبي, هل سنجد مرة بعد مرة, إيحاء بالوطن, ومصر, والجماهير, (أياً كانت فجاءت المقابلة سعيا وراء استخفاء الإيحاء)؟ وهل نجد, باستمرار , حسا بالمرارة والغضب والشجن, إذ يضع الشاعر ويرى ظلالاً من السلبية والانتظار, بل والهمود – على الرغم من الخصوبة وشحنة البهجة الكامنة – في هذه الطبقة من الدلالة؟.
مرة أخرى نجد الشاعر غير قادر على مقاومة التقرير – كما لم يستطع أن يقاومه في نهاية بزوغ - في نهاية هذه القصيدة:
والانعتاقُ رايةٌ لأهلي.
والمدُّ يكتبُ الآنَ تاريخاً جديداً لشارتي
علي هذه المدائنِ الساطعة
ويفعلُ السماء.
كأنه يرى التفاؤل ضرورة عقيدته – سواء كان ذلك في سياق عقيدته الشعرية, أو عقيدته على الإطلاق. والتفاؤل دائما مريح , وتأكيد الفرح بالمستقبل عندما يقرر, هكذا, يصبح منتهياً ومغلقاً, بل يمكن أن يكون سداً في وجه المستقبل الذي هو دائما احتمالي, أو على الأقل احتمالي الوجوه والأشكال. على أن السؤال الأهم هنا , هو ضرورة هذا المقطع الأخير من ناحية منطق القصيدة الداخلي نفسه. هل هو يحمل الثنائية؟ هل هو حل حقيقي للمشكلة الفنية؟ هل نجرب أن نقرأ القصيدة من غير مقطعها الأخير؟ ألا نرى على الفور إمكانية بل أقول ضرورة الاستغناء عن هذا المقطع؟ ومدى ما تكسبه القصيدة عنئذ؟ هذه القصيدة تكاد تكون معجونة بالحس الشبقي, وافتتان الشاعر بالمفردات الأنثوية بل أكثر إضفاؤحية الأنوثة المتجسد على شبق كامل من خبرته, هو قسمة اساسية من قسمات عمله الفني.
طراز التشكيل المعماري وفقا لمصطلح الشاعر الناقد نفسه حيث تتراوح الفقرات ذات الجمل الطويلة نسبيا مع الفقرات ذات النغمة المرقصة لمتلاحقة الإيقاع في نسق أكثر تنويعا وأدق تعقيدا لكنه مازال هو النسق الازدواجي النبرة:
أ: موج السماء شارتي
ب: الساحر الغامق الموشى......
هذه قصيدة قوية الأسر, نغمها مضروب, أو مدقوق على المقامات العالية إن صح هذا التعبير والصور المتلاحقة العنيفة الوهج, مرتبطة على فجاءتها وكسرها للمألوف, مرتبطة بحبل داخلي متين الضفر ووثيق الوشائج, وإن كان يرتخي في مقطع غنة الغناء ويكاد ينفك.
* * *
أما قصيدة "مرثية الفضاء ونخيله" فهي – في قراءتي – من أجمل قصائد الكتاب, و أصفاها, وأكثرها حرية, ربما لأنها تقع على شفا هذا الغموض الشفاف, أو يخامرها نور معتم رقيق, بحيث يصعب عندي أن تختزل إلى تأويل ٍ قريب. الدوال هنا غنية بأكثر من طبقة من الدلالة, وليس فيها تقحم المعنى النائي, فما هي هذه العصافير التي تحط عند بزوغ الجراح؟ كأنها أحزان – أو أشواق موجوعه – خفيفة الوزن حقا, ولكنها ليست زهيدة أو بخسا. ومن هي المخاطبة التي يسألها الشاعر أأنت نبضة الشك في اليقين؟ في مستوى ما , لا أظن إلا أنها المخاطبة نفسها التي يتجه إليها الشاعر – في طول شعره – بالنجوى, بالسؤال, بالاتهام, بالحب , وبالألم, وبالتحريض أيضاً والاستفسار, هي من خيول حبه التي تطوف في العروق, الكائن الأنثوي الخصيب, الذي يقوم في الشعر هنا مقام أرض الوطن الممتهنة والمعشوقة و المثيرة للشبق والغضب. ومن هو المسجى – في جمال الاستشهاد ربما؟ الجميل في الفجيعة؟ الفارس الذي أطلق كالمغامر في لجة المستحيل؟ أأحتاج أن أقول أن الشعر الحق يتأبى حتى على هذا النوع من التأويل؟ وأن كفايته في إيمائه الذي يدرك مباشرة ولا معنى لأن يفهم, فيحدد بالتالي بكل معاني التحديد من الجفاف ومن الضيق؟
ولعل من أسباب فعالية هذه القصيدة أنها من قصائده القلائل التي لم يخضع فيها الشاعر لقانون من المعمار خارجي ومفروض, أي لفكرة التشكيل المستحوذة عليه, سواء كان ذلك بحق الشعر الداخلي نفسه أم بقهر شهوة البناء أياً كان ثمن البناء.
