على مذبح الحرية
"ألقيت في احتفال الأمة المصرية بذكرى شهيد دار العلوم عبد الحكم الجراحي في ثورة 1935 م وهي استيحاء موكب من مواكب الشهداء شق القاهرة وهي تضطرم كالجذوة في غروب يوم من أيام الثورة السالفة الذكر"
يا واديَ الموتى بشطّكَ راقِدٌ = خفقت لهُ الأرواح بالصلواتِ
ما ضمّهُ جدثٌ هناك وإنما = حضنتهُ دُنيا النور في هالاتِ
سَهِرت عليهِ من السماءِ ملائكٌ = تُضفي عليهِ سوابغَ الرحمات
ألقُ الضحى في ساحهِ متصوفٌ = ورعٌ يَطوف بأقدس الحُرمات
وعوابرُ الأنسام تخطرُ حولهُ = ريّا بنفحِ عُطورهِ عَبقاتِ
تنساب خاشعة وتسربُ عفةً = كمُطيّبٍ يمشي على عرفات
والفجر قبل شروقهِ فوق الربي = يختار منهُ وشعائعا ألقات
أفوافُ من لُمع السنا ، ومطارفٌ = يلقى غلائلها على الربواتِ
ويسوف عطر الخلد من جنباتهِ = ويُذيعهُ من أكؤس الزّهَراتِ
سأل الدّجى أسدافهُ لمّا بدتْ = في ليلهِ الغيّانِ مُلتمِعاتِ
ما بالُ ما أسدلتهِ فوق الورى = وضفوته من حالك الظلماتِ
لمّا نزلتِ بهِ على هذا الحمى = أضحى متوعَ الشمس فوق رباةِ
فأجابت الأسدافُ: إنّ مُضرّجًا = بدمِ الفداء أضاء لي قسماتي
سمّوهُ في الورق الشهيدَ وما اسمهُ = إلا الخلود بصفحة المهجات
ما زال سحر النيل طيَّ حفيرهِ = يرتاعُ منهُ الذرّ في الحصيات
وطلاسم الأهرام فوق جبينهِ = قبسُ الخلود يشعّ للنظراتِ
وشعاعة الإيمان تشرق بينها = كالنجم يسكب رائع اللمحات
وشواظُ هيجتهِ يكادُ على الثرى = يُذكي اللّظى بالأعظُمِ النخرات
ملْ نحو مضجعهِ وأصغِ لجرحهِ = واسمع نشيدَ الدّمِّ في القطرات
ما زالَ يُترع ثورةً من قلبهِ = خرساء مُصفحةً بلا نبراتِ
وكأنّ آخر لفظةٍ هتفت بها = شفتاهُ مزمورٌ مِنَ التّوراةِ
وكأنّ أجراحَ الأسنّةِ رايةٌ = حمراءُ شهرها الدخيلُ العاتِي
لمح الشهيد خيالها فنضا لها = روحاً يثور بأصلب العزمات
وأحالها مزقاً صواغر أصبحت = كفنا يُذيق القيدَ مُرّ شمات
وارتدّ في ريعانهِ مستشهدا = يُزهي بقدس الموت في الحفرات
وكأنهُ لمْ يلقَ من كرب الردى = إلاّ رسيسَ ضنًى وظلَّ صُمات
***
أعوادُ زانٍ كنّ في كنفِ البلى = صفراً نبذنَ بأبشعِ الكسرات
حمّلنهُ فأعادهنّ عرائشاً = تخضلُّ فوق الهام مؤتلقاتِ
وكأنّ بين حنوطهِ ريحانةً = أزليةً هربت من الجنّاتِ
نسمت عبير الخلد طيّ سُتورهِ = وترعرعت في ريق النفحاتِ
وترى الشموع الموقدات لنعشهِ = شُعَلاً من الفردوس مُنبعثاتِ
تهتز والهةً وتغضي رهبةً = كنوادبٍ في الركب مُستحياتِ
والسّابريّ تخالهُ من طيبهِ = بردَ النبيّ معطرَ الصفحات
لفّ الشهيدَ مُطهّراً فحسبته = مَلكاً تهيّأ مهدهُ لسُبات
حارت شفاهُ الهاتفين حيالَهُ = ماذا تنصّ لهُ من الدعواتِ
