معرفة الجزائري بحقيقة ونية المستعمر في الاستيطان كان لابد له أن يلجأ إلى رفع السّلاح دون هوادة، ورفع لواء الجهاد عاليا، وما أخذ بالقوة لا يسترجع إلاّ بالقوة. فطالت الثورة التحريرية المجيدة الزمان والمكان، سبعة سنوات ونصف من الزمن، وامتدت لتشمل كل شبر من أرض الجزائر الطاهرة الأزيد من مليونين كيلومتر مربع، وكانت الانطلاقة واحدة، والهدف واحدا، والعدو واحدا، والاتكال على الرّب الواحد.
لكن ليس بالضرورة أن كل الجزائريين رفعوا السّلاح، وليس بالضرورة أن شارك كل جزائري لأجل استقلال الجزائر، بل كان بعض قليل منهم لا يأمل في الاستقلال بعد أن خذلته شخصيته الضعيفة والمتهورة أن يفشي أسرار الثورة، وأضحى الاستقلال بالنسبة له يساوي الموت لأن الثوار لن يغفروا لخديعته، كما كان بعض قادة الثورة في بدايات الصراع حول تنظيم الثورة وقيادتها، ولم يكن حال الفرنسيين أحسن حال فالتشتت الفكري أصابهم ونال منهم، فاختلفوا في كيفية حل الأزمات المتتالية، فإلى أي مدى ساهم عيد النصر في فرحة الجزائريين وتعكير جو الفرنسيين والمعمرين؟ أو قد تنقلب الصورة في بعد من أبعادها؟
كانت الثورة التحريرية الجزائرية معجزة من معجزات الرب في خلقه، حيرت الشعوب والحكومات، لقول الشاعر: ويا ثورة حار فيها الزمان *** وفي شعبها الهادئ الثائر.
ولقد اثقلت الثورة كاهل ميزانية فرنسا، و أرغمتها عن التخلي على مستعمراتها التي بقيت سنوات طويلة قرابة القرن تحافظ عليها لتنهب خيراتها وتستعبد شعوبها، وتستعرض قوتها وتجرب سلاحها عليها، ولتتفرغ فرنسا لعروس الإمبراطورية الكولونيالية وجوهرتها الغالية “الجزائر”.
تتالت النكسات والأزمات الاقتصادية تبعتها أزمات اجتماعية وسياسية ورغم المال الوفير الذي خصص للعسكر، إلاّ أنّ نكبته هي التي كانت سبب تأزم الأوضاع، وكانت الحكومات المتعاقبة تراهن على قدرتها في حل الأزمات وتكسير الثورة وتقتيل الثوار، لكن الرضوخ للحوار والجلوس على طاولة واحدة للتفاوض ضحى أمرا حتميا لا مفر منه. ومرت المفاوضات مراحل سرية لجس النبض ومعرفة الطموحات، وأخرى علنية، ومهما ناورت السلطات الفرنسية لم تتمكن من تقسيم الجزائر وأخذ الصحراء الجزائرية التي أنعمها الله شساعة وخيرا وفيرا، وتمسك المفاوضون الجزائريون بقرار الاستقلال الشامل للجزائر على أنه الفاصل.
فكان الإعلان عن قرار توقيف اطلاق النار بين الطرفين في اتفاقيات ايفيان وذلك في اليوم المشهود 19 مارس 1962.
الأبعاد السياسية لقرار 19 مارس 1962 على السياسة الفرنسية
لما استلزم على السلطات الفرنسية أن ترضخ للتفاوض فإنها رضخت وكانت النتائج وخيمة لما دخلت فرنسا في نفق الصراعات المظلمة؛
ظهور المنظمة الارهابية المتمثلة في الجيش السري OAS (فبراير 1960)، أخطر تنظيم إجرامي وإرهابي في تاريخ فرنسا نصب على رأسها الجنرال المتقاعد “راوول صالان” بمساعدة الجنرالات “جوهر” و” زيلر”. راحت تغتال مناضلين في صفوف جبهة التحرير الجزائرية عن طريق التفجيرات التي تستهدف مكان تجمّع الجزائريين دون رحمة ولا شفقة، كطريقة لإفشال المفاوضات، ولقد تضاعفت أعمالها الارهابية ضد الجزائريين عامة بعد قرار 19 مارس 1962.