تنتهي القصيدة بنغمة رثاء رقيق – ونادرة رقته في شعر حلمي سالم:
حروفٌ بارزةٌ على النخيل:
لملمي غناءك الموجَعا
لن يرجع الزمان ماضيَعا
فلعل السياق يدعونا أن نتعرف على دالة النخيل في هذا الشعر كله, فهي متكررة كأنها من أعمدة الخبرة الشعرية كلها. ولعل هذا البيت نفسه "حروف بارزة على النخيل" هو أقرب الأبيات إلى الدلالة, وأوضحها إفصاحاً "فهل النخلة هي نصب الكتابة نفسه, تمثال الشعر, ثبات الكلمة وسموقها؟
في قصيدة ش ع ر:
"الشجرة التي تجذرت فيَّ....
غابتي تفتح النخل جثماناً......
يستحيل سؤالاً: أكتب أو لا أكتب؟"
هنا أيضاً إفصاح قاطع , تقريباً. فإذا سمعنا في هذه القصيدة أيضاً أن:
"هذه الشجرة قسمت جميعي
كأنني انفلقت عن ضدين توأمين"
كان في هذا مصداق الثنائية والانقسام التي هي خصيصة هذا الشعر كله ومصداق وعي الشاعر به وعياً لاعجا وماثلا طول الوقت. وهو يقول:
"نخلةً ينحلُّ جسمي، والنخيلُ يستحيلُ نيلاً،
ونيلي مرّكبٌ علي شكلِ كونٍ ضبابي،
وكوني مهندسٌ علي استقامة البدن".
من ميزات هذا الشعر أنه واعٍ بنفسه وعياً يكاد يكون كاملاً..هو أيضا نقد لنفسه يكاد يكون نقدا كاملاً. اسمعه يقول:
"إذا بنخلة يقظانة تشدني....
صوب سكة البحر أم صوب سكة الصحراء؟" هذا الشد المتوتر الدائم بين شقي الثنائية , لا يكاد يبرره فنياً إلا أنه ماثل فنياً, وفي بؤرة الوعي به,. في قصيدة "وجوه علي قنديل ومرآته" تسمعه: "في حشاي نخل وينبوع, سبيل للقادمين" وسوف نسمعه في قصيدة فيينا يقول: "أسماك عظيمة تقول: / نخيل يطرد العاشقين / ويحضن الطحلب السري والسارقين / نخيل مؤهل لرشقة الراشقين" هنا, ربما, تتعقد الدلالة وتتكاثف, ولعلها تعتكر وتعشى أيضاً. ولكن لا يمكن أن يكون هذا سؤالا عن الشعر نفسه – والشعر عند حلمي سالم تجربة حياة لا تجربة كتابة , هذا واضح جداً – ألا يحتمل أن يكون في حكم الأسماك العظيمة مايشي بأن غسق أبوللو قد انحسر تماماً؟ وأن الشعر قد صار بالضرورة خشناً وآثماً – من زاويةٍ ما – وضحية أيضاً؟.
