راهب النخيل
[الغراب]
أشيخٌ من الأزمان والناس ساخرُ = لهول الذي كابدتَ؟ أم أنتَ طائرُ
تطيّر منك العالمون فأرجفوا = بنحسك حتى قيل بالحظّ كافرُ
ومازال منهم من يراكَ كأنما = أحست دبيب الموت فيهِ المشاعرُ
ومن يهجر الدنيا إذا كنت ضيفها = وأنت بهذا الكون سأمانُ هاجرُ
تُطلّ بعينٍ مِلؤها السخر بالورى = وأخرى بها للناس لحظٌ محاذرُ
وتستشرف الوديان لا قلبك ارتوى = هدوءاً ولا اهتزّت لديكَ المخاضر
ولا جادك الفيء الظليل بجوسةٍ = تقرّ بها عينٌ وتهدأ خاطر
ولا المرجُ حيّاك الغداة بأيكةٍ = تروّح فيها عن شجاكَ الأزاهرُ
ولا نلتَ رزقاً لمْ يغيّب نعيمهُ = حذارك أن تلقى عليه النواظرُ
فيوماً من الناطور تحيا مفزّعاً = تميل فتثْنيكَ الجدودُ العواثرُ
ظلالٌ وأثمارٌ ونبعٌ وجنةٌ = وصمتٌ على البستان ريّان ناضر
وخمر على شط الكروم سجينةٌ = تكادُ لنجواها تهيج السرائر
مختمة الأقداح نامت غصونُها = فأيقظها زَفزاف ريحٍ مسافر
تحنّت دواليها وحنّت ظلالها = إلى رشفةٍ مخبوءةٍ لا تُعاقر
وجنّت سواقيها فأنّت وأقسمت = إذا لم تذقها لا رعاها التصابر
يرنّ على أعنابها الفيح ساجع = تنادِمهُ كأس الضحى وتسامر
تغنّى بها شادٍ وتمتم في الربى = يمامٌ على عنقودها ذاكرُ
كأنّ رباها مرضعاتٌ كأنّما = عناقيدها أملاك مهد ٍ طواهرُ
كأن بشط النيل أقدس حانةٍ = إلى اليوم لم يلمس بها الكأس فاجرُ
حرمتَ طلاها وانتشت برحيقها = أبابيل من نحل الضحى وقنابر
وما يفعل الظمآن والنبعُ سلسلٌ = إذا مال والحظ المخيّب عاثر
عيونٌ بظل الكرم يا صاح أوشكتْ = تواسيك منها أدمعٌ ومحاجرُ
وفرعٌ من الجمّيز أطلسُ واجمُ = حواشيه أنفاسٌ عليك زوافر
وصبّك هذا النخل إني أحبهُ = وبي ما بهِ وجدٌ لبلواك ساعر
تظلّ على عرجونهِ متأرجحاً = خطيباً فتحنو أغصنٌ ومنابر
وتنعق في أظلالهِ متصايحاً = فيحسب أن شدت عليه المزاهرُ
وراح رخيم الكفّ والصوت والصدى = تُناديه ألحان الخلود السواخر
فتخشع أهداب الجريد كأنّما = تودّع نعش الريح منك المناقرُ
وتأوي إليهِ في الهجير فترتوي = من الظلّ حيث الظل أفيحُ عاطرُ
على شاطيءٍ لا ماء فيه وإنما = مواردُ خُيّاب الحظوظ مصادرُ
فتُسقى هدوءًا عنده وسكينةً = وأمناً لديه يستقرّ المهاجر
وتسقيه شأن الغادرين لجاجةً = وفي الطير ما في الناس وافٍ وغادر
نعيقٌ ولغوٌ أعجمت نبراتهُ = وطال ولم يكشف خباياهُ ساحر
تخطته أحقاب ومرت أدهر = وظل ولغزٌ منه للكون قاهرُ
فَمِنْ قائلٍ: بينٌ مُشتٌ وفرقةٌ = ومِنْ قائلٍ شؤمٌ على الأرض طائرُ
ومن قائلٍ لا البين لا الشؤم إنما = بهذا الصدى النعاب أولى المقابرُ
وأنتْ كمثلي هاربٌ من فضولهم = جوابك للأكوان إني ساخر
فدعهم يلوكون الحديث وأصغ لي = فما منهمُ للسمع إلا التهاتر
لهم فلسفاتٌ انت ضلّلت رشدها = بسرٍ تناهت في مداه الخواطر
وعقلٌ إذا ما رفّ سقطك لم يزل = يراوغهُ طيفٌ من الشك عابر
يهمّ إلى الأستار يكشف غيبها = فيصعقه غيبٌ على الغيب ساتر
ويمضي بكبرٍ في الحجا فيصُدُّهُ = ويُرديه كبرٌ في المقادير ظافر
فسرك لو يدري الألى ظلُّ ريشةٍ = بعشّك هاجتها الرياح الزوافر
ورقشٌ على الكثبان خلّفت رسمَه = يذرّيه رملُ الزعزع المتطاير
فطر في البراري كيف شئت وغادني = إذا عدتَ بالغيب الذي أنت ناظر
فما لك غيري في البرايا متيمٌ = وإن كنتَ تجفو عزلتي وتهاجر
