الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أشعار الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

راهب النخيل

[الغراب]

 

أشيخٌ من الأزمان والناس ساخرُ = لهول الذي كابدتَ؟ أم أنتَ طائرُ

تطيّر منك العالمون فأرجفوا = بنحسك حتى قيل بالحظّ كافرُ

ومازال منهم من يراكَ كأنما = أحست دبيب الموت فيهِ المشاعرُ

ومن يهجر الدنيا إذا كنت ضيفها = وأنت بهذا الكون سأمانُ هاجرُ

تُطلّ بعينٍ مِلؤها السخر بالورى = وأخرى بها للناس لحظٌ محاذرُ

وتستشرف الوديان لا قلبك ارتوى = هدوءاً ولا اهتزّت لديكَ المخاضر

ولا جادك الفيء الظليل بجوسةٍ = تقرّ بها عينٌ وتهدأ خاطر

ولا المرجُ حيّاك الغداة بأيكةٍ = تروّح فيها عن شجاكَ الأزاهرُ

ولا نلتَ رزقاً لمْ يغيّب نعيمهُ = حذارك أن تلقى عليه النواظرُ

فيوماً من الناطور تحيا مفزّعاً = تميل فتثْنيكَ الجدودُ العواثرُ

ظلالٌ وأثمارٌ ونبعٌ وجنةٌ = وصمتٌ على البستان ريّان ناضر

وخمر على شط الكروم سجينةٌ = تكادُ لنجواها تهيج السرائر

مختمة الأقداح نامت غصونُها = فأيقظها زَفزاف ريحٍ مسافر

تحنّت دواليها وحنّت ظلالها = إلى رشفةٍ مخبوءةٍ لا تُعاقر

وجنّت سواقيها فأنّت وأقسمت = إذا لم تذقها لا رعاها التصابر

يرنّ على أعنابها الفيح ساجع = تنادِمهُ كأس الضحى وتسامر

تغنّى بها شادٍ وتمتم في الربى = يمامٌ على عنقودها ذاكرُ

كأنّ رباها مرضعاتٌ كأنّما = عناقيدها أملاك مهد ٍ طواهرُ

كأن بشط النيل أقدس حانةٍ = إلى اليوم لم يلمس بها الكأس فاجرُ

حرمتَ طلاها وانتشت برحيقها = أبابيل من نحل الضحى وقنابر

وما يفعل الظمآن والنبعُ سلسلٌ = إذا مال والحظ المخيّب عاثر

عيونٌ بظل الكرم يا صاح أوشكتْ = تواسيك منها أدمعٌ ومحاجرُ

وفرعٌ من الجمّيز أطلسُ واجمُ = حواشيه أنفاسٌ عليك زوافر

وصبّك هذا النخل إني أحبهُ = وبي ما بهِ وجدٌ لبلواك ساعر

تظلّ على عرجونهِ متأرجحاً = خطيباً فتحنو أغصنٌ ومنابر

وتنعق في أظلالهِ متصايحاً = فيحسب أن شدت عليه المزاهرُ

وراح رخيم الكفّ والصوت والصدى = تُناديه ألحان الخلود السواخر

فتخشع أهداب الجريد كأنّما = تودّع نعش الريح منك المناقرُ

وتأوي إليهِ في الهجير فترتوي = من الظلّ حيث الظل أفيحُ عاطرُ

على شاطيءٍ لا ماء فيه وإنما = مواردُ خُيّاب الحظوظ مصادرُ

فتُسقى هدوءًا عنده وسكينةً = وأمناً لديه يستقرّ المهاجر

وتسقيه شأن الغادرين لجاجةً  = وفي الطير ما في الناس وافٍ وغادر

نعيقٌ ولغوٌ أعجمت نبراتهُ = وطال ولم يكشف خباياهُ ساحر

تخطته أحقاب ومرت أدهر = وظل ولغزٌ منه للكون قاهرُ