أظن أن قضية الجدل بين الشعر والناس هي خبرة القصيدة التالية "وجوه علي قنديل ومرآته" بل هي أيضا قضية القصائد الثلاث التالية جميعاً: الصعود إلى المبتدأ الأبيض, ودجى سيد سعيد وغسقه , و ش ع ر . يتراوح هذا الهم الشعري مع الهم الشعبي في هذا الفلك المتقارب من القصائد, كأن الشاعر لا يني يسأل نفسه سؤالاً مؤرقا وممضاً وغير محلول: ماذا أفعل لشعبي, بالشعر الذي أفعل.؟
في قراءتي ل "وجوه علي قنديل ومرآته" شعر, حقاً, ولكنه شعر مختنق ومعتكر , لم يستطع في ظني أن يتحقق تماماً, أو أن يكتمل. أما أنا فأجنح كثيرا إلى الانضواء تحت أسطورة "الكمال" في العمل الفني, واستوحي هذا من تراث عربي وغير عربي. وللكمال – إذا حدث وعندما يحدث – حقيقة فريدة بلا شك, ولكني أسأل أيضاً: هل هناك حقاً هذا الكمال النهائي؟ كأنه سعيٌ محكوم عليه بالاحباط دائماً , نحو مثل كهف أفلاطون العتيق؟ أليس في الجيشان والقلب والوقوع في مهاوي التعثر والنقص والسعي نحو إدراك التمزق والانشقاق والصراع قيمة كبرى أيضاً؟
هذا النوع من الشعر يثير عندي هذا السؤال النقدي الذي أعترف أنني لا أملك عنه إجابة؟ ولعل هناك أغلوطة منطقية في طرحه بهذا الشكل نفسه. فلعل التفتت والانكسار لا يتحقق – فنياً – إلا بوحدة ما واتساق ما وهارمونية ما, على مستوى الصنعة والإلهام معاً.
على أي حال هذه القصيدة الطويلة تشكو من قلقلة كل قصائد حلمي سالم الطويلة, وقلقها وتراكبها واندياحها. لعل نجاحه المرموق – حتى الآن – قد ثبت في قصار قصائده فقط , وفي فقرات يمكن أن تعد قصائد بحقها, في تضاعيف طوال قصائده.
الملاحظات التي اسوقها على هذه القصيدة هي: على التوالي:
1- المقاطع التي – كأنما غصباً عنها – تلتزم غنة الغناء تسقط في الخفة والتزيد والفضول أو الحشو, كيفما شئت. مثلاً:
"كومةٌ من النخيل كَفَّنتني وأنشدتْ عند بابي:
يا كحيلَ العينْ
يا طري السِنْ
يا جَلِي الحُسْنْ
اخرجْ وكُنْ....."
أنجرب أن نقرأها كما يلي:
ً "كومةٌ من النخيل كَفَّنتني وأنشدتْ
اخرجْ وكُنْ....."
ونوازن فنعرف على الفور كيف يمكن أن تكون الكثافة والقوة والفعالية في هذا المقطع وحده. طبعاً أنا أستميحكم معذرة , فلعله ليس من حق أي أحد أن يكتب شعر شاعر من جديد . . وليس هذا مقصدي , وإنما هو مثال أو إقتراح يصور ما أعني.
