الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أشعار الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

في "مدائح جلطة المخ" . .

                                 "حلمي سالم" يمشي على شفرة النصل

 

                                                         أمل الجمل

مجلة الثقافة الجديدة العدد 253  أكتوبر 2011

 

 ينطلق الشاعر المصري "حلمي سالم" في أحدث إبداعاته "مدائح جلطة المخ", صدر عن دار الهلال 2006 , من تجربة الجلطة التي أصابته في نهاية 2004. ينسج من محنته المرضية ملحمة إنسانية, وقصة حب شديدة الرومانسية. فالقصائد لا تفصح عن الألم والمعاناة بقدر ما تبوح بدور الحبيبة ودعمها للشاعر في أزمته..فيقول لها في أبيات مختلفة "هذه الفتاة التي تحول العذاب / إلى عذوبة / بفعل ليونة المونتاج والخصر" . . "أنت عديدة يا بنت سيد / تارة في توتر البلاتوه / وتارة تحت الدش / وتارة في مم المصحة الطويل / تعلمين شخصاً كيف يخطو / على خطٍ مستقيم من مربعات البلاط" . . "يا صاحبة نقرة الإصبع / أنا امتحانك الحرج".

 

"مدائح جلطة المخ" مجموعة قصائد منفصلة متصلة أو بالأحرى قصيدة ذات تنويعات على لحن واحد . . تنويعات على لحن الحبيبة سيدة النبع , صاحبة نقرة الإصبع, والسيدة المعاصرة , هي النسخة المصرية  من فرجينيا وولف, فالتناسخ أعاد خلقها في مصر بعد رتوش درامية في النهدين والكفل . . نزلت إلى غرفة العناية المركزة بجيوب مثقلة بالحجارة , فمسحت القئ وألقت أحجارها في وجه الأطباء , .. الحبيبة هي النغمة الأكثر تكرارا وهي حلقة الوصل بين القصائد .."الشاحبة التي علمت نفسها / المشي على شفرة النصل / لأن أمها لم تورثها سوى جفاف الحلق / وأباها لم يترك لها سوى المحراب / تكثرت كانفجار الخلايا" . . وقفت بجانبه في محنته فتحولت التجربة المؤلمة إلى حالة إبداعية تهمس بالحب والعطاء. "كنت أقول لسرتها :هيت / تقول السرة حيناً: هيا / وتقول السرة أحيانا: هيهات / لكني حين أشارف غابتها الحرة / تطلق غابتها الحرة آهاً / فيرد عبيد سنيني آهات / يخرج من إبطيها جنيٌ يصرخ بي / خذ / فيجيب العطش الضارب في رمالي : هات".

 

الديوان حافل بالمتناقضات بدءاً من العنوان " مدائح جلطة المخ" يوحي أن تجربة جلطة المخ بكل قسوتها كانت نبع يفيض بالمحاسن والخيرات وهو يتماس مع مضمون الأبيات الشعرية خصوصا نهايات معظم القصائد المفعمة بالأمل, المليئة بالإصرار على الحب والحياة, فالديوان يكشف عن سيزيف الشاعر يحمل الصخرة ويصعد إلى قمة الجبل ومن أعلى نقطة فيه ألقى بنفسه في الحياة.

 

يبدأ الديوان بالحديث عن الخيانة, خيانة الدم, "كي يدرك العشاق أن الدمَ خوانٌ" لكن البداية تتناقض مع ما يطرحه الشاعر فيما بعد عن العشق ومعشوقته التي تفانت في مساندته أثناء محنته. يسطر الشاعر صور في لمحات خاطفة تكشف عن النفوس المعقدة والمشاعر المتناقضة التي يحملها الأصدقاء, يرسم بحروفه المزيج المتناقض بين المودة والمكيدة, فالصديق الذي تركوه يرمي البيض الممشش على وجوه المطربين يشتهي حبيبة الشاعر ويسعى حثيثاً لمغازلتها فيقول: "هل نحتاج إلى سحابة في المخ / حتى يرق قلب المؤنثات" .."تقمص السياب وقال لسيدة النبع / أحبيني / فكل من أحببت قبلك لم يحبوني / ثم صار يذهب إلى الكنائس / في صحبة المعذبات في الأرض / لعل الهداية تنزل / على الأفئدة والأفخاذ / وبعدها راح ينتقي الطوب من مخلفات البناء / كي يرأب كوة في النفس".

