ومن جهة أخرى، يوجد تداخل واضح بين تقسيم البشر على أساس الخصائص الثقافية إلى حضارات مختلفة وتقسيمهم على أساس الخصائص الطبيعية والشكلية إلى أعراق متباينة. ولكن هنا أيضاً نقول أن الحضارة والعرق ليسا متماثلين، فقد رأينا عبر التاريخ حالات عديدة لأبناء عرق واحد فرَّقهم الانتماء إلى حضارات مختلفة، كذلك رأينا حالات أكثر لأبناء أعراق مختلفة جمعتهم حضارة واحدة. ويكفى هنا الإشارة إلى الحضارة الإسلامية التى جمعت العرب مع الفرس مع الباكستانيين مع التتار فى آسيا الوسطى، بل والأوروبيين من وسط القارة البيضاء وغربها، بل وشمالها، بالإضافة إلى غير ذلك من الأعراق. وفى هذه الحالات نجد أن المعايير الأهم وربما الأكثر حسما فى تحديد التماثل والتباين ونقاط التماس هى تلك المرتبطة بالمنظومة القيمية والعادات والتقاليد والممارسات الاجتماعية والمؤسسات والبنى القائمة فى المجتمع وحياته الثقافية، وربما القناعات العقيدية والفكرية، بحيث تتفوق هذه المعايير على لون الجلد أو ملامح الشكل أو تدويرة الرأس أو غير ذلك من الخصائص الطبيعية. ويصدق نفس الأمر على أبناء اللغة الواحدة أيضاً حيث نجد شعوبا تتكلم نفس اللغة ولكنها تنتمى إلى حضارات أو ثقافات متنوعة، وبالمقابل نجد أيضاً شعوبا تنتمى إلى نفس الحضارة ولكنها تتحدث لغات متعددة مثل الحالة بالنسبة للسلاف والروس والصرب واليونانيين الذين ينتمون للحضارة السلافية الارثوذكسية الأوروبية ولكنهم يتحدثون لغات متنوعة.
ونود أن نذكر هنا أن الحضارات عادة ما تتسم بالشمول، بمعنى أن أيا من مكونات كل حضارة لا يمكن فهمه دون الرجوع إلى مجمل الإطار المرجعى للحضارة ككل والركائز الأساسية التى يبنى عليها هيكلها وبنيتها. فالحضارة إذاً كل لا يتجزأ فى عرف الكثيرين تحمل بداخلها عناصر التكامل فيما بين مكوناتها المختلفة، فالدول التى تنتمى إلى نفس الحضارة عادة ما يربط فيما بينها علاقات مختلفة فى طبيعتها وأكثر عمقا وكثافة ودفئا فى حميميتها من الدول التى تنتمى إلى حضارات مختلفة. ولا ينفى هذا أن حروباً يمكن أن تنشأ بين الدول المنتمية إلى نفس الحضارة كما ذكرنا آنفا، كما لا ينفى وجود صراعات اقتصادية أو تجارية أو غير ذلك، ولكن تبقى اعتبارات ثقافية ومعنوية وروحية تمثل صلات وروابط لا تنقطع بين هذه الدول، حتى ولو كانت خفية أو غير مرئية فى بعض الأحيان. وربما فى حالة العالم الإسلامى نجد إشارة معبرة، وإن لم تكن بالضرورة الأوضح، عن هذه الصلات فى كتاب فلسفة الثورة للرئيس المصرى الراحل جمال عبد الناصر حين تحدث عما أسماه بالدائرة الإسلامية وراح يشير إلى عناصر روحية أقر هو نفسه بأنه أحيانا لا يفهم طبيعتها ولكنها تجمع أبناء هذه الأمة معا وتمنح حركتهم زخما معنوياً وقوة وطاقة تفوق حجم ما يتمتعون به من عناصر القوة المادية، ودعا أبناء هذه الحضارة إلى توظيف هذه القوة والطاقة باتجاه تضامنهم ونهضتهم وإحياء مجدهم التليد.
وننبه هنا من جديد إلى التفرقة بين الحضارة والدولة، فالحضارة كائن يتجمع معنويا حول مجموعة من الأفكار والبنى والهياكل الأساسية. كأى كائن ثقافى، بينما الدولة كائن سياسى. فالحضارة إذاً ليست مسئولة عن الحفاظ على النظام العام أو تطبيق العدالة أو جمع الضرائب أو الدخول فى حروب أو التفاوض حول معاهدات واتفاقيات، فهذه الأمور من اختصاص الدول وحكوماتها. كما ان المكون السياسى يتراوح ما بين الحضارات وربما داخل كل حضارة من فترة إلى أخرى. والحضارة قد تشمل أشكالا مختلفة من التنظيم السياسى للمكونات الداخلة فى إطارها ما بين مدن ودول وإمبراطوريات واتحادات وكيانات كونفيدرالية، ودول قومية، ودول متعددة القوميات، ولكل منها شكل الحكومة الخاص بها، ويرتبط تطور الحضارات بتغير فى طبيعة الوحدات السياسية المكونة لتلك الحضارة. ولا ينفى ما تقدم ان الحضارة والدولة يمكن فى مرحلة ما ان تتماثلا من حيث حدود النطاق، وهذا هو ما حدث فى الحالة الصينية فى أكثر من فترة، وكذلك الأمر فى الحالة اليابانية. وبالمقابل، فإن التاريخ يعلمنا إن معظم الحضارات شملت اكثر من دولة واحدة.
المصدر: د. وليد عبد الناصر - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/Y1UN16.HTM
نشرت فى 13 أكتوبر 2011
بواسطة mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
284,107
ساحة النقاش