2- في القصيدة عنوان فرعي هو: سيريالية النخلة, وبغض النظر الآن عن المقطع الشعري الذي يأتي تحت هذا العنوان, فإن عمل حلمي سالم الشعري فيه بلا شك ظلال سريالية , وإن كنت أشك في سلامة استخدام هذا المصطلح , في هذا السياق , شكاً كبيراً. ولكن من الشائق أن نسمع حلمي سالم الناقد أيضاً , في العدد العاشر من "إضاءة 77" أبريل 1983, وفي مقالة بعنوان "شكل الشعر شكل المجتمع" يقول:
" في جملة يقول: إن التجربة الشعرية الصوفية - في وجهها النثري خاصة – كانت أول منطقة سريالية في التاريخ العربي, سبقت ظهور السريالية الغربية الحديثة بما يزيد عن عشرة قرون كاملة!" هنا يتأكد شكّي في استخدام هذا المصطلح, في هذا السياق. لكن قضية المصطلح الغربي – كما نعرفه – طويلة جداً , ولا متسع لها الآن. أما استلهام هذه التجربة الشعرية الصوفية في شعر حلمي سالم وجماعة "إضاءة 77" وعلى الأخص عند شعراء جماعة "أصوات" , فهو من أهم مصادر هذا الشعر ومن أهم منجزاته أيضاً. قصيدة "دهاليزي" الطويلة كلها –مثلا- استلهام ناجح عند حلمي سالم من هذا الينبوع الثر. وفي هذا الكتاب وحده "الأبيض المتوسط" أكثر من إشارة على هذا الاستلهام.
3- " الصحراءُ صارتْ بمستوي حنجرتي،
حينما كنتُ في صباي أعبثُ بالفيزياء:
أحطُّ في مكان السماء غابةً مدبَّبه
أحطُّ في مكان القرى سحابه."
هذا شاعرٌ مهمومُ بشعره . وبالشعر وواعٍ جداً بهذا الهم فهو لا يزال يعبث بالفيزياء . بل هذا هو تكنيكه الأساسي أو حيلته الفنية الأساسية وهو من غير شكٍ إجراء سريالي أصلا. ولكني أظلم الشاعر حقا لو تصورت أنه مجرد إجراء. هو في تصوري رؤية للعالم أيضا وتشكيل له إذا أحببت. في الوقت نفسه وهو يعود مرة أخرى وأخرى إلى تلك الثنائية التي تكاد تكون هي تكوين الشاعر: "ماديا في المعنوي الدفين / حريقة في الماء. وهكذا . ومن ثم فإن العبث بالفيزياء هو تشكيل أو إعادة تشكيل , وفقا لمنطق داخلي سائد ومتسق مع ذاته, أعني به منطق الإزدواجية التي يراها الشاعر ويعانيها في نفسهوفي عالمه الحسي والاجتماعي والفيزيقي على السواء. عالمه الحسي والاجتماعي والفيزيقي : هذه حدود هذا العالم فليس لهذا العالم - بوضوح سافر – بعد ميتافيزيقي أبداً. وحتى مسألة : كن فيكون أو سؤاله مستعيرا صرخة هاملت الشهيرة : أكون أو لا أكون كلها أسئلة بلاغية , وكلها إجابات على الصعيد الاجتماعي أو الحسي أو الشعوري أو – في النهاية - على تقاطع من هذه الأصعدة بعضها أو كلها. الحس الميتافيزيقي في هذا الشعر منفي أو على الأقل مفتقد تماما. هل يؤدي ذلك بالضرورة إلى تضييق رقعة الخبرة الشعرية؟ ومحدوديتها ؟ ليس في هذا السؤال, مرة أخرى, إدانة ما , أو حكم ما , ولعل فيه – مع ذلك – تمنيا – وتطلعا بعيد الأفق.
في هذه القصيدة مع ذلك أنفاس الشعر
" مرآةً محطّمةً علي نيلْ
ونِدَفاً من وجهٍ نبيلْ"
لكننا لا نكاد نتنسمها حتى تضيع في القلقلة التركيبية والصياغات الناتئة وتقلب القصيدة وتمزقها.
* * *
قصيدة العنوان "الصعود إلى المبتدأ الأبيض المتوسط" محيرة أيضاً ومقلقلة. هذه قصيدة موقف سياسي – اجتماعي شديد الوضوح, في تشكيل شعري – على رغم مما يبدو فيه من تحديثية مسرفة أحيانا – شديد الوضوح أيضا . . هذا الوضوح مغلف بغلاف شفيف جدا مما يسميه حلمي سالم بطرائق التعبير المجازي. لكن القصد المبيت إلى استخدام هذه الطرائق – حتى حد الابتذال أحيانا والاستهلاك أحيانا – يهزم القصد نفسه. قرأت في القصيدة أيضا عمدا محسوبا الى الإغراب – بوهم الوصول إلى هدف صعب هو هدف المجاز. فهي قصيدة معقلنة جداً – إن صح التعبير – بالرغم من الومضات الشعرية الباهرة , هنا أو هناك. فهذا الكاتب شاعر و في النهاية , وهو على رغمه.