 

يمزج "سالم" بين الأزمنة المختلفة الماضي والحاضر والمستقبل,  يمزج بين الحلم واليقظة, بين الخيالات والأوهام والحقائق. أحياناً يمنحنا الإحساس بأن كل شئ يحدث في الحلم, كل حلم يظهر كخلاصة لكلمة تحضر أو تغيب . . في محنة "جلطة المخ" أصبحت كل نبضة في الجسد علامة لغوية, وكل خلية حرفا من حروف الأبجدية . . كل خطوة في طريق العلاج هي المفتاح السحري لقصيدة تسطر نفسها على طريق الديوان فمثلاً في "الملح" يقول: "هكذا في لمح سحابة / انضم الملح إلى قائمة الأعداء, لكني سأحتال على تعاليم النطاسيين / سألعق عرق حبيبتي البرونز / م كلما ارتفعت موسيقى الأعضاء / سأبيت أذوق باللسان الملعثم / ماءها المطهر الذي يتنزى بين ساقيها / عندما يفيض نبع سيدة النبع / سأستبقي في فمي طعم جلدها المغسول / بعد الخروج من هانوفيل".

 

تتوالى الذكريات والأفكار من قصيدة إلى أخرى في شكل ومضات. تلمع في ذاكرة الشاعر, أثناء لحظات الصحو, أو التذكر. أحيانا تبدو أقرب إلى لعبة الأشباح أو التهيؤات . . يحاول الشارع القبض عليها, لتشكل جملة إشراقات روحية, تتضافر جميعا لتصنع قصة حب شديدة العذوبة. في "العلاج الطبيعي" يقول: "هذا امتحان للأربطة قبل القفز /  على الزانة ثبتها في الهواء خمس برهات / كمن يتيح للسيدة المعاصرة / تعليق شالها المبلول على القصبة / كي يجف تحت الشمس / أو قياس المسافة بين سهمها والكعب / أو تقبيل الشقوق التي خلفها / جمع اللطع / ثم كي تمد فتلة / من نهدها إلى صابونة الركبة / لابتكار رأس المثلث".

 

يتميز الشاعر بحرية التعامل مع اللغة فيجمع بين اليومي النثري العادي, وبين الفصحى, وأحياناً يحقق التزاوج بينهما وبين اللغة الأجنبية. يتميز بقدرته على اقتحام مناطق شائكة تشي بها جرأة الرمز وهدير الموسيقى الشعرية تنبض به الكلمات والصور. . بالتركيز على دلالات سريعة, فخلف سطوره, تختفي الدلالات تشبه ظلالا هاربة من لوحة تشكيلية. يمتنع "سالم" أحيانأ عن البوح, فلا يتورط في التسمية و لتظل الكلمة متوارية, تفصل عتمة الصمت, فتشعل الخيال وتؤججه . . ينجح أحيانا في طرح مزيد من الغموض المحسوب. لكن أحيانا أخرى في فخ الغموض المربك.

 

تلعب التناصات دورا غير ثانوي في "مدائح جلطة المخ", فالديوان حافل بالتناصات من الشعر العربي القديم, وحسن طلب, وفاطمة ناعوت, وعبد المنعم رمضان, ومحمود الشاذلي, وأحمد عبد المعطي حجازي, وبدر شاكر السياب, وحلمي سالم, بتناصات من قصيدة "ياليل الصب متى غده" لأحمد شوقي, والتي تلعب دور النغمة الموسيقية المتكررة في عدد من القصائد. لكن كثرة التناص ربما ساهم أحيانا في تكثيف الغموض, واستغلاق الفهم على المتلقي. رغم ذلك لم يفقدنا الإحساس بمتعة الموسيقى المترددة بين الحروف والكلمات والسطور.

 

يبدو الديوان للوهلة الأولى تجربة ذاتية للشاعر. لكن سرعان ما تكتشف أن الهموم الذاتية . . ساعدته حرية المخيلة الجامحة فاقترب من روح موضوعاته. نجح في القبض على علاقة حيوية بين هذه الموضوعات وبنائية شعرية طليقة. تشي قصيدة "الخط" من أجمل قصائد الديوان , بدلالات كثيرة منها موضوع الفن والخلاف الدائر بين الشكل والمضمون. لكن الشاعر ينتصر إلى الجوهر والمضمون. . هو مع المحاولة من غير ضغط شديد فالضغط يربك الأوتار. "لا تقس على الجماليات / بل قس على قدرة الأصابع / على الضم"... "لا تشبث بأولية الشكل على المغنى" وفي قصيدة "الأصابع" يواصل مناقشة النقد وعلاقته. "لا عليك إن لم تستطيعي كتابة / نقد الحداثة / فيمكن لعبد المطلب / أن ينهض بهذا الدور / على الوجه الأتم / علماً بأن الأفضل ترك الحداثة تغرق / من غير أن نرمي لها العوامة". أما في قصيدة "المنور" فيؤكد على ضرورة الاختلاف حتى يصبح لكل مبدع بصمته المميزة . . يكشف العلاقة المربكة والمتوترة بين المبدع والناقد . . فالأول اختار إبداع النص من العدم والثاني اختار تشريحه . . الناقد يضع التعليمات والمبدع ينحاز لمخالفتها . . وهذا هو جوهر الإبداع . . الخروج على القواعد والتمرد عليها.      

 

saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 159 مشاهدة
نشرت فى 1 نوفمبر 2013 بواسطة saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

saydsalem
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

131,787