تمضي الأيام وتتعاقب الساعات، والقطار قد دخل إلى محطته، حاملًا معه الإمدادات الربانية، والرياحين الإيمانية، فيرتوي الظمآن، ويهتدي الحيران، والشباب قد انتظروا بفارغ الصبر هذا القطار الذي سيغيث حالهم، فيأخذوا منه زاد سنة كاملة، لأنهم قد لا يدركونه مرة أخرى، هذا القطار يحمل لافتة تقول (أيامًا معدودات).
فها هو رمضان قد أقبل فاتح يديه لكل من أراد أن يصل إلى رضا الله عز وجل، فيمُد الشباب يدهم إلى يد رمضان رافعين شعار النبي صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) [رواه مسلم]، (فإن العبد حين استقرت قدمه في هذه الدنيا؛ فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كُتب له، فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه تعالى، ثم قد جُعلت الأيام والليالي مراحل لسفره، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر.وحياة القلب شرط السفر إلى الله، فإن الطريق إلى الله إنما تُقطع بالقلوب لا بالأقدام،
والقلب الحي هو مطية المسافر إلى رضوان الله والجنة، ولا يحيا القلب إلا إذا اكتملت فيه ثلاثية الإيمان، من خشية الخالق الجليل، ورجاء رحمته، ومحبته.فإن القلب في سيره إلى الله تعالى بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان؛ فالطائر جيد الطيران، ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر) [هزة الإيمان، فريد مناع].خير أوشك على الانتهاء:لعلك لا تدري ما حجم الخير الذي بين يديك الذي لم يبق منه إلا القليل، فتدبر معي هذه الأحاديث العظيمة التي تتحدث عن فضل هذا الشهر الكريم:قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت أول ليلة من رمضان؛ صُفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة) [صححه الألباني].وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة [أي وقاية من النار أو المعاصي]، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى ربه فرح بصومه) [متفق عليه].وفي رواية: (يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها) [رواه البخاري].وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة بابًا يًقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يُقال: أين الصائمون؟ فيقومون، فيدخلون منه، فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد) [صححه الألباني].يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) [صححه الألباني].
النداء العظيم:
إن من أعظم ما يحمله رمضان، هو ذلك النداء العظيم، الذي به يقبل كل شاب عازم على عودة على طريق الله عز وجل، فيرفع المنادي صوته عاليًا، ويهتف بكلمات (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة) [صححه الألباني].فياله من نداء حينما تسمعه، يبعث في نفسك روح التفاؤل والأمل، ولذا كان واجب عليك أيها الشاب الحبيب أن تقف مع نفسك وقفة، وتراجع نفسك في أمران:الأمر الأول: إذا أتى شهر رمضان فوضعت أول قدم على أعتابه، فما أعظم أن تتذكر نعمة من الله أسداها إليك ومنة من الله أولاها إليك هذه النعمة أن بلغك الله شهر رمضان، هذه النعمة أن كتب الله لك الحياة إلى بلوغ هذا الشهر، فكم من قلوبٍ حنت واشتاقت إلى لقاء هذا الشهر، ولكن انقطع بها القدر، وكان القبور أسبق إليها من هذا الشهر الكريم. الأمر الثاني: وهي وصية نبوية فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه احدٌ أو شاتمه فليقل إني صائم) [متفق عليه].فأبعده الله:في بيان نبوي خطير، يوجه النبي صلى الله عليه وسلم كلمات تحذيرية لأمته، وخطورة عدم استغلال شهر رمضان، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال يا محمد من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين قال يا محمد من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين قال ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين) [صححه الألباني في صحيح الجامع].فتخيل معي هذا المثال أيها الشاب، أن دكتور مادة معينة في الكلية، وكتاب هذه المادة يتكون من 300 صفحة، فقام هذا الدكتور بالدخول على الطلبة في آخر محاضرة، وكرر عليهم 50 صفحة فقط، وحدد لهم أسئلة الامتحان وهي أسئلة الصواب والخطأ، فليس على الطلاب سوى الجلوس لاستخراج إجابات هذه الأسئلة من الكتاب، ثم حفظها وكتابتها في الامتحان، فهل يعقل بعد كل ذلك أن يرسب أحد الطلاب في امتحان هذه المادة!!!!، وما الذي يستحقه الطالب الذي رسب في هذا الامتحان.فكذلك رمضان، بعد أن أعطى الله تعالى جميع هذه الفرص لعباده للرجوع إليه والإنابة له، فقد صفدت مردة الشياطين، وأبواب الجنة قد فتحت على مصراعيها، وغلقت أبواب جهنم، بالإضافة إلى ثواب الصائم المحتسب صومه عند الله تعالى، فكل الظروف مهيئة للرجوع والإنابة للمولى تبارك وتعالى، فهل يعقل بعد ذلك أن يأتي شاب ويعصي الله تعالى في نهار رمضان؟!، وهل يستوعب بعد هذا الجو الرباني المبارك، أن يجيء شاب ويقوم بالجلوس على فيفطر على ما حرم الله عز وجل.العشر الأواخر والاستعداد الجيد:
إن كلامنا لك يا فارس الإسلام الآن، أن تستفيد جيدًا من هذا الشهر الكريم، وهذه ورقة عمل يمكنك أن تستفيد منها خاصة في العشر الأواخر من رمضان لتعرف أي الأبواب ستدخل على ربك في رمضان، وتعلم جيدًا علم اليقين، كيف تستفيد من هذا الشهر الكريم0
ورقة عمل: صلاة الجماعة
أول تلك النقاط العملية، أن تشهد الصلوات الخمس في بيت من بيوت الله، فصلاتك مع جماعة المسلمين تفضل على صلاتك وحدك بسبع وعشرين درجة، فأعظم به من فضل، والخطا التي تمشيها لصلاة الجماعة تحتسب لك عند الله أجرًا وثوابًا فلا تخطو خطوة إلا رفعت لك بها درجة وحطت عنك بها سيئة كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة....).واسمع إلى هذا القول العظيم لأبي هريرة يقول: (لأن تملأ أذن ابن آدم رصاصًا مذابًا خير له من أن يسمع النداء ثم لا يجيب) [إحياء علوم الدين، الغزالي، (1/149)].قراءة القرآن:فهذا الشهر هو شهر القرآن أيها الشاب، يقول صلى الله عليه وسلم:(من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) [صححه الألباني].فحدد من الآن كم مرة تود أن تختم فيها كتاب الله جل وعلا في شهر رمضان، وليكن لك جلسة يومية ولو لنصف ساعة تقرأ فيها من وردك اليومي لكن حاول أن تتأمل وتتدبر في المعاني التي تقرؤها، وبإذن الله تكون هذه الجلسة من أمتع أوقاتك في شهر رمضان.صلة الأرحام:هذا شهر كريم، حري أن تزال فيه البغضاء والشحناء، وأن تصفو النفوس وأن يعم الرضا، حتى يرضى الله عنا، إذ كيف يبغي الفوز برمضان قاطع رحم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم) [حسنه الألباني].ويقول صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، والرحم شجنة من الرحمن؛ فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله) [صححه الألباني].ولنا في رسول الله القدوة والمثل (فكان أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام إلا القليل من أشد الناس عداوة له، أخرجوه من داره ، طاردوه ، شردوه ، آذوه ، حاربوه، فلما نصره الله عليهم عفا عنهم عفوا ما سمع الناس بمثله) [ثلاثون درسا للصائمين، عائض القرني، (1/47)].
الصدقة:
فرمضان شهر الشعور بإخوانك المسلمين، فهل شعرت بإخوانك في أقاصي الأرض ومغاربها؟! لابد للمسلم الصائم أن يشعر بآلام المسلمين، وأن يستشعر حال إخوانه في كل مكان، فإذا جاع تذكر أن آلاف البطون جوعى تنتظر لقمةً، فهل من مُطعِم؟! وهو إذا عطش تذكّر أن آلاف الأكباد عطشى تنتظر قطرةً من الماء، فهل من ساقٍ؟! وهو إذا لبس تذكر أن آلاف الأجساد قد لحقها العري، فهل من كاسٍ؟! يشعر بنعمة الله جلا وعلا عليه أن أعطاه السحور والإفطار وغيره محروم، أن ألبسه وغيره عارٍ، فليحمد لله على نعمائه، وليخرج من ماله صدقة في كل ليلة من ليالي رمضان قدر استطاعته وطاقته، فاقتطع جزءًا من مالك في رمضان وقل هذا لإخواني الفقراء أوزعه كل ليلة من ليالي الشهر ولو كان هذا المال بمعدل جنيه واحد يوميًا.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثًا فاحفظوه فأما الذي أقسم عليهن فإنه ما نقص مال عبد من صدقة...) [صححه الألباني].ولا تنسى أن الصدقة سبيل سعادتك أيها الشاب الحبيب (فيدخل في عموم ما يجلب السعادة ويزيل الهم والكدر: فعل الإحسان، من الصدقة والبر ولإسداء الخير للناس، فإن هذا من أحسن ما يوسع به الصدرالإنفاق في سبيل الله.
وقد وصف - صلى الله عليه وسلم - البخيل والكريم برجلين عليهما جبتان، فلا يزال الكريم يعطي ويبذل، فتتوسع عليه الجبة والدرع من الحديد حتى يعفو وأثره، ولا يزال البخيل يمسك ويمنع، فتتقلص عليه، فتخنقه حتى تضيق عليه روحه?) [لا تحزن، عائض القرني (2/16)]. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ساحة النقاش