تؤكد الأدبيات السياسية في هذا السياق علي أولوية توافر النظام العام والاستقرار السياسي في المجتمع علي أساس ان من أهم المعايير السياسية في التمييز بين البلدان المتقدمة وتلك النامية ليس هو شكل الحكم ، ديمقراطي أو دكتاتوري وإنما هو درجة الحكم . أي التمييز بين البلاد التي تتضمن سياساتها الاجماع والعقلانية والشرعية والنظام والفعالية والاستقرار من ناحية، وبين تلك البلاد التي تعاني من القصور في كل تلك الجوانب من ناحية أخري . ومن هنا لا يكفي ان تقوم الحكومات علي انتخابات حرة وعادلة في البلدان النامية. فلكي تكون الانتخابات مجدية لابد من افتراض وجود مستوي معين من التنظيم السياسي، إذ ليست المشكلة في اجراء الانتخابات وإنما في تكوين التنظيمات.
وهذا هو الذي يفسر لنا التراجع الذي حدث في بعض البلاد النامية في سياق عملية التحديث، ، حيث لم تؤد هذه العملية الي تنمية سياسية رغم تحقق بعض مظاهر التحديث مثل التعليم والتصنيع والانتقال من الريف الي المدن، إلا أن ذلك لم يؤد الي تحقيق بعض المظاهر الاخري المرتبطة بالتنمية السياسية مثل الديمقراطية وبناء المؤسسات والتنافس الحر، وانما ادي الي توجه نحو النظم العسكرية ونظم الحزب الواحد، وبدلا من الاستقرار حدثت في بعض البلاد انقلابات عسكرية أو حركات تمرد وصراعات عرقية أو أهلية متكررة .
ومن هنا يؤكد علماء السياسة علي ضرورة تحقيق الاستقرار العام عن طريق إيجاد المؤسسات السياسية مثل الأحزاب التي تنظم عملية المشاركة السياسية .
علي ان الأمر يختلف في البلدان النامية التي تسعي الي التحديث ، ففي سياق ظروف تلك الدول تناط بالأحزاب السياسية وظائف ومهام تتعلق بالتحديث وبالتنمية السياسية لا تقل في أهميتها عن الوظائف التقليدية للأحزاب السياسية، وتضحي الأحزاب - من هذا المنظور - قوي مؤسسية تؤثر علي التحديث والتنمية السياسية وليست مجرد نتاج لهما ، بل أن قدرة المجتمع علي مواجهة أعباء التحديث وأزمات التنمية تتأثر الي حد بعيد بأنواع الأحزاب القائمة فيه ومدي فاعليتها ، ولذلك لم يكن غريبا أن أصبح الحديث عن الأحزاب في الغالبية الساحقة من أدبيات التحديث والتنمية يتم من خلال تحديد دورها كواحدة من أبرز أدوات التحديث .
5 - التنشئة السياسية :
تعد الأحزاب السياسية من أهم وسائل التنشئة السياسية الهأمة في أثناء الفترات الأولي للتنمية السياسية، وذلك باعتبارها من بين المؤسسات القليلة التي تهتم بالتأثير علي الاتجاهات السياسية. وفي البلاد النامية تسعي الأحزاب الي غرس قيم غالبا ما تكون مختلفة عن تلك التي تلقاها الأفراد في طفولتهم. ومن خلال عملية التنشئة السياسية تمارس الأحزاب تأثيراتها علي القضايا بعيدة المدي للتنمية السياسية بشكل عام.
6 - ضمان الرقابة الشعبية :
يكفل تعدد الأحزاب وجود معارضة منظمة تراقب الحكومة، وتنتقدها عندما تنحرف، وتسعي بالطرق المشروعة لكي تكسب أغلبية الرأي العام. وكل ذلك يضمن رقابة الشعب علي أعمال الحكومة. كذلك تساعد الأحزاب علي تحديد المسئوليات السياسية للحكومات المتعاقبة، حيث تكون كل حكومة مسئولة مسئولية سياسية أمام الشعب، هي والحزب الذي تنتمي اليه، عما تقوم به من أعمال خلال فترة توليها الحكم . ويكون للشعب تجديد الثقة بالحزب الذي شكلت منه أو عدم تجديدها في الانتخابات العامة، علي ضوء ما حققته تلك الحكومة من سياسات، وما التزمت به من رعاية مصالح الشعب الهأمة. فالرقابة علي هذا النحو لا يمكن أن تنجز بشكل مثمر إلا في ظل تعدد الأحزاب.
كذلك فإن وجود أحزاب يراقب بعضها بعضا ويكشف بعضها أخطاء الآخر يؤدي الي ان تكون حقيقة الأمور العامة مطروحة علي الشعب، غير خافية عليه ، ومن ثم يستطيع أن يشكل رأيه ، ويحدد موقفه واتجاهه . ومحصلة ذلك أن وجود تعدد الأحزاب أمر ضروري لتحقيق رقابة شعبية.
7 - ضمان سلمية انتقال السلطة :
فتعدد الأحزاب يقدم طريقة سلمية لتغيير القيادