إني سائر للخلود
(ألقيت أمام النصب التذكاري لأحد شهداء الوطنية في ثورة 1935 م )
مِنْ دمِكَ الغالي قبست النشيدْ = يا راقداً تحتَ ظلالِ الخلودْ
إنْ لم تكن وحيا لشعري فمن = يُوحى نشيد الليل غير الشهيدْ
لفظٌ إذا ما رنّ في في مسمعٍ = خفّت به الدنيا وطار الوجودْ
يحسبهُ القيدُ إذا ما علا = في شفةِ الهتاف زأرَ الأسودْ
فيُذعرُ الفولاذُ مِنْ هولهِ = ويُحْطَمُ الغُلُّ وتبلى القيودْ
أعزلُ ! لا سيفٌ ، ولا خنجرٌ = لكنّهُ بالروحِ فلّ الحديدْ
حرٌّ رأى الأوطان مغلولةً = تُسقى مِنَ الغاصبِ ذلَّ العبيدْ
والنيلَ رغم الكوثر المشتهَى = من مائه السّلسالِ فوق الصّعيدْ
أضحى لظمآن الحمى علقماً = مُرّاً وللعادي شهيَّ الورودْ
والجنةَ الفيحاءَ في شطّهِ = كادتْ من التّسآلِ حزنا. تبيدْ
تقولُ: يا غارس ! مالي أرى = زهري بكفٍّ لم تهب لي الجهودْ
عطري على أنملها فاتحٌ = والشّوكُ في جنبيك يفري الكبودْ
والظّلّ للعادي مِهادُ الهوى = وأنت لهفانُ بحرّ النّجودْ
قد فزّعوا طيري بأعشاشهِ = فطار في الأدغال مثل الشريدْ
حيرانَ لا عشُّ ولا أيكةٌ = والقوم هانونَ بغضّ المهودْ
وزاحموا النيلَ فشادوا له = من زحمة شرَّ السدودْ
في كلِّ شيءٍ لهمُ مطمحٌ = ولوعةٌ كبرى ووجدٌ شديدْ
لو أشعلوا النارَ ولم يسعفوا = بالحطب الذاوي فنحن الوقودْ
يا من رأى مصر تعاني الضنى = في قبضةِ الغرب العتيّ العنيدْ
ضيفٌ أتاها زائرا في المَسَا = فطنّب الخيماتِ عند الحدودْ
وأسفر الصبح على نحسها = فطاح ميثاقٌ وخِينتْ عهودْ
وأصبحَ الضيفُ بها سيّدا = وسائر الأحياء فيها عبيدْ
وإذْ بروحٍ من بنيها سرى = مطهرّ القلبِ كرُوح الوَليدْ
حرٌّ رأى الأغلال موثوقةً = أحكمها في الطوق ضيفٌ جحودْ
فهبّ كالإعصار في صَرخةٍ = تهزم في الوادي هزيم الرّعودْ
براحةٍ عزلاء لكنّها = تروع بالحقّ جَنَان الحسودِ
ناعمةٌ هاجتْ لقيد الحمى = شديدةَ البأس كصخرٍ صلودْ
وقالَ والموتُ على كفّه: = لا تفزعي يا مصرُ إني شهيدْ
وخرّ في الأرض على وَجههِ = قداسةُ التقوى وطهر السجودْ
شعاعةً للحقّ من جفنهِ = تبقي منارا هاديا للوجودْ
وخفقةٌ ماتت على ثغرهِ = كادت لها شمّ الرواسي تميدْ
أنشودةٌ علويةٌ أصبحتْ = في عالمِ الألحانِ لحناً جديدْ
تناغم الأطيارمن قبرهِ = في ساحة الموتى بلحنٍ بعيدْ
يصيح والدم على جسمهِ = غلالةٌ تزرى بضافي البرودْ
يا مصر لا تبكي على مصرعي = يوما فإني سائر للخلودْ
ما سلوتي في الترب يا أمتي = رخامةٌ تزهي وقبرٌ مشيدْ
لن يستريحَ العظمُ في حفرتي = وتنعم الروح بعيشٍ رغيدْ
إلاّ إذا كنتم ضحايا المنى = وسرتم خلف ركابي وقودْ
إما حياةٌ حرةٌ في الحمى = أو فارحموا الأرماس حولي رُقودْ
روحي عليكم أبدا حائمٌ = يرقب للأوطان بذلَ الجهودْ
لا تخدعوني في حفاواتكم = برونق اللفظ وسحر القصيدْ
فالمجدُ أن تلقوا بأرواحكم = لا ترهبوا في النار هول الوعيدْ
وتحطموا القيد بها إنني = أسمع في الأكفان جرس الحديدْ
شعر: محمود حسن إسماعيل