- قام الجزائريون بمظاهرات عارمة ما بين 1960 و1961 أشهرها على الاطلاق مظاهرات11 ديسمبر 1960 التي شهدت عنفا بين المتظاهرين الجزائريين اللذين رفعوا الأعلام الجزائرية عاليا وبين المتظاهرين الفرنسيين اللذين شتموا الجنرال ديغول وحكومته التي رضخت للتفاوض، وإن بدأت المظاهرات في مدينة عين تموشنت بالغرب الجزائري فسرعان ما تعممت وانتشرت في مختلف أرجاء الجزائر واستمرت أسبوعا كاملا، راح ضحيتها العديد من القتلى من الطرفين.
هي مظاهرات أفزعت المعمرين رغم وحشية الجيش الفرنسي في تشتيت المتظاهرين، إلاّ أن الجزائريين أصروا على مواصلة المظاهرات أياما، وذلك الاصرار هو دلالة على الثقة في قرب ساعة الفرج. ومن أكبر النتائج الايجابية التي نتجت عن صوت المظاهرات هي التصويت لصالح الجزائر في اللّجنة السياسية للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة.
- مظاهرات 17 أكتوبر 1961؛ احتجاجات المهاجرين الجزائريين في عقر دار الفرنسيين وفي قلب العاصمة باريس مطالبين بفك الحصار على تحركاتهم وفك الخناق عنهم، تزايدت حشود المتظاهرين فسارع البوليس الفرنسي على محاصرتهم مستعملا أدوات البطش، وكانت أكبر أدواته الرمي بالمتظاهرين أحياء في نهر السين، إضافة إلى اعتقالات واسعة وتعذيب بشع في السجون.
إنّ المظاهرات المذكورة وغيرها كانت دعما معنويا للمفاوضين الجزائريين لمواصلة التفاوض وعدم التنازل عن حق من حقوق الجزائريين.
أما السلطة الفرنسية فقد اهتز حالها لما أراد أنصار “الجزائر فرنسية” الاطاحة برئيس الجمهورية الخامسة شارل ديغول في أفريل 1961، مع ذلك استطاع ديغول من وضع حد لمحاولة الانقلاب، رغم أنه كان في وضع صعب لما وجد نفسه وحده يواجه شعبا وعسكرا وبعض من رجال حكومته وعلى رأسهم رئيس وزرائه “ميشال دوبريه” كلهم مع فكرة الجزائر فرنسية، وقد اتخذت المنظمة الارهابية للجيش السري فتوى دينية تبيح تصفية الرئيس بحجة الخيانة العظمى. فتوالت محاولات الاغتيال على الرئيس ديغول منذ الاعلان عن المفاوضات مع قادة جبهة التحرير الجزائرية وتحديدا بعد الخطاب الشهير الذي ألقاه بتاريخ 14 جوان 1960 المتضمن للاعتراف الضمني بالتفاوض مع قادة جبهة التحرير الوطنية إلى ما بعد استقلال الجزائر، أشهرها التي كانت بعد استقلال الجزائر سبتمبر 62، والتي كشفت عنها المخابرات الامريكية فيما بعد. وأسس “جون ماري لوبان” “الجبهة الوطنية من أجل الجزائر فرنسية” ضد المفاوضات وقبول ديغول لها.
وتواطؤ البوليس الذي يعد جلّه من الأقدام السوداء مع أنصار الجزائر فرنسية زاد من صعوبة الأمر وخطره على الجزائريين وعلى ديغول والسياسة الفرنسية، لأنّ هؤلاء زادوا من أثقال الخزينة العمومية الفرنسية وإفلاسها بعد اتباعهم لوسائل التخريب وإتلاف المصالح الحيوية كنهب البنوك ومراكز البريد، ونهب مخازن السّلاح، وتفجير أماكن عامة وغيرها من التصرفات التي ألحقت خسائر مادية بالخزينة الفرنسية.
الأبعاد السياسية لـ19 مارس 1962 على جزائر بعد الثورة :
إنّ الفرحة عمت بمجرّد إعلان قرار توقيف القتال، تنفس الجزائريون الصعداء، وشرع بعض المعمرين في حمل بعض من أغراضهم ليعودوا لديارهم أو البحث عن بلد يقبلهم لاسيما المعمرين المعروفين بــشعب بلا أرض، لكن بقي جمع كبير من الأقدام السوداء مصمما على إلغاء القرار هؤلاء كان الشعب الجزائري ينتظر ردود فعلهم الشديدة، لكنه لم ينتظر أن الخطر على الثورة وأهدافها ومبادئها الجليلة سيكون من صراع القادة السياسيين والعسكريين في جبهة التحرير الجزائرية.