ولي فيك دنيا من خيالٍ بظلّها =ىزوارق للشطّ الخفيّ سوائر
حدتْهن ريحٌ من مسابح عبقرٍ = بمثل صداها ما تغنّى مسافر
إلى الخلد أو منه تهُبّ فواتني = بعلمك عنها إنني اليوم حائر
لها الوحيُ نوتيٌ وظلٌّ شراعها = على الدهر ممدود التظاليل غامر
عبرت بها الأجيال أنشُد شاطئي = ودون مداه أتعبتني الأداهر
فيا راهب الأزمان كشّف ستورها = وأفصح فإنّ العقل حيران سادر
ودعني وسرًّا في الليالي دفنتهُ = سيبعثُه نايٌ بكفّيّ صافر
وإلهامُ شعرٍ بين جنيّ دافق = عليه رحيق الخلد سكرانُ ساكرُ
إذا أنا لم أكشف سرائرك التي = شدهت بها الدنيا فما أنا شاعر
***
تعالَ فطارحني الأحاديث في الورى = فَمِنْ دهرهمْ فاضت لديك النوادرُ
عبرت فضاء الله من عهد آدمٍ = ومن قبله ملّت خطاك المعابرُ
وجئت بأمر الله في الأرض هادياً = تداري وتأسو ما جناهُ التناحرُ
رأيت طريحاً في الترابِ معفّراً = تنوح عليه السافياتُ الثوائرُ
هوَ البذرةُ الأولى على الشاطيء الذي = بمسراهُ شلاّلُ المنيّات هادر
تمرّ بهِ الأيامُ خرساءَ رهبةً = كما في رحاب القُدس أطرق سائرُ
ويهوي به ركبُ الحياةِ كما هوى = من الأفق كفّنته الدياجرُ
هو الرشفة الأولى لعزريل من دمٍ = بهِ الإثم دقّاقٌ من الإنس فائر
هو الكرمة الأولى على ملعب البلى = تحسّى حميّاها تقيٌّ وفاجر
هو الموت ساقٍ فوق أعتاب حانهِ = سواءٌ صعاليك الورى والقياصر
يموت ضياءُ الشمس إن مسّ دنّه = ويفنى البلى إن لامسته الحفائر
رأيتَ صريعًا ذاق من فيهِ قطرةً = فنام ومن بلواهُ قابيل ساهر
ينادي له الدنيا: تعالي وستّري = منَ الأرض جُرحاً أثخنتهُ الهواجرُ
قتيلٌ بكفّي رحت ندمان فوقه = وكادت لمرآه تشقّ المرائر
على الترب عريان الفناءِ كأنه = فناءٌ لدنيا الآدميين سافِرُ
أكاد وقد كفّنته بخواطري = وفي الكرب قد تأسو وتبرى الخواطرُ
أفُضُّ له مِنْ مُهجتي سابريّةً = تُغطّيه لكنّي من الضعف خاسر
أ هابيل ما ذنباً جنيتُ على أخي = ولكنّ سهماً أنفذته المقادرُ
وياربّ غفرانَ السماءِ ورحمةً = وستراً فمالي غيرُك اليوم ساترُ
فيا كاهن الأيام جئت معلماً = لقابيل يقضي بالذي أنت آمر
دُعيت بأمر الله تحفر في الثرى = فتسكبُ نورَ الرشد منك الأظافرُ
نقشتَ على الكثبان خطّاً تهلّلتْ = وقرّت لمرآهُ النفوس الحوائرُ
فواريتَ للإنسان في مثلهِ أسًى = ويأساً وسوءًا ما وعتهُ الكبائرُ
وأصبح تابوت الزمان ومضجعاً = على مهده يغفو الألى والأواخرُ
عشقت كراهُ غير أني أخافُهُ = وأخشى لينساني البلى وأُحاذرُ
فأحلُمُ بالدنيا كما كنت فوقها = وتفدحني منها الخطوب الجوائرُ
سلاماً قسيمي في الحظوظ وصاحبي = وقد أرخصت عهدي القلوب الغوادرُ
عشقتك منذ النخل مدّ ظلاله = عليّ تُغاديني به وتباكر
وتسبق حبو الشمس فوق جريده = ليختلس الأثمارَ في الروض ماكر
ومذ كانَ لي في الكوخ عهدٌ فقدته = فسلْ عنه تنبيك الليالي الغوابرُ
صلاتي به في سنبل الحقل لم تزلْ = تسابيحها تغذو المنى وتسامر
ونوحي على الدولاب دارت بشيخهِ = صروف الليالي وهو في الذل دائرُ
قواديسه تروى الربى وهو ظاميءٌ = وأنّاته جزاعةٌ وهو صابرُ
وفي مرجه الفلاح يشدو قناعةً = وتشدو بجفنيه الدموع الهوامر
سليبٌ من الأستار إلا ذؤابةً = عليها صراخُ البؤس في الكون ساعر