ليس العيب في ظني في الموقف السياسي, فالمهم هنا هو التخلق الشعري للموقف أيا ما كان من أمر هذا الموقف. وليس العيب في ظني أيضاً في الطرائق التحديثية جدا, بذاتها, من نوع استخدام الأرقام والتواريخ مثل: "هل أركض غامضا فذا: / 16-6-1951 / خيط بين الأسطورة والسكين", ثم نعرف من تهميش على القصيدة أن هذا تاريخ ميلاد الشاعر. أو من نوع :
" ثم أخذتُ زاوية ملائمة:
هويةٌ رقم 19142 مفتتةٌ علي أسفلتِ الطريق
معلقةٌ علي برجٍ نحيل."
وغيرها وغيرها. وإنما السؤال الحيوي هو: هل تحقق للقصيدة, فعلاً تشكيل, أصلاً؟ أم ظلت مزقا - ً بعضها لامع وبعضها حار – ولكنها مزقٌ متجاورة؟ ثم إن هناك عيبا لا يغتفر ولا يمكن أن يغتفر بل هو تدمير للقصيدة في نهاية الأمر. استخدام الكلمات الفلسفية دون أن يكون لها أدنى دلالة شعرية : ترنسند نتاليزم . . والنيرفانا . هنا مزلق من أخطر مزالق الشعر الحديث. ليس في القصيدة مايومئ ولو من بعيد إلى المفارقة أو التعالي الفلسفي بأي من صور تطوره في الفكر الغربي. لا الحقائق الكلية بشكل مطلق, ولا العلاقات الأبدية المستقلة من اشتباك الحوادث وارتباطها مجردة عن شروط المكان والزمان ولا الجواهر الثابتة والحقائق المطلقة القائمة بذاتها, ولا المتعالي عن كل المقولات القبلي عن كل تجربة حتى عن كل مبدأ ميتافيزيقي, وهكذا . . النيرفانا ليست مجرد العدمية – ويبدو أنه المقصود من هذا الشعر – بل هي عقيدة كاملة – وميتافيزيقا كاملة ومعقدة, أيسمح باستخدام هذه الكلمات لتدل على معان قريبة جدا وسهلة جدا, كما يظهر انه المقصود هنا؟ وهي كلمات مع ذلك تأتي في سياق العنوانات للمقاطع, فليست فقط مجرد فضول, بل هي اقتحامٌ وتشويه.
في هذه القصيدة أيضا تكرار من لوازم حلمي سالم التي أظنه ينبغي أن يعكف عليها حقا, وينخلها ويمحص ضرورتها . التكرار تكنيك يمكن أن يكون فعالا ومعبرا ويمكن أن يصبح مجرد لغو. هل أقترح على الشاعر أن يصيخ أكثر لصوت إلهامه الداخلي الذي يأتيه – بما يشبه أن يكون عفويا وان كان غير ذلك – بدلا من أن يفرض ما يسميه القوانين الخاصة للقصيدة فرضا خارجيا؟.
* * *
أظن أن سياق الحديث يدعوني الآن إلى تناول مسألة اللغة عند هذا الشاعر بشقيها: أولا: دالة "اللغة" في داخل اللغة, وثانيا: ملامح قاموس الشاعر, أي لغته هو.