فَمِنْ قائلٍ: بينٌ مُشتٌ وفرقةٌ = ومِنْ قائلٍ شؤمٌ على الأرض طائرُ

ومن قائلٍ لا البين لا الشؤم إنما = بهذا الصدى النعاب أولى المقابرُ

وأنتْ كمثلي هاربٌ من فضولهم = جوابك للأكوان إني ساخر

فدعهم يلوكون الحديث وأصغ لي = فما منهمُ للسمع إلا التهاتر

لهم فلسفاتٌ انت ضلّلت رشدها = بسرٍ تناهت في مداه الخواطر

وعقلٌ إذا ما رفّ سقطك لم يزل = يراوغهُ طيفٌ من الشك عابر

يهمّ إلى الأستار يكشف غيبها =  فيصعقه غيبٌ على الغيب ساتر

ويمضي بكبرٍ في الحجا فيصُدُّهُ = ويُرديه كبرٌ في المقادير ظافر

فسرك لو يدري الألى ظلُّ ريشةٍ = بعشّك هاجتها الرياح الزوافر

ورقشٌ على الكثبان خلّفت رسمَه = يذرّيه رملُ الزعزع المتطاير

فطر في البراري كيف شئت وغادني = إذا عدتَ بالغيب الذي أنت ناظر

فما لك غيري في البرايا متيمٌ = وإن كنتَ تجفو عزلتي وتهاجر

ولي فيك دنيا من خيالٍ بظلّها =ىزوارق للشطّ الخفيّ سوائر

حدتْهن ريحٌ من مسابح عبقرٍ = بمثل صداها ما تغنّى مسافر

إلى الخلد أو منه تهُبّ فواتني = بعلمك عنها إنني اليوم حائر

لها الوحيُ نوتيٌ وظلٌّ شراعها = على الدهر ممدود التظاليل غامر

عبرت بها الأجيال أنشُد شاطئي = ودون مداه أتعبتني الأداهر

 فيا راهب الأزمان كشّف ستورها = وأفصح فإنّ العقل حيران سادر

ودعني وسرًّا في الليالي دفنتهُ = سيبعثُه نايٌ بكفّيّ صافر

وإلهامُ شعرٍ بين جنيّ دافق = عليه رحيق الخلد سكرانُ ساكرُ

إذا أنا لم أكشف سرائرك التي = شدهت بها الدنيا فما أنا شاعر

***

تعالَ فطارحني الأحاديث في الورى = فَمِنْ دهرهمْ فاضت لديك النوادرُ

عبرت فضاء الله من عهد آدمٍ = ومن قبله ملّت خطاك المعابرُ

وجئت بأمر الله في الأرض هادياً = تداري وتأسو ما جناهُ التناحرُ

رأيت طريحاً في الترابِ معفّراً = تنوح عليه السافياتُ الثوائرُ

هوَ البذرةُ الأولى على الشاطيء الذي = بمسراهُ شلاّلُ المنيّات هادر

تمرّ بهِ الأيامُ خرساءَ رهبةً = كما في رحاب القُدس أطرق سائرُ

ويهوي به ركبُ الحياةِ كما هوى = من الأفق كفّنته الدياجرُ

هو الرشفة الأولى لعزريل من دمٍ = بهِ الإثم دقّاقٌ من الإنس فائر

هو الكرمة الأولى على ملعب البلى = تحسّى حميّاها تقيٌّ وفاجر

هو الموت ساقٍ فوق أعتاب حانهِ = سواءٌ صعاليك الورى والقياصر

يموت ضياءُ الشمس إن مسّ دنّه = ويفنى البلى إن لامسته الحفائر

رأيتَ صريعًا ذاق من فيهِ قطرةً = فنام ومن بلواهُ قابيل ساهر

ينادي له الدنيا: تعالي وستّري = منَ الأرض جُرحاً أثخنتهُ الهواجرُ

قتيلٌ بكفّي رحت ندمان فوقه = وكادت لمرآه تشقّ المرائر

