يوجد تباين حول تعريف الحضارة فى علاقتها بالثقافة، فهناك من العلماء والمفكرين من اعتبر كل حضارة تحتوى على مكون ثقافى أو حتى عدد من الثقافات الفرعية، إلا أن هناك آخرين فرقوا بين الحضارة والثقافة. وبصفة خاصة نذكر هنا المدرسة الألمانية فى تاريخ الحضارات فى القرن التاسع عشر، حيث صنفوا الإنجازات المادية فى داخل حدود مفهوم الحضارة بما تشمله تلك الإنجازات من التكنولوجيا والعلوم الطبيعية والتطبيقية والرياضية، بينما صنفوا تحت عنوان الثقافة كل ما هو أدبى ومعنوى من قيم ومثل عليا وإنجازات فنية وفكرية وثقافية وأخلاقية وغير ذلك، بل إن بعض المحللين أوجدوا تفرقة مختلفة بين مفهومى الثقافة و الحضارة، فأطلقوا مفهوم ثقافة على ما يسود المجتمعات البدائية من سمات غير حضرية وحالة ستياتيكية راكدة، بينما أطلقوا تعبير حضارية على ما يسود المجتمعات المتقدمة من تعقد فى العلاقات وأنماطها وتطور وديناميكية وسمات حضرية. إلا أن هذه التفرقة بين الحضارة والثقافة بقيت تحظى بقبول أقلية فى صفوف المؤرخين والعلماء والباحثين المعنيين بالحضارات، وبالتالى فإن أغلب هؤلاء يعرفون الحضارة باعتبارها تشمل القيم والمؤسسـات وأنماط الحياة والتفكير والسلوكيات التى يلتزم بها الأفراد عبر الأجيـال المتعاقبة فى مجتمع ما أو يحرصون على الالتزام بها أو - على اقـل تقديـر- يتخذونها مرجعية لهم. فالحضارة إذاً هى مجموعة متناسقة من الخصائص والظواهر الثقافية. وقد عرف ايمانويل الدشتاين الحضارة بأنها تجميع لرؤية للعالم وعدد من التقاليد والبنى والهياكل والثقافة (بما يشمل هنا المادية وتلك الروحية). وتشكل كل هذه العناصر درجة ما من التواصل التاريخى الذى يتعايش أيضاً مع ظواهر أخرى مختلفة. ومن جهـة أخرى رأى اميل دوركايم فى الحضارة نوعاً من البيئة المعنوية التى تحتوى على عدد معين من الأمم بحيث تعتبر الثقافة الوطنية لكل منها هى بمثابة ثقافة فرعية منبثقة عن الحضارة الأم. وبينما يرى البعض فى الحضارة نتاجا لعملية أصيلة من الإبداع الثقافى التى تمثل عمل شعب بعينه، فإن آخرين يرون فى الحضارة الهدف النهائى للثقافة بحيث أنه بدرجة تقدم البشر يستطيعون الاقتراب بالثقافة إلى مرتبة الحضارة، وبعد كل مرحلة من الإنجاز تتطلع الإنسانية إلى مرحلة اكثر تقدما. وتعتبر الثقافة فى كل الأحوال عاملا مشتركا فى أى تعريف للحضارة ، إذا ما استثنينا المدرسة الألمانية فى القرن التاسع عشر التى أشرنا إليها آنفا.
ونشير هنا إلى مفهوم الثقافات الفرعية ونعيد التأكيد عليه حتى لا يثور خلط بين الثقافة بمعناها الفرعى أو الجزئى والحضارة بمعناها الكلى والشامل. ونود هنا أن نلفت النظر إلى حقيقة واقعة نعايشها ونراها فى حياتنا اليومية ألا وهى وجود اختلافات ثقافية، بل وأحيانا تباينات وربما تناقضات فى الثقافات بين أبناء قرية أو مدينة ما وأبناء قرية أو مدينة أخرى سواء فى نفس الدولة أو فى دولتين جارتين تنتميان لنفس الحضارة، إلا أن هذا لا ينفى وجود خصائص ثقافية مشتركة تجمع بين هاتين القريتين أو المدينتين والتى تميز ابناءهما بالتالى عن أبناء قرى أو مدن أخرى تنتمى إلى حضارة وثقافة عامة مختلفة. إذن هنا يتضح الاختلاف بين الثقافة العامة والحضارة من جانب وبين الثقافة الفرعية من جانب آخر. وبالتالى نستنتج أن الحضارة هى أعلى مراتب الثقافة الجامعة لمجموعة من البشر - أيا كان حجمها - وأعرض مستوى من الهوية الثقافية التى يمكن للبشر تعريف أنفسهم من خلالها وتمييز أنفسهم عن غيرهم. إلا أن هذا بدوره لا ينفى وجود هويات أخرى ومرجعيات مختلفة يعرف البشر أنفسهم من خلالها مثل الجنسية (القطر الذى ينتمون إليه)، العرق، القومية، اللغة، الدين وغيرها. ويعرف البعض الحضارة فى هذا السياق بأنها تجمع بين عدد من الهويات الأخرى فى طياتها، سواء كان هذا الجمع يتم بشكل منسجم أو قد يوحى أحيانا بالتناقض، والتى تتضمن عناصر موضوعية عامة ومتفقاً عليها مثل اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد والبنى الاجتماعية، وعناصر ذاتية يأتى فى مقدمتها تفضيل الأفراد إعلان الانتماء لحضارة بعينها وشعورهم الخاص بهذا الانتماء. ومن هنا جاء حديث البعض عن مستويات ومراتب متتالية من الهوايات، فالمقيم فى مدينة القاهرة يمكن أن ينظر إلى نفسه - وفى ذات الوقت - باعتباره قاهرياً ومصرياً وعربياً ومسلماً وافريقيا ومتوسطياً ومنتميا إلى العالم الثالث وإلى الحضارة العربية الإسلامية. فالحضارة التى ينتمى إليها هذا المرء هى بالتالى المستوى الأعرض والأوسع من الانتماء، فهى أعلى مرحلة من الـ نحن فى مواجهة الـ هم. وقد يكون هذا التمايز بمعنى إيجابى، أى إقرار بالاختلاف مع رغبة فى التعايش واستعداد للتعاون وقدرة على التفاهم مع الإحساس بالراحة لدى ثقافة المرء وحضارته، أو قد يكون عنصرا سلبيا يتراوح بين رفض الآخر والانعزال عنه، أو التخوف منه والنظر إليه باعتباره الخطر والتهديد والعدو، أو التربص به وأخذ زمام المبادرة بالمواجهة معه والهجوم عليه أو النظر إليه باستعلاء ومن منطلق الإحساس بالتفوق واعتبار هذا الآخر دونياً.
المصدر: د. وليد عبد الناصر - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/Y1UN16.HTM
نشرت فى 13 أكتوبر 2011
بواسطة mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
284,105
ساحة النقاش