نحن نذكر نهاية قصيدته الأولى "بزوغ":
"إن لغة تكونت
إن شعبا ابتدا"
ومنذ هذه البداية نستشعر أن دالة اللغة هنا تتجاوز المصطلح عليه إلى ما يمكن أن نراه اللغة – الفعل. ليست اللغة هنا قطعا, مجرد كلماتها ولا حتى سياقها الاجتماعي ولا علاقاتها الداخلية, بل هي في ظني , فعل. وليس فعلا شعريا فقط يب هي بما أنها فعل شعري فعل إجتماعي. فليس طبعا ثم فعل في فراغ وعقيدة الشاعر كلها – وجماعته – بل ربما كانت عقيدة الشعر الحديث كله هي أن اللغة فعل اجتماعي – ليس بديلا عن مظاهر الفعل الاجتماعي الأخرى كما هو واضح – ولكنها على الأقل جزء من هذا الفعل. ولست بصدد مناقشة هذه العقيدة الآن فلعلها أدخل في سياق الرومانتيكية السياسية إن صح هذا التعبير. ولكن لعل فيها أيضا جانبا من السلامة على مستوى أبعد وأشمل وأعقد مما يبدو ولكن المهم ربما أن نتقصى هذه الدلالة إن صحت قراءتي, في هذا الشعر.
* * *
في القصيدة التي نحن بصددها , نقرأ:
" أُراقبُ:
شجرةٌ صادمةٌ ورواغةٌ مربوطةٌ في بطاقتي الشخصية
هذه اللغةُ المضادةُ - العلَمْ.
أَتساءلُ:
هل هذي اللغةُ الصّعادةُ - صعادة؟"
و لا بد أن نذكر أن العلم كان قتيلا في القصيدة وأنه سوف يتمزق:
" مزقةً في الدقي
ومزقةً علي مائدةٍ في خيمةٍ علي
الطريق الصحراوي".
وسوف نقرأ في ش ع ر:
" سمعُتني أقولُ في مسيري: أهذه الأرضُ لغةٌ جديدةٌ؟
وكنتُ أعني: أهذه الأرضُ محنةٌ جديدةٌ؟"
ثم تأتي على الفور ثنائيته التي لا تريم ولا تتحلحل:
"قال لي الذي يقول لي: أنتَ منذورٌ لطعنتين:
طعنةِ العشقِ والكلامِ، قلتُ فتّاكتان".
أما نحن فقد عرفنا أن العشق نفسه منشق على نفسه:
"حامل رصاصة فعلية ستشطر الواحد الكمال شطرتين: عاشقا ومعشوقاً"
وحتى اللغة – الفعل, أو اللغة باعتبارها فعلا مازالت مقسومة قسمين أو منشقة طريقين:
"سمعتني أضيع في سؤالي:
أكتب أو لا أكتب؟"
ومازالت الكلمة المفتاح هنا هي:
"أضيع في سؤالي . . لا أجد طريقا واحدا . . لا أحل الثنائية.
هذا من ناحية.
أما قسمات قاموس الشاعر نفسه أو لغته (ولا انفصام لها, طبعا, عن رؤيته, لا حاجة بي أن أعود فأذكر) فيمكن أن نراها كما يلي:
1- مايسميه هو طواعية اللغة . فعلى أنه يمنح من لغة التراث ومن رؤاه بالتالي فإنه لا يتردد في أن يستخدم العامية المصرية. ومن الممكن أن نناقش مشروعية هذا الاستخدام فلعله أحيانا قليلة غير مبرر في حسي على الأقل وإن كنت لا أرى غضاضة في معظمه بل أجد فيه أحياناً نكهة ما وموسيقية ما قد لا تتاح للإستخدام القالبي الفصيح . الأمثلة كثيرة منها: رخة السماء, الغامق المغلوق, حارقا, عقارو برجسة, شوافون, مطلوق..وهكذا وهكذا.
