أحسّ بحرقة في حلقه اشتدّت واشتدّت حتّى كادت تصير لهيبا ينفثه مع أنفاسه الظمأ شديد والماء البارد لايقدر على إطفائه ...رغم أن الفصل شتاء والبرد في الخارج زاول مكانه تحت الصفر والهضاب المجاورة يجللها البياض في ليلة سوداء عاتمة ....
تناول كوب الحليب الذي وضعته له أمّه مع طبق الطّعام غازلته أصابعه الرّقيقة لكنّها رفضته مع أوّل جرعة حطّه كمن ندم : لاأريد هدوءا ولاأريد نوما ولامرطّبات ولاأقوى مسكّنات العالم الغربي ّقادرة على تهدئتي أشعر بالضّيق و هذه الشفاه تتكلّس تتجفّف تتيبّس لم تعد قادرة على نطق خمسة حروف وبأيّ ترتيب ممكن .ح.ر.ي.ة...
هدأت عضلات يده وسكنت لبرهة إذ أقنع نفسه انّه لم يقم بخيانتها ولا يبحث عن إطفاء اللهيب الذي يشبّ في كل ّ خليّة من جسده حتّى صار يشعر أنّ دمه قُذَ من مشتقّات النفط وسيلتهب في أيّة لحظة ....
وامتدّت أصابعه لتراقص حبّة البرتقال الحامضة على يمين الطّبق لمّعها بالمنديل غرز فيها ظفرا وجزّ من قشرها أنملة ثمّ ردّها شعر أنّه سيتقيّؤها وأنّ هذا المريء الذي امتلأ مَرارًا سينسدُّ بها ويطردها لست بحاجة إليها ولالمنشّطاتها وفيتاميناتها وسكّرها وكل ما أحتاجه خروج الحروف الخمسة من حلقي أشعر أنّها تكتظّ وتتزاحم وتتعرقل و تسقط فوق بعضها البعض وكلّما نهض حرف أسقطه آخر أشعر بالاختناق أريدها أن تخرج وفي أي ّ ترتيب كان ح ر يّ ة الحبال الصوتيّة تتشابك في حنجرتي وتتهيّج تتغلّظ تتقلّص تتمدّد لم تجد حرف الحاء فتشعر بالخجل وتتراجع وتتقوقع والمزمار يهتزّ وينخفض ثمّ يهدأ ....
نهض جلس...نهض ثانية خطا خطوات حتّى مكتبه سقط بصره على شهائد امتيازه في الدّراسة فأشاح عنها تحسّس كتاب الفلسفة أمسكه شَطَرَهُ نصفين انفرج على صفحة عنوانها "الحريّة والمسؤوليّة " حاول أن يجهر بالعنوان فخانه الصّوت رمى الكتاب بين كتابيْ التّاريخ والجغرافيا وتطايرت من بين دفّتيه ورقة وحيدة دفعها الهواء المتسرّب من فرجة النّافذة طارت كبساط علاءالدّين ونامت الورقة على وسادته مرّر راحته عليها كالمعتذر ثمّ التقطها وطبع قبلة من شفتيه الجافّتين الكالحتين على حروفها ورماها أقلعت وحلّقت في أرجاء الغرفة في حركة التفافيّة غريبة وحطّت على مدرج مستدير في قاع سلّة المهملات
تمدّد على الحشيّة ودسّ وجهه في الوسادة ثمّ استدار واستلقى على ظهره وأرسل يده إلى قاطعة الكهرباء يطفئ المصباح الهزيل ويغرق الغرفة في ظلمة حالكة شعر أنّ الظلمة تنغرس في داخله وتتجذر في أرجاء قلبه ورئتيه وتعشّش في كبده وفي كلّ كريّة من دمه شعر بالقيء ....تقرفص وضع يده على شفتيه لكنّه عاد واستقرّ جالسا فقد سكنت العاصفة ....
أمضى الليل بين مدّ وجزر و ولين وزجر إنّ غدا لناظره لقريب لكنّه شعر أن اللّيلة أطول من القرن الماضي شعر أنّ حنجرته الحبلى بالحروف الخمسة تتمخّض وستنجب وتخلص إلى لسانه وتشقّ الشّفتين فتترطّب وتؤلمه ويستمتع بألمها ستنطلق غدا صباحا في ساحة المعهد رقراقة تركب أشعّة مولد يوم جديد ستولد تحت عيون الجميع و وتتسلّل بين صفوف الشّباب المتراصّين المتشوّقين لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور ....