وفأسٌ بكفّيهِ يكادُ حديدها = يسيل ودمع الظالمين مُكابرُ
يُخطّط في القيعان أسطارَ شقوةٍ = لها الظُّلمُ وحيٌ بالرّزيّات هامرُ
قصائد من شعر الهوان نشيدُها = إذا رَنّ ماتت في أساها القياثرُ
لها عرق المسكينِ دمعٌ أذلّهُ = مِنَ القلبِ ظلاّمٌ على الأرض جائرُ
مراثٍ أصمّ الناس عنها جنانهم = ورنّتْ بها فوق السياجِ العصافرُ
لأقسمتُ ياشيخ العصور تُذيعها = وتنعي بها فوق السها وتُجاهرُ
فقد طال نسيان الورى لأنينها = ورنّت بشكواها الطلولُ الدّواثرُ
وعطرٍ لديهِ الطيبُ نشوانُ ذاهلٌ = تُجنُّ عليه في الذهول الخواطر
على أغصن الليمون غنّى خيالُهُ = فضاعت بأحلامي لديهِ المجامرُ
رشفتُ شذاهُ مرّةً فلحظتني = فتيّمتَ إحساسي وطرفُكَ ناظرُ
وأوشكتُ أجثو من خشوعٍ فخلتني = عدوّكَ فازورّت لديك النواظرُ
وطرت وخلّفت الخيال وذِكرةً = على العشب تُشجيهِ فهل أنت ذاكرُ
***
أحاجيك ما قسيسُ ديرٍ مُسُوحهُ = وشائعُ من فنّ السماء سواحرُ
تشيب لِحى الأحقاب وهي شبابُها = على الدهر جُنحٌ أسحمُ الصبغ عاكرُ
ويفنى ظلام الليل وهيَ ظلامها = خضمٌّ على آبادها يتقاطرُ
تسابيحهُ في الدّيرِ غاقٌ وإنها = لأسطورةٌ مجنونةٌ تتهاترُ
له صلواتٌ في البراري وعزلةٌ = تُساءلُ عنها في الجبال المغاورُ
ونوحٌ على صمتِ الكهوفِ كأنّهُ = يؤبنُ ميتاً شيّعتهُ السرائرُ
وزهدٌ على سدر الصّحارى كأنّهُ = على رملها أحلامُ جنٍّ سواكرُ
ونقرٌ على الأكفانِ والجثثِ التي = جفتها ولم تستر رداها المقابرُ
وحجلٌ إذا ما سارَ تحسبُ نقشهُ = أنا بيش رمّالٍ غزتها الأعاصرُ
فيا راهب الأجيالِ إن كنت مثلما = نعتُّك فليشفِ الغليل التنادرُ
أجيني على أُحجيّتي واحك مثلها = فمن فيك يحلو لي الصدى والتسامرُ
فقال: أنا القسيسُ والكون معبدي = وبالشرع في ديني البرايا كوافرُ
فأنصت انجوايَ الغداة لعلّما = يُهدهد جرحاً في حشايا التناظرُ
أُحاجيك َ ما طيرٌ على النيلِ شاردٌ = جفتهُ عشاشٌ في الحمى ومعابرُ
يرفّ على الأكواخِ تُدمي نشيدَهُ = أماسٍ صريعاتُ المنى و بواكرُ
تغنّى طويلاً بالأسى في ظلالها = فغصّت بأنّات اللون الحناجرُ
ومال إلى دنيا الحضارةِ نجوهُ = فأشجتهُ أطماعٌ بها وتهاترُ
وقومٌ على زيفِ المناصبِ حوّموا = وهاجوا على بهتانها وتناحروا
ومن خلفهم جيشٌ من البؤس والضنى = وهول العوادي مضرمُ القلبِ ثائرُ
فلولٌ من الأبشار ساق حُطامها = وأغرقهُ لجٌّ من الظلمِ زاخرُ
وقطعانُ إنسٍ للفجور تواكبت = كما دفّ سربٌ للينابيعِ صادرُ
فرّوع قلب الطير منها وأصبحت = قياثيرهُ خرسُ الأغاني خوادر
فمال إلى عشٍّ تحنُّ لطهرهِ = وتهفو إليهِ في البروجِ الحرائرُ
به ضبّةٌ عذراءُ من طبّها ارتوت = وضاعت على نسكِ الغرامِ المباخرُ
أست جرحه الدامي وواست شجونهُ = ونسّتهُ ما جرّت عليه الحواضرُ
ودارت على العشّ الليالي فأضرمتْ = بدنياهُ أنفاسُ الرياح السواعرُ
فأصبح مفطور الأغاني مشرداً = على الأفق طيرٌ عن مغانيه نافرُ
أجبني على أحجيّتي وانضُ سرّها = فإن لم تُكشّفهُ فما أنت شاعرُ
فقلت: أنا الطير الشريد وهذه = بلادي يشقى في حماها العباقرُ
أعيشُ بها أستمريءُ الحظّ صدفةً = كما عاش من سفى البيادر طائرُ
فلاَ الحظُّ واتاني! ولا اليأسُ صدَّنِي ! = كأَنَّي على خُضْرِ الرّوَابِي مُقَامِرُ
شعر: محمود حسن إسماعيل