واهتاجت الغيد العوانس حيرةً = ماذا يفضن لهُ من الشرفاتِ
الزهرَ ما تطيابهُ والعطرَ ما = تسكابهُ لمُعطّر النسماتِ
والحسنَ ما تلماحهُ واللحنَ ما = تصداحهُ لمفجّر النغمات
خُيبَ حين رجونَ أيةَ سلوةٍ = فوجمن من هول الردى جزعات
يتّمن أدمعهن من طول البكا = وظللن في الأبراجِ مكتئباتِ
ودنا الشهيد من القبور فأرعشتْ = طربا بمقدم نعشه فرحات
كحمائم نزحت فضلل سربها = ظل المساء بوحشة الفلوات
جثمت على الكثبان تنتظر السنا = وأتى الصباح فهجن منتعشات
حتى إذا وافى الحفير كأنه = وحي السماء مبلج الآيات
كادت عظام الهالكين تخشعاً = لجلاله تَصطفّ في الطرقاتِ
وتعودها الأرواحُ من فرحٍ بهِ = وتظلّ حتى البعث مُبتهجات
من مثل هذا الحيّ ؟ كرّمَ موتهُ = من سائر الأحياء والأموات
وهناكَ تحت الغاب يعزف شاعرٌ = بقصيدةٍ مكروبة الأبيات
أشجى بها الشهداء بين قبورهم = وأثار شجو الليل في الغابات
وشدا فكاد الغاب يسجد نشوةً = ويرتّل الأشعار في السجدات
لما أذاع شجونها في ليلةٍ = سوداء كالأمواج مصطخباتِ
وثبت له روحٌ تفيضُ حماسةً = ومضت تلّومهُ بكل ثبات
ما بال قلبك لجّ في نغم الأسى = وفواجع الأحلام والصبواتِ
حطّم ربابتكَ التي تشدو بها = وادفن نشيد الهمِّ والحسراتِ
واصدح لنا بقصيدةٍ وطنيةٍ = تدعُ الشهيد مسعر النفثات
أسمعهُ قصتهُ فإن حديثها = سمر الزمان بهذه الخلواتِ
***
فانساب وحي الشعر من أوتارهِ = كجداولٍ في الحقلِ منسكباتِ
وغدا يغنّي في الحمي : يا جنّةً = فجّرتُ بين ظلالها نغماتي
النيل فيها قصةٌ أبديةٌ = والطير قارئها على العذبات
والنخلُ فيها ذاكرٌ مسترسلٌ = هيمانُ مسحورٌ على الورقاتِ
والنخل في صمت الرياح كأنّه = نُسّاكُ فجرٍ آذنوا لصلاةِ
والشاعرون كأنّ مسّةَ جِنّةٍ = خبلتهمُ من روعة الخطراتِ
تلقى أناملهم إذا جاسوا بها = من زحمة الإلهامِ مُرتعشاتِ
كنّا نسير بها ولا حُسنٌ ولا = فِتنٌ سوى الأغلال محتدمات
نُسقى بها البلوى ويشرب غيرنا = من نيلها بالأكؤس الشّبماتِ
والقيدُ يسبقنا إذا رُمنا به = فتكاً فيرهقُ عزّةَ الخُطُوات
وإذا بأرواح الشباب تُطلُّ مِنْ = خلل الأسى والذّلِّ مُنفطراتِ
حتّى أتى يوم الفداء فزُلزلت = غضباً وراحت فيه مُشتعلات
لبست دروع النار ثم تقدمت = لسلاسل الفولاذ مضطرمات
نسفت صفائحها وأفنت ذرّها = وتهافتت في الترب مبتسمات
رشفت رحيقَ الخلد قبل مماتها = وتهيّأت لحماهُ مُنتشيات
فوقفتُ أبعث ذكرها بملاحني = فشدت مُرفرفةً على أبياتي
يا شاعراً غنّى فكاد نشيدهُ = يهتزُّ في الأكفان منهُ رُفاتي
هذا خيالُ الخالدينَ فغنّني = وأعِدْ بشعركَ للشباب حياتي
شعر: محمود حسن إسماعيل