قد لا يكون مناسبا في غالبية الأحيان أن يتحدث الكاتب عن نفسه أو أن يشغل القراء بما لا يعنيهم من أخبار ومعلومات عن حياته الشخصية أو الأسرية. ولكني ألتمس العذر من القارئ العزيز إذ أجدني مضطرة، وفي هذا المقام تحديدا، أن أروي القليل عن أسرتي حيث أن لذلك علاقة وثيقة بموضوع اليوم، والذي أراه على جانب من الأهمية، لارتباطه بصور مباشرة وغير مباشرة بما نعايشه حاليا في مجتمعنا من صور متعددة وصادمة للفوضى السلوكية وللانهيار القيمي والانحدار الأخلاقي.
نشأت في أسرة صغيرة لأم طبيبة ولأب يمتهن المحاماة، مع أخوين اختار الأكبر فيهما أن يدرس ويعمل بالصيدلة، أما الأصغر فقد فضل دراسة القانون وعمل بالنيابة العامة ثم بالقضاء. ولقد كان لأبي اسم لامع بين أبناء مهنته، مهنيا ونقابيا، ولقد كان أيضا –رحمه الله- مثلا أعلى في الاستنارة الفكرية والالتزام المهني والخلق القويم، ليس فقط في نظر أبنائه، ولكن أيضا بنظر أجيال متعاقبة من المحامين. وكابنة كبرى صادقت أبي وأدمنت حواراته، وعلمت منه وتعلمت على يديه ضمن ما تعلمت، تقدير –بل تقديس- مهنة المحاماة. فالمحامون، كما رأيتهم في شخصه، هم القضاء الواقف، هم حماة الحق، وهم سدنة العدالة وحملة مشاعل الحريات ونصراء المظلومين والمستضعفين. أما نقابة المحامين وقتها، وأنا أتحدث عن فترة تمتد حتى أواسط التسعينيات من القرن الماضي، فقد كانت ملجأ لكل مقهور، وكانت قاطرة المجتمع نحو آفاق أكثر اتساعا من الممارسات الديمقراطية الرشيدة والحرية المسئولة عن التعبير، وكانت حينها ساحة تتسع للتنوع المذهبي، تقبل وترحب بالتعددية الفكرية وتحتضن وتجلجل فيها أصوات كافة التيارات والأطياف السياسية، في أوقات كان المصريون يخشون حتى من الهمس لأنفسهم. أما المحامون المتلاعبون بالقانون من أصحاب الضمائر الخربة ومن المخترقين لآداب وتقاليد المهنة، ومثلهم موجود في كل مهنة، فقد كانت تطاردهم سمعتهم السيئة فينبذون من الحياة الاجتماعية لعموم المحامين، بل ويستبعدون من كافة أنشطتهم النقابية.
ولكن إذا نظرنا لذات الأمر بعيون اللحظة، فلا شك أن الصورة العامة، ككثير من تفاصيل حياتنا اليومية، قد طرأت عليها العديد من المتغيرات. فلم تعد بعد المحاماة بذاتها مهنة تؤهل صاحبها لأن يكون شخصا ذا حيثية في المجتمع، ولم تعد دراسة القانون خيارا حرا لغالبية الملتحقين بكليات الحقوق، وإنما أصبحت ومنذ زمن اختيارا قسريا لمكتب التنسيق الذي يلقي إليها سنويا بعشرات الآلاف من طلبة الثانوية العامة من أصحاب المجاميع المتدنية لتلفظهم بعد عدة سنوات أعباء على المهنة لا قيمة مضافة إليها. وتختنق أرزاق الكثيرين منهم، وأغلبهم يعيش على الكفاف، باستثناء قلة من أصحاب الأسماء اللامعة، وباستثناء زمرة باعوا أنفسهم للشيطان واحترفوا استغلال حرفيتهم ومعرفتهم بدهاليز وخبايا وثغرات القوانين، ليس نصفة للحق أونصرة للضعيف والمظلوم، ولكن لأسفي للتحايل على القانون ولتعطيل تنفيذ الأحكام ولإلباس الباطل ثوب الحق ولإضفاء الشرعية على أوضاع مقلوبة. ولن نندهش كثيرا إذا وجدنا وراء كل فاسد كبير أو منحرف شهير مستشارا قانونيا يرسم له الخطط ويزين له الباطل ويسهل له الانحراف وييسر له الإفلات من العقاب ويساعده بالقانون، وأحيانا بأشياء أخرى، على الخروج من تحت طائلة القانون، ولن يدهشنا أيضا أن نجد الغالبية من عامة الناس وأواسطهم يتحسبون من التعامل مع المحامين، والنصيحة المخلصة التي تتلقاها من الخاصة والعامة على حد سواء هي ألا تؤجر لهم وألا تصاهرهم، وأن تتجنب التعامل معهم ما استطعت إلا إذا دعت الضرورة، بل إن الكثير من البسطاء قد يفضلون أن تضيع بعضا من حقوقهم على أن تهدر أموالهم ووقتهم وجهدهم في التردد على مكاتب المحامين وبين أروقة المحاكم. إلى هذا الحد أساء البعض من المدعين والمتاجرين إلى حرفة المحاماة رفيعة القدر، حتى أضحى الشريف منهم كالقابض على الجمر، وحتى فضل بعض الشباب منهم ممن يخشى على دينه ويشري آخرته أن يبحث لنفسه عن مهنة أخرى تنأى به عن الشبهات. والغريب أن المحامين سيئي السمعة معروفون تماما بين أبناء مهنتهم، ولكن أغلبهم يتقن حماية نفسه ويحسن تغطية وتأمين موقفه، فيترك يعيث في الأرض فسادا بلا أدنى خوف من التعرض لأية مساءلات نقابية أو إجراءات تأديبية أو تقويمية. ويخطئ كثيرا من يعتقد أن ما يخص مهنة المحاماة هو شأن خاص بأبنائها، لأن صلاحها يرتبط بصورة وثيقة ومباشرة بإرساء قيمة العدالة وبتكريس النظام المجتمعي العام وبإشاعة روح الثقة والشعور بالأمان بين المواطنين عامة. وإذا أتينا إلى شعار "العدالة الناجزة" والذي كان هدفا رئيسيا بالبرنامج الانتخابي الرئاسي الأخير فلن نستطيع أن نمنع أنفسنا من التساؤل: هل يمكن تحقيقه من خلال إصلاح النظام القضائي فقط، أم لابد أن يصاحبه ويرافقه ويتزامن معه إحداث إصلاحات هيكلية تنقي مهنة المحاماة مما عابها من بعض السياسات الخاطئة ومما اعتراها من ممارسات مسيئة ومما شابها من بعض التجاوزات المشينة؟!. بل واسمحوا لي سادتي، بحق ما لهذه المهنة السامية من قيمة وقدر وعمق تأثير ليس فقط بكل مجتمع متحضر، ولكن أيضا بكل نفس تتوق إلى الحق وتنشد العدل وتتنفس الحرية، اسمحوا لي أن أدعو فرسان هذه المهنة الجليلة ومن بقي من أساطينها أن يتفقوا على كلمة سواء، بعيدا عن المصالح الانتخابية النقابية الضيقة، ليعيدوا لحرفة المحاماة وجهها المشرق، وليضعوها مرة أخرى على طريقها القويم، حصنا للعدالة، وأملا لكل مظلوم.
ساحة النقاش