بسم الله الرحمن الرحيم

شعر اللسن المندى بين الجزالة والحداثة

قراءة أولى في شعر الدكتور أمين عبدالله سالم

فراسة معلم:

"إلى العزيز الذى توسمت فيه خيرا فبذ كل ما توسمت فيه فنفع الله به: أ .د / صبر أبو حسين . مع تقديري وتحيتي "

إهداء بتوقيع شاعر"ديوان صدى الايام " بجزأيه ...

إهداء تاريخي بالنسبة إلى شخصي الضعيف؛ لأنه من أستاذي الأستاذ الدكتور/ أمين عبد الله سالم، أستاذ النحو والصرف والعروض بجامعة الأزهر الشريف، حفظه الله وسدد خطاه، ويكاد يكون هذا الإهداء أثمن ما حصلت عليه في حياتي كلها.

إهداء يذهب بي إلى ماضيّ التعليمي الجميل والأصيل في عرين اللغة العربية بالمنوفية حيث الأساتذة الكبار: " فتحي أبوعيسى,، وشوقي حمادة، السيد أبوذكري، كاظم الظواهرى، عبد الرحمن محمود، محمود توفيق سعد، محمود عباس، عبد الفتاح عفيفي، عبدالمنعم يونس، عبد الموجود بهنسي ...... والآخرون ... وقبلهم جميعًا أستاذنا الدكتور أمين سالم صاحب الكلمة العليا في علوم النحو والصرف والعروض بالجامعة، بلا مبالغة، الذي يكاد كتابه "عروض الشعر العربي" ، المعلم الأولى لشخصي في علمي الخليل: العروض والقافية، وفى علم " موسيقى الشعر الحر "هضمت هذا الكتاب هضمًا، حتى أخرج منى ذلك العروضي الذى له دراسات علمية محكمة في موسيقى الشعر العربي التراثية والحديثة، ناهيك عن جلساتي العلمية معه أثناء مرحلة تمهيدي الماجستير، أستفسر منه عن آراء الدكتور إبراهيم أنيس وإحصائياته الخاصة بأوزان الشعر العربي وقوافيه في كتابه الرائد :"موسيقى الشعر. كما كانت له توجيهات سديدة في خطة رسالتي للماجستير عن الشعر ونقده في تراث مجمع اللغة العربية بالقاهرة...

إنه إهداء يرجع بي إلى أول مشهد لي مع أستاذي، حيث كنت شابًّا أزهريًّا يتلقى اللغة وآدابها في رحاب كلية اللغة العربية بالمنوفية، تتقاذفنى العلوم والشيوخ والمذكرات والمصادر والمراجع إلى أن وصلت إلى بدء العام الدراسي الثالث، فإذا بي يدخل علينا أستاذ فخم في شكله، كأنه قادم من عصر الخليل وسيبويه، فارع الطول، جزل اللسان، جاد، صلب، يستخدم السبورة شارحًا، ويخرج النحو من فيه عميقًا عتيقًا منداحًا، لا ساحل له، ينطلق في باب التعجب انطلاقًا واسعًا شاسعًا، يعدد الآراء، ويكثر الأدلة، ويذكر الشواهد، بلا حبسة ولا لجلجة بصوت فصيح صريح مريح أبوي هادئ، لكنه في سمائه لا يُطاول ولا يُنابع!

نظرني : يا فتى لست معي، ولن تكون!  أنت هائم غائم لم تُخلَق للنحو خُلِقتَ لشيء آخر! إنه الشعر والشعر فقط، ثم تركني مواصلاً شرحه!

 وأخذت أرتجف من داخلي، مَن هذا المتسامق والمتسامى ؟ الذى يصرفني عن النحو معشوقي حينئذ! ويدفعني دفعًا إلى الشعر، والشعر فقط

أجابوني : إنه الدكتور أمين عبد الله سالم، استاذ النحو والصرف والعروض بالكلية، الباحث الجاد، والمحقق المدقق، إنه " الثر المعطاء الذى وهب حياته للأزهر الشريف وللغة الضاد فارسًا من فرسانها وعلمًا من أعلامها، ما إن تراه حتى تأخذك هيبته، ويرفعك تواضعه، ففيه من قامته السامقة وقوامه الفارع، وشاربه الذى يذكر المرء بالفرسان!  ما يجعل احترامه فرض عين . وفى ذات الوقت ما إن يغمرك بحنوه وتواصعه ورقته حتى تشعر كأنك أمام أب حنون وأخ كريم وإنسان شهم نبيل(<!--)... "

 مع معلمنا الشاعر:

ثم تابعته في آثاره العلمية المتاحة لمثلي ساعتئذ من مذكراته الموجودة لدى زملائي السابقين واللاحقين فطالعت بعض رؤاه في النحو والصرف والعروض إلى أن تأتيني وقفه أخرى مع ذلك العلم المعلم: أسمعه شاعرًا في مهرجان ثقافي بالكلية فإذا به السامي الهائم العالي في لغته وتعبيره وتفكيره وتصويره:

 إذا الشعر لم يهززك عند سماعه           فليس خليقًا أن يقال له شعرُ(<!--)

وكذا:

الشعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة        أو حكمة فهو تقطيع وأوزان(<!--)

كلنا مستمعون إليه ومتمتعون، لكن لا يمكن أن ندعى أننا متابعون جيدون لما يقول، فاهمون لما يعبر عنه ويشعر به ويتخيله، نستمع ونتيه مع التائهين، نحاول أن نتابع خياله ورؤاه فلا نستطيع!  مهما أوتينا من عقل واع أو آذان مصغية؛ فهو عال محلق ونحن مازلنا في مرحلة التلقي الأوَّلى الخاطف:  كأن بيننا وبين أستاذنا دهرًا من الثقافة وعمرًا طويلًا من التجارب والتجاذبات العقلية والسلوكية والحياتية، فخلصت من ذلك إلى استفهام يفرض نفسه عليّ، مؤداه:  أ شيخي "أمين"  المعلم للنحو والصرف والعروض والباحث المتعمق في هذه العلوم التراثية الجليلة، هو شيخي الشاعر الهائم المنطلق الذى لا يُتابع في خيالاته ولا يُجارَى في فضاءاته؟! أم أنهما شخصان منفصلان، متمايزان!

ظهر "الشاعر أمين " في هذا المهرجان الثقافي كأنه، بصوته الصادع، وطوله الفارع، وعقله البارع، أسمى وأعلى وأنقى وأصفى وأعمق من كل الجمهور شيوخًا وطلابًا، يسامق السماء ويناجيها! يحاور الملائكة وأحيانًا يقتبس من الجان، ولا علاقة له بالشياطين!

شيخي في قاعه الدرس هو شاعري في المهرجان، الاكتفاء بالسماع إليه لا يكفي معه! بل لابد من قراءة فكره وشعره. أما فكره فسهل ميسور ! لكن أين قصيدته التي ألقاها ؟ وأين نجد شعره؟

وهكذا ظل أستاذنا في نظري شاعرًا أزهريًّا ذا قامة كبيرة فتح عيني وبهر عقلي وجذبني جذبًا إلى فن العربية الأولى الساحر الآسر!

الصحبة:

وأخذت أتابع رحلتي التعليمية والعلمية مع الشعر قراءة وحفظًا وتذوقًا وبحثًا ونقدًا، تعلمًا وتعليمًا، في معظم أعصار الشعر وأمصاره وفنونه واتجاهاته ومدارسه!

وبعد إحدى وعشرين سنة تقريبًا من سماع شعر شيخي أتاني ديوانه " صدى الايام " المكون من جزءين: الأول بعنوان: " أجنحة البحيرة "، والثاني بعنوان "،" فحُقِّقت رغبتي بمطالعة شعر شيخي مُطالعةً أولى، مطالعة عشق وتمتع مع كتابة خواطري وانطباعاتي العَجْلى عن شكل الشعر "الأميني" ومحاوره الفكرية وتحليقاته الخيالية...

وقد عاتبت نفسى كثيرا : كيف تركت هذا الشعر الفذ دون صحبة من زمن بعيد؟ كيف لي أن أترك شعرًا ماتعًا بانيًا كهذا دون حفظ وذوق وتحليل وإنشاد وترداد ؟ لعل في تأخر القراءة سرًّا!

نعم لم أسمع من قبل أن شيخنا جمع ديوانه، استمعت إلى شعره، فإذا به أمامي يعطيني حياة معلمنا : شابًّا وكهلاً وشيخًا، ريفيًّا، وعسكريًّا، متعلمًا ومعلمًا، وطنيًّا ومهجريًّا، بيتيًّا وسطريًّا يُعطيك صوره عميقة عن مُجريات عصرنا ، لكل انكساراته وإنجازاته، بكل ما فيها وما عليها، بكل معوقاتها وتحدياتها

شعر يصدمنا : فهو محافظ حينًا، وديوانيٌّ حينًا، ومهجري حينًا، وواقعي حينًا، ورومانسي حينًا، ينتقل بنا في أفنان الشعر وأفيائه مبنًى ومعنًى؛ فهو في قصائد يلتزم البناء الموسيقى الخليلي البيتيَّ الموحد مطلعًا ومقطعًا وختامًا.

وفى أخرى يكون شعرًا مقطوعيًّا متنوع القافية ومرة ينَوِّع الوزن، وله تجارب كثيرة تفعيلية سطرية حرة مستقيمة مع تجربة زجلية غزلية وحيدة. يطوف بنا بين ذاته وقريته ووطنه، وأمته طوافًا عجيبًا طروبًا، وصدق شيخنا حين أوجز قيمة شعره قائلاً :

حروفي تلك أسكبها        بقايا عاشق طربا(<!--)

نعم إن شعره نبض حرفي، يمثل الجانب القابل للخلود فيه، وإنه لعاشق : حملته الحياة في بواكير الأربعينيات إلى حواشي قرية رؤوم فاكتسى من حنوها واغتذى وقرأ على صفحاتها أبجدية الكون والحياة ... يصطحبه هاجس شعر لا يزايل، ولا يفترقان.. بنبضات ... صدى هموم نصف قرن أو يزيد، وجميعها قلب يضعه بين يدى صديق".

المعجم الأميني :

أما عن لغة هذا الشعر فرصينة تتخللها الجزالة، حين يطرق سمعك ألفاظ " تلحوني / تريم / يجفل / ثويه / تذاءبت / موسق / نأمة / تمجو / يدوف / لهاث / نافجة / يلوب...

ويضاف إلى معجمك الشعرى أوصاف : الشجراء / الغيمان / ممراح / ممرور / منغوم / مغيوم / أسيان / أسوان / سأمان / مقرور / صحوان / مهذار ....

وتجد لغة النحوي في قوله(<!--):

يا مصر هذا عيد نصرك فانعمى    بالعيد لا حزن ولات بكاء

ولكنه هنا خارج على ما قرره ابن هشام من أن"لات لا تعمل إلا في ثلاث كلمات وهى الحين بكثرة، والساعة والأوان بقلة.[ شذور الذهب ص 228]

وفى قوله(<!--):

ما كان أجمل هذا الصمت يجمعنا      ورعشة الوجد تسري في أيادينا

حيث فصل بين ما وأفعل التعجب بكان الزائدة !

أما معنى زيادتها فأمران؛ أولهما؛ أنها غير عاملة، فلا تحتاج إلى معمول من فاعل، أومفعول أواسم وخبر، أو غيرهما؛ إذ ليس لها عمل3؛ ليست معمولة لغيرها. وهذا شأن لك فعل زائد.- ولا يتأثر صوغ الأسلوب بحذفها.

ويرى بعض النحاة أنها ليست بزائدة، وإنما هي ملغاة فقط - انظر آخر هامش ص 66 - حيث البيان - ولا أثر لهذا الخلاف اللفظي في التسمية، إذ لا يترتب عليه شيء في المعنى والصياغة.

 

قال ابن مالك:

وقد تزاد كان في حشو كما ... كان أصح علم من تقدما(<!--)

ليس المراد بزيادتها أنها لا تدل على معنى البتة، بل إنها لم يؤتَ بها للإسناد، وإلا فهي دالة على المضي، ولذلك كثرت زيادتها بين ما التعجبية، وفعل التعجب، لكونه سلب الدلالة على المضي، قال الدنوشري: قال بعضهم: زيدت "كان" قبل فعل التعجب، لتدل على أن المعنى المتعجب منه، كان فيما مضى، وهو عوض عما منع منه فعل التعجب من التصرف، وإنما اختصت كان بهذا دون سائر الأفعال الماضية؛ لأنها أم الأفعال، فلا تنفكّ عن معناها غالبا.

ومن أمثلة زيادة "كان" بين ما التعجبية، وفعل التعجب، قول الشاعر:

لله در أنوشروان من رجل ... ما كان أعرفه بالدون والسفل

ونحو قول شاعر الحماسة:

أبا خالد ما كان أدهى مصيبة ... أصابت معدا يوم أصبحت ثاويا

ونحو قول عروة بن أبي أذينة:

ما كان أحسن فيك العيش مؤتنفا ... غضا، وأطيب في آصالك الأصلا

انظر شرح التصري؛ 1/ 191-192. والأشموني مع الصبان: 239-241، وابن عقيل "دار الفكر": 1/ 223-226.

وفى قوله(<!--) [ ص1/184]:

أ يضيعُ كيف ؟ وليس في         دنياي إلاه متاع

فهنا أتى بالضمير المتصل بعد إلا مباشرة، وفى هذا مخالفة للقياس.

 وفي قوله(<!--) [ 1/64 ]:

أنا إن نسيت فلست أنسى ثورةً   هي غنوةٌ غنَّى بها الحدثان

وفى قوله(<!--) [1/77]:

السين رمش لا يفل        ولا يضر به انكسار 

وتسمع العبارات التصويرية التشخيصية أو التجسيمية الحديثة مثل: الهوى المصلوب / بقاع الصمت / نأمة المحروم / الصخرة المهذار / حقولي الشجراء / السابحين على الضباب / عالمي المصلوب / تذاءيت جمراته الخرساء / الدجى السأمان / خاطري الممرور / الأمل المهوم / الثائر الحر / الثورة البيضاء

وفى قوله(<!--[if !supportFootnotes]--><st

0 تصويتات / 137 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

296,508