قصائد حلمي سالم تجعل من التنوع هوية
محمد علي شمس الدين
يكتب الشاعر المصري حلمي سالم، في مجموعته الشعّرية الجديدة «حمامة على بنت جبيل» (دار النهضة العربية 2007) قصائد بتنوّع أسلوبي إبداعي واسع، يدل على قدرة الشاعر على إدارة القصيدة، وسكب المادة الشعّرية في أوانٍ متباينة في لغة وصورة ونسق رؤيوي... وحتى الاسم الواحد أو «المفردة الواحدة»، يشهد كل منها تحولاً بين قصيدة وأخرى، فزينب، على سبيل المثل، في القصيدة التي أعطت اسمها للمجموعة «حمامة على بنت جبيل»، هي غير «زينب» الواردة في قصيدة «زينب تعلّب» وهي تضع حزنها في صندوق العرس القديم حتى لا تنزعج عصافير الحديقة من تواصل النهنهات... ومثلها «جمانة» بين قصيدة وأخرى، والمقصود هنا في هذه التحولات، ليس المعنى وحده، بل الأسلوب والصيغة والدلالة.
وبالتالي فأول ما يميّز الشاعر التنوع الأسلوبي... فنحن معه على موعد لاكتشافات وكشوفات بين قصيدة وقصيدة، وبين مرحلة ومرحلة. ونكاد نميّز ثلاثة مستويات أو ثلاث تقنيات للشعر، على امتداد القصائد. التقنية الأولى تتجلى في قصيدتي «حديث سائق الجرّافة» و «حمامة على بنت جبيل»... وهي تقنية المباشرة الدلالية والشعرية وتحسيس المعاني بالذهاب المباشر إليها... وذلك من خلال ربط كل نص شعري من النصين المذكورين بفذلكته الحديثة والتاريخية... فالأشياء والأحداث والأشخاص تُسمى بما هي، وليس بالرموز... هنا الشعر يذهب مباشرةً إلى أهدافه، والإصابات مباشرة وليست مواربة، والإيقاع التفصيلي ميسّر وغير نثري أي هو منساب وغنائي. فحديث سائق الجرّافة، قصيدة كما قدّم لها الشاعر» تحية إلى راشيل كوري، الناشطة الأميركية في حقوق الإنسان، ذات العشرين ربيعاً، التي وقفت أمام جرّافة إسرائيلية في رفح، لتحول بين الجرّافة وهدم بيت فلسطيني، معتقدةً أن أميركيتها ستشفع لها في منع هدم المنزل. فدهستها الجرّافة ودهست المنزل العام 2003.
هذا الحدث رسم للقصيدة مسارها وتفاصيلها، لغتها، وأسلوبها وخطاب القصيدة سياسي ديني بامتياز. فالشاعر يبدأها بصلاة مضادة للصلاة الدينية... الصلاة الدينية تبدأ باسم الله الرحمن الرحيم السلام العدل إله الرحمة... أما صلاة سائق الجرّافة فتبدأ باسم الدبابات والبلدوزر والملاّلات ونقاء العنصر والهليكوبتر والجنزير...».
البنت مدججة ببراءتها، وسائق الجرّافة مدجج بالخرافة والعنف الوحشي. لذا، بين هذين الحدين، ترتسم صورة القصيدة من البداية، فهي حوار دامٍ بين طرفين، بين السلام والهتك، بل منظومتين واضحتين غير ملتبستين من الأفكار والأسماء الدينية والسياسية المتباينة... القديمة والراهنة... بل نرى أنفسنا أمام حشد من عشرات الأسماء، ومروحة تشمل، على سبيل المثال لا الحصر: مارتن لوثر ويسوع، أباذر، غيفارا، فرج الله الحلو، جبران، غاندي، التلمود، الليبراليين، حائط المبكى، القنّاصة الغوّاصة العلم، الحاخامات، الفوضى الخلاّقة، إثم الجغرافيا... وجميع هذه الكلمات وسواها، تدار في القصيدة إدارة مباشرة... وهي بالتالي ليست رمزية بل واقعية... ولا تعرف الاختزال واللمح، بل التحشيد والسرد.
على النسق نفسه، يكتب الشاعر قصيدة «حمامة على بنت جبيل». ومثلما أعلن في قصيدة «حديث سائق الجرّافة» انتماءه الفكري والسياسي لفلسطين، يعلن في «حمامة بنت جبيل» انتماءه الفكري والشعري إلى لبنان... من خلال رموزه وشعرائه، ومن خلال أسماء قراه الجنوبية التي تعرّضت لآلة الحرب الإسرائيلية في حرب تموز 2006 العدوانية على لبنان. هنا تحضر بنت جبيل وقانا ومرجعيون ومارون الراس وبعلبك وعيتا الشعب وصور والضاحية الجنوبية... تحضر بأسمائها وأحوالها، كما تحضر أسماء شعراء ومفكرين وأبطال وفئات من لبنان: وذلك من خلال معراج دموي لزينب... يذكر الشاعر من خلاله شعراء قدامى ومحدثين: جبران والريحاني، وازن وشمس الدين، بيضون ولامع، جمانة ودكروب ... إلى آخره إلى آخره... ويذكر الصدر (موسى) والمحرومين والفينيقيين ودروز الوادي واليسوعيين والماديين الجدليين... ثم ينتهي بتمجيد الدم اللبناني المهدور وبطوبى للمعتقلين وطوبى للجرحى.
والقصيدة مركّبة على أساس حمامة طوّافة على كل ما ذكرنا... يقول: «تنهض زينب من تحت (دم)... لتحمل في منديل يديها سبع حمامات نازفة/ وتطوف على الأمكنة تطابق بين الجغرافيا والطير». ولعل بيت القصيد في القصيدة، إضافة لعاطفتها الجيّاشة المؤثرة، هو في هذه المطابقة بين الجغرافيا والطير. والطير هو الحمامة (سبع حمامات)... والحمامة رمز السلام التاريخي... فأين هو الطير الرمز مما يحلّق فوقه من خراب؟...
ينتقل حلمي سالم، بعد هاتين القصيدتين، إلى تقنية ثانية من التعبير الشعري، أو مستوى ثانٍ، من خلال قصيدة بعنوان «بعض سيرة بهلول» وقصيدة أخرى بعنوان «زينب تعلّب». ولست أدري إذا كان ثمة خطأ في الطباعة... أهي «زينب تعلّب» أم «زينب تلعب». أرجّح «تعلّب» لأن مطلع القصيدة يدلّ على أن ثمة تكريساً أو تعليباً للحزن، ولأن القصيدة غير رومانسية بالمرّة... ولأنها رمزية ونثرية... فزينب هذه القصيدة، غير زينب القصائد الأولى... هي خاضعة لتحولات الشعر واللغة والرؤيا.
«وبعض سيرة بهلول» قصيدة غامضة وإن كانت تتكئ على بعض أسماء وإيماءات، لا توصل سوى غموض الحال: «أشهدُ يا حراس الريحان أختي تلتوي بغتةً في أم كلثوم... وتشكو هجمة الدم النسوي في حجرة المترجمين ثم تمضي إلى وهران على طريقة الدراويش: كذا بدأ/ الحُمى ممسكة بأخيه في آخر الصّوان/ وهو يهدهده على الكتفين باللمح...» ... فالرؤى غامضة، والسرد نثري إخباري رمزي... والقصيدة تدور في فلك من إحالات وانخطافات لا يطفو عليها السياسي المباشر، بل يغمسها الرؤيوي الملغز بمائه... «كيف تتسع عين عصفور للسماء/ ولا تستطيع أن ترى مزلاج القفص؟»
والشاعر في القصيدة هذه أكثر انسراحاً، ومراحاً، بل هو مستسلم لحريته غير المقيدة لا بحدث ولا وزن ولا قافية، وحتى ولا صيغة. إنه ينتمي هنا لسالمٍ آخر. ينهي قصيدة بالتالي:
«ليس هناك أراه/ ليس هناك تحت/ ليس هناك مجهر».
واستعارة شخص «بهلول» كراوية للقصيدة والشاعر، استعارة منحت الشاعر حرّية في اللعب والإلغاز... والإشارات المختلفة للحقيقة، على لسان «بهلول»... أي العقل المتلبّس في الجنون... والحقيقة الصادرة على لسان «البهلول»...
في المناخ الملغز تدور قصيدة «زينب تعلّب»... يقول «ارقبوها/ تعلّت الماريونيت الضحوك/ في شارع المنصور محمّد».
بعد هذا المناخ الملغز والتخييلي للشعر، المسكوب في سرد نثري (وهنا المفارقة) ينتقل حلمي سالم للمرحلة الثالثة في قصائده، وهي مرحلة قصائد بأسماء نساء: رنيم، جمانة، فريدة.
وهو مناخ غنائي إنشادي «كبرت في السهورنيم» «كنت أظن ستبقى طفلة قلبي...» والحال أو ما ينضح من حال القصائد، أن ثمة نَسَباً من لحم ودم وعصب بين الشاعر ونساء قصائده.
علاقات أبوّة أو عائلية، أو حياة قريبة متواشجة.
هنا اللعب الشعري مرتاح، والغنائية تتعدى المعنى نحو الصيغة والإيقاع واللغة»... وأطلّ من الشرفات هلال حيّ وحيي وحميم...» أو «ليس يروم وليس يريم» أو «طارت عن أيك طفولتها الأولى/ لتحطّ بأيك طفولتها الثانية/ فإذا بالأيكين يهيمان براءٍ وبنونٍ وبياءٍ وبميمٍ»... .
فالقصيدة تمثل تحولات رنيم الغنائية من الطفولة إلى... العرس.
في قصيدة «فريدة» مساحة لا بأس بها للحلم «ضعي سرج المهر على المهر ليبتدئ الركض على وقع الحلم». وفي القصيدة تحشيد رؤيوي يلامس أفقاً من التعبير الصوفي... يستكمله الشاعر في القصيدة الأخيرة من الديوان وهي قصيدة «جمانة»... حيث اللغة لغة إنشاد وغنائية عذبة:
«بزغت في الليل جمانة/ فإذا العمر الشائخ يتجدد كالعنقاء
ورمز يبتكر زمانه».
ولمسات الرحمة والرومانسية في القصيدة، كثيرة... لكن «جمانة» وهي بنت البنت، تعيد الشاعر إلى أرضه الوسخة، وتنزله من أحلام الطوبى، إلى البيت بما فيه من مباذل يقول:
«بزغت في الضوء جمانة: بالت فوق الكتب وفوق الشعر جمانة».
الحياة - 14/04/2007