على الترب عريان الفناءِ كأنه = فناءٌ لدنيا الآدميين سافِرُ

أكاد وقد كفّنته بخواطري = وفي الكرب قد تأسو وتبرى الخواطرُ

أفُضُّ له مِنْ مُهجتي سابريّةً = تُغطّيه لكنّي من الضعف خاسر

أ هابيل ما ذنباً جنيتُ على أخي = ولكنّ سهماً أنفذته المقادرُ

وياربّ غفرانَ السماءِ ورحمةً = وستراً فمالي غيرُك اليوم ساترُ

فيا كاهن الأيام جئت معلماً = لقابيل يقضي بالذي أنت آمر

دُعيت بأمر الله تحفر في الثرى = فتسكبُ نورَ الرشد منك الأظافرُ

نقشتَ على الكثبان خطّاً تهلّلتْ = وقرّت لمرآهُ النفوس الحوائرُ

فواريتَ للإنسان في مثلهِ أسًى = ويأساً وسوءًا ما وعتهُ الكبائرُ

وأصبح تابوت الزمان ومضجعاً = على مهده يغفو الألى والأواخرُ

عشقت كراهُ غير أني أخافُهُ = وأخشى لينساني البلى وأُحاذرُ

فأحلُمُ بالدنيا كما كنت فوقها = وتفدحني منها الخطوب الجوائرُ

سلاماً قسيمي في الحظوظ وصاحبي = وقد أرخصت عهدي القلوب الغوادرُ

عشقتك منذ النخل مدّ ظلاله = عليّ تُغاديني به وتباكر

وتسبق حبو الشمس فوق جريده = ليختلس الأثمارَ في الروض ماكر

ومذ كانَ لي في الكوخ عهدٌ فقدته = فسلْ عنه تنبيك الليالي الغوابرُ

صلاتي به في سنبل الحقل لم تزلْ = تسابيحها تغذو المنى وتسامر

ونوحي على الدولاب دارت بشيخهِ = صروف الليالي وهو في الذل دائرُ

قواديسه تروى الربى وهو ظاميءٌ = وأنّاته جزاعةٌ وهو صابرُ

وفي مرجه الفلاح يشدو قناعةً = وتشدو بجفنيه الدموع الهوامر

سليبٌ من الأستار إلا ذؤابةً = عليها صراخُ البؤس في الكون ساعر

وفأسٌ بكفّيهِ يكادُ حديدها = يسيل ودمع الظالمين مُكابرُ

يُخطّط في القيعان أسطارَ شقوةٍ = لها الظُّلمُ وحيٌ بالرّزيّات هامرُ

قصائد من شعر الهوان نشيدُها = إذا رَنّ ماتت في أساها القياثرُ

لها عرق المسكينِ دمعٌ أذلّهُ = مِنَ القلبِ ظلاّمٌ على الأرض جائرُ

مراثٍ أصمّ الناس عنها جنانهم = ورنّتْ بها فوق السياجِ العصافرُ

لأقسمتُ ياشيخ العصور تُذيعها = وتنعي بها فوق السها وتُجاهرُ

فقد طال نسيان الورى لأنينها = ورنّت بشكواها الطلولُ الدّواثرُ

وعطرٍ لديهِ الطيبُ نشوانُ ذاهلٌ = تُجنُّ عليه في الذهول الخواطر

على أغصن الليمون غنّى خيالُهُ = فضاعت بأحلامي لديهِ المجامرُ

رشفتُ شذاهُ مرّةً فلحظتني = فتيّمتَ إحساسي وطرفُكَ ناظرُ

وأوشكتُ أجثو من خشوعٍ فخلتني = عدوّكَ فازورّت لديك النواظرُ

وطرت وخلّفت الخيال وذِكرةً = على العشب تُشجيهِ فهل أنت ذاكرُ

***

أحاجيك ما قسيسُ ديرٍ مُسُوحهُ = وشائعُ من فنّ السماء سواحرُ