2- على الرغم من أن لغة الشاعر تتشكل في شق أساسي منها , من إشارات أو دوال أو مفردات شبقية صراح, وحسية, بل وعاكفة على استقصاء الحسية إلا أنها لا شبقية ولا حسية بذاتها, بجرسها, بتشكيلها العادي واللفظي. أعني أنها تفتقر تماماً – بل تعادي بوضوح – العضوية الداخلية في قوام اللغة. عضوضتها, لدونتها, طراوتهاو ملاءتها, كل ذلك منفيٌ بعمد, بل مكسور بعمد. أي أن الشاعر يختار ذلك: يضع إسفينا بين الدال والدلالة. أنظر هذه الأمثلة, مأخوذة عفواً, عبر الكتاب كله: (العشب في الأثداء – واحصد الرحم – جسمي الطري مفتوح – فياعشيقي العفي هندس الخليج – كنت ترشقين لحمي بفتلة الخالقين – أكشط الدمل الذي على سرتي – يزرع الثديين قبتين – أخذتني إلى ساقيها المهندستين – صاحت: أكون في انفراجة الأسطوانة الجارحة – نهدان رائقان رائقان – نهد: نهر يتفتق, خلجان تتحقق. . وهكذا وهكذا). نلاحظ أنه كلما جاء الدال الشبقي أعقبه على الفور صوت حلقي حاد: كالعين والحاء والقاف أو على الأقل صوت طبقي (أي من أقصى سقف الحنك) مثل الكاف والحاء, أو ما يسمى احياناً بحروف القلقلة. . وباختصار أصوات خشنة جافة حادة. إليك إذن إذا أحببت ازدواجية أخرى, انفصاماً أخر وشدخاً أخر. على أن لغة حلمي سالم بنوع من التعميم – وفيما عدا غنائيته التي تقف على طرف نقيض آخر, مرة أخرى , لغة في الغالب ناتئة الضلوع ثاقبة, ذات حواف قاطعة.
3- ولعل حسه بهذا – واعياً أو غير واع – هو الذي يدفعه لأن يوازن بينها وبين شيئين: الأول استخدام المصطلح الفلسفي – والهندسي والجغرافي والنحوي, في مفارقات مجازية أيضا لها حدتها وفيها انكسارها. والثاني هو مايسميه غنة الغناء, وما سوف أسميه هزج الألفاظ, أو غواية الأرابيسك.
أما استخدام المصطلح بأسلوب المفارقة السيريالية , فلا يحتاج إلى تدليل فهو شائع على طول هذا الكتاب والكتاب الذي سبقه:
(أمضي على صهدة الفعل / صوب صهد شمولي وسيع. أخذت زاوية ملائمة. الوقوف بين الخرافة والعادي. مهرولة صوب الهيولي. وتيهي بزبدتي وذات إنيتي أجئ / تاركاً خصوصتي وتاريخ نبرتي أجئ. صيغة أنثوية لاشتراكية الصراع. فجيعة ايدولوجية خاصة بالقرى والشوارع) ومن "سكندريا يكون الألم": ( خوازيق من الصلصال الديكتاتوري – تحرض المجرى المياهي صوب تفجير الاستاتيكية العقيم – وصاحت في عريها الاستراتيجي الغريق – أخبئ الميثولوجية الرؤوم في ملاءتي) وهكذا.
وواضح أنني إذ أستقطع هذه الأبيات من سياقها فإنما أرتكب جريمة تمزيع لا تكاد تطاق. ولكني أجد العذر فقط في أنني أشير إلى خصيصة في لغة الشاعر, وقد أشرت إلى موضع واحد على الأقل لم يكن فيه استخدام المصطلح الفلسفي – على الأقل – ناجحاً ويتراوح مدى نجاح استخدام هذا التكتيك إلا أنه كما هو واضح, تكنيك رواغ وخطر ونادراً ما يتجاوز الإبهار واللمعان الخارجي إلى قيمة شعرية كاملة وأصيلة.
أما غنة الغناء فسوف نتناولها بما هي جديرة به من مناقشة, بعد أن نعرض لقصيدة "ش ع ر ".
وأظن أن هذه القصيدة – وهي من عيون أعمال الشاعر – اقرب أعماله إلى الوفاء بهم أساسي في خبرته, فهي في النهاية نوع من التوحد الصافي والمعقد معاً بين الشعر والشاعر, ولعل تكنيك الحوار المتخذ أساساً للبناء, وأنواع أخرى داخلية من المزواجة, والغنائيات الجزئية المنث