أزمة المجلس الوطني للثورة الجزائرية: دعى قائد سياسي من قادة الثورة الجزائرية الى انعقاد مؤتمر في عاصمة ليبيا بين 27 ماي إلى 5 جوان 1962، وكان الاختلاف حول من سيقود الجزائر بعد الاستقلال الرسمي، وهو الأمر الطبيعي والمتوقع فكل ثورات العالم وحتى ما بعد الانقلاب قد يحدث انقلاب مضاد، سببه الأصلي ” الكرسي الذهبي” وماله من أبهة وعظمة، فظهرت الصراعات للعلن بعدما كان جلها مستورا، وتعالت الأحقاد التي ظلت تزعزع استقرار السلطة السياسية إلى مراحل طويلة من عمر الدولة الجزائرية بعد الاستقلال. وصلت الخلافات يوم اثارة نقطة القيادة بعد الاستقلال للشتم والقذف بين المؤتمرين لاسيما بين “احمد بن بلة” و”صالح بوبنيدر”، و ربما أن عملية القرصنة التي تعرضت لها طائرة المقلة لوزراء الحكومة المؤقتة الخمس (الأحرار الخمسة) يوم 22/10/1956 حالت دون اندلاع الصراع على السلطة في وقت مبكر و بشكل فاضح للنوايا الشخصية. و نتيجة الخلاف أثناء المؤتمر أصدر رئيس الحكومة المؤقتة “بن يوسف بن خذة” قرار إقالة هيئة الأركان وإنزال الرتب العسكرية لكل من “محمد بوخروبة” (بومدين) و”احمد قايد” و”علي منجلي” وإلقاء القبض عليهم بتهمة سوء التسيير الذي عرفته لجنة التنظيم العسكري على الحدود. وظهر بعد صدور هذا القرار أن المسالة تتعلق بالشخصيات وتصفية الحسابات (أزمة أشخاص) فبرزت التحالفات المؤقتة أثناء المؤتمر فبمجرد خروج بعض القادة الثوريين السياسيين من المؤتمر قبل رفع جلسته الختامية ( التي لم ترفع أبدا ) اتجه “بن بلة” و”خيضر” إلى القاهرة، و رئيس الأركان إلى الحدود الجزائرية الشرقية، و أعلن بعدها “أحمد بن بلة” عن ميلاد المكتب السياسي يوم 22/07/1962 بالرباط، وهو المكتب الذي لم ترغب الحكومة المؤقتة في إنشائه، واعتبر ذلك ضربة دستورية ضد شرعية الحكومة المؤقتة على حد وصف المؤرخ “بنجامين ستورا” للوضع.
عوض أن يكون المؤتمر فرصة للفرحة بالاستقلال والقيام بالترتيبات اللازمة لتنظيم سياسي وإداري للجزائر المستقلة، فقد كان ملتقى لصراع سلطوي مكشوف. وعوض أن ينتظر الجزائريون دخول قادة الجبهة المحررين عسكريين وسياسيين يدا بيد فقد دخلوها مشتتين مفرقين، وهذا ما قاله المرحوم “محمد بوضياف” أحد القادة السياسيين في الثورة الجزائرية : ” لم أوافق على ما جاء في هذا اللقاء وكانت قناعتي هي أن هذا الاجتماع سيفرق بيننا”(نقلا عن كتاب الرئيس محمد بوضياف على موعد مع الموت، ص86).
أزمة صائفة 62:
لم نكن لنفرح باستقلالنا بعد الاعلان الرسمي له فقد خرجت الصراعات على السلطة للشارع الجزائري، وأصبح إخوة الأمس أعداء في تحالفات بين الداعمين لبن بلة، والداعمين للحكومة المؤقتة، فخرج الشعب رافعا شعار سبع سنين بركات،فلم يتحمل الجزائري رؤية الدماء التي نزفت طيلة قرن واثنا وثلاثون عاما. ولولا رزانة وحكمة بعض قادة الحكومة المؤقتة على رأسهم المرحوم “بن يوسف من بخدة” لما دخلت الجزائر دوامة الحرب الأهلية لأجل من يحكم.
ولازلت حالة الصراع على السلطة تصب الزيت على النار في الجزائر، و لم تبرد نار الصراعات والأحقاد القديمة، ولازالت حالة التحالفات السياسية المصلحية تربط عقدها وتزيد تعقدا مع كل استحقاق انتخابي، ولازالت الصراعات في جبهة التحرير الوطنية قائمة، و رغم الدور البارز والعظيم ــــ”الشرعية التاريخية”ـــ الذي قامت به إبان الثورة التحريرية، إلاّ أنها لم تنتزع المشروعية الشعبية الكاملة بعد الإستقلال، وكل الانتماء لها كان مجاملة ام ذكرى لأرواح طاهرة ، أم ضرورة لكسب مناصب ودفع مظالم.