تشيب لِحى الأحقاب وهي شبابُها = على الدهر جُنحٌ أسحمُ الصبغ عاكرُ

ويفنى ظلام الليل وهيَ ظلامها = خضمٌّ على آبادها يتقاطرُ

تسابيحهُ في الدّيرِ غاقٌ وإنها = لأسطورةٌ مجنونةٌ تتهاترُ

له صلواتٌ في البراري وعزلةٌ = تُساءلُ عنها في الجبال المغاورُ

ونوحٌ على صمتِ الكهوفِ كأنّهُ = يؤبنُ ميتاً شيّعتهُ السرائرُ

وزهدٌ على سدر الصّحارى كأنّهُ  = على رملها أحلامُ جنٍّ سواكرُ

ونقرٌ على الأكفانِ والجثثِ التي = جفتها ولم تستر رداها المقابرُ

وحجلٌ إذا ما سارَ تحسبُ نقشهُ = أنا بيش رمّالٍ غزتها الأعاصرُ

فيا راهب الأجيالِ إن كنت مثلما = نعتُّك فليشفِ الغليل التنادرُ

أجيني على أُحجيّتي واحك مثلها = فمن فيك يحلو لي الصدى والتسامرُ

فقال: أنا القسيسُ والكون معبدي = وبالشرع في ديني البرايا كوافرُ

فأنصت انجوايَ الغداة لعلّما = يُهدهد جرحاً في حشايا التناظرُ

أُحاجيك َ ما طيرٌ على النيلِ شاردٌ = جفتهُ عشاشٌ في الحمى ومعابرُ

يرفّ على الأكواخِ تُدمي نشيدَهُ = أماسٍ صريعاتُ المنى و بواكرُ

تغنّى طويلاً  بالأسى في ظلالها = فغصّت بأنّات اللون الحناجرُ

ومال إلى دنيا الحضارةِ نجوهُ = فأشجتهُ أطماعٌ بها وتهاترُ

وقومٌ على زيفِ المناصبِ حوّموا = وهاجوا على بهتانها وتناحروا

ومن خلفهم جيشٌ من البؤس والضنى = وهول العوادي مضرمُ القلبِ ثائرُ

فلولٌ من الأبشار ساق حُطامها = وأغرقهُ لجٌّ من الظلمِ زاخرُ

وقطعانُ إنسٍ للفجور تواكبت = كما دفّ سربٌ للينابيعِ صادرُ

فرّوع قلب الطير منها وأصبحت = قياثيرهُ خرسُ الأغاني خوادر

فمال إلى عشٍّ تحنُّ لطهرهِ = وتهفو إليهِ في البروجِ الحرائرُ

به ضبّةٌ عذراءُ من طبّها ارتوت = وضاعت على نسكِ الغرامِ المباخرُ

أست جرحه الدامي وواست شجونهُ = ونسّتهُ ما جرّت عليه الحواضرُ

ودارت على العشّ الليالي فأضرمتْ = بدنياهُ أنفاسُ الرياح السواعرُ

فأصبح مفطور الأغاني مشرداً = على الأفق طيرٌ عن مغانيه نافرُ

أجبني على أحجيّتي وانضُ سرّها = فإن لم تُكشّفهُ فما أنت شاعرُ

فقلت: أنا الطير الشريد وهذه = بلادي يشقى في حماها العباقرُ

أعيشُ بها أستمريءُ الحظّ صدفةً = كما عاش من سفى البيادر طائرُ

فلاَ الحظُّ واتاني! ولا اليأسُ صدَّنِي ! = كأَنَّي على خُضْرِ الرّوَابِي مُقَامِرُ

 

شعر:  محمود حسن إسماعيل

saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 134 مشاهدة
نشرت فى 22 أكتوبر 2013 بواسطة saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

saydsalem
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

131,783