واعتلى حامد المنصّة وهو نصب العلم السابق ثابت الخطوات وأرسل بصره جال ساحة المعهد ...على كل باب وقف قيّمون يرصدونه بعيون ملؤها الشّفقة وظاهرها الغلظة ومن شرفة البرج العاجيّ في الطابق الثاني شرفة مكتب المدير انطلقت نظرات متثبّتة وكانت تلك أوّل مرة ينظر ٍإليه فيها المدير كانت نظرات حانقة ردّ عليها حامد برفع سبّابته ووسطاه مشيرا الى علامة النّصر وتركهما عاليتين وتلهّفت الآذان واشرأبّت الأعناق نحو هذا الشابّ ذي السبعةعشر ربيعا أيام قلائل ويلج ربيعه الثّامن عشر بسمرته الخفيفة وأنفه الشامخ المنطلق نحو الأعلى وجبينه العريض تنسدل عليه خصلات شعر فاحم .....ساد الصمت برهة استجمع كلّ قوّته وتجرّع الهواء النّديّ في ذلك الصّباح الباكر ودفع يده عدّة مرّات ح ح حريّة حريّة كرامة وطنية وضاع صوته في هدير أمواج الشباب خبز حريّة كرامة وطنيّة ....
وارتفعت الأيدي تلوّح تتهدّد وتتوعّد لصوص الحريّة وتستقبل زخّات الكرامة ....
اختفى شبح المدير من الطابق الثاني والشرفة مع مولد الحروف الخمسة ومضت ساعة واحدة وانعقد مجلس مصغّر على مولد الحروف الخمسة لم يكن لتسمية الوليدة ومباركتها والآذان في أذنيها وبسملتها وتعويذها من كل الشرور واللصوص وهي مازالت لم تستطعم قطرات الحليب الأولى عندما علّقت ورقة بطابع أحمر وسطر بنفسجيّ عنوانها "رفت نهائيّ"
يرفت حامد.....رفتا نهائيّا ....
ووجد نفسه على الرّصيف مطرودا لم يشعر ببرده وصلابته وشعر أن الحجر والاسفلت و والشجر والعربات وكلّ شيء من حوله يمتصّ ذرّات الاكسيجين أنفاسه تنضب وتذبل وتخمد وتغمر وجهه مسحة صفراء عندما تساقطت عليه قطرات من الماء المنسكب من فوهة قارورة صديقته سعيدة صديقته الوحيدة المفضّلة وأصابعها تلتفّ على أصابعه المرتعشة تحاول احتواءها لكنّه ودّعها ومضى وفي المنعرج الأوّل تسمّر أمام دكان يبيع قوارير البنزين المهرّب دسّ أصابعه في جيبه سحب منه دينارين مدّهما للبائع ولم ينتظر الباقي قائلا: هديّة الحريّة " وعاد أدراجه حتّى باب المعهد حيث لاتزال سعيدة في ذهول مما يجري وأفرغ القارورة على رأسه تسرّب البنزين في الشعر الفاحم وتغلغل في الملابس الداخلية وغزت رائحة النفط كلّ الشّعاب في جسده وانفجرت الحروف الخمسة مع انفجار شرارة الكبريت في ثوبه وارتفع اللّهيب وتراقص في الشّارع رقصة الدّيك الذّبيح وعبق ريح الشّواء وانتشر ريح الشّعر المتفحّم الملتهب والصّوف والقطن من ملابسه المحترقة ...الكلّ يجري نحوه الكلّ يهرب منه والأيدي ترتفع وتهيل عليه كل ماصادف من رمل وحصى
و محافظ... الكلّ يسرع ...الكلّ يبحث عن وسيلة إطفاء ونحجوا بإلقائه أرضا وأخمدوا ألسنة اللهب واحتوته سيّارة إسعاف تاركة الحيرة تلفّ الجميع ترى هل ......؟ هل سيتشوّه وجهه الجميل؟ هل بقي الوجه الجميل ؟ .... هل سيحتفل بشتائه الثّامن عشر ؟.....
وعلى صفحات الفايس التهمت العيون خبر رحيله ويُتْمِ الحروف الخمسة على نصب العلم القديم ........
البشير عجالة في 10/1/2011
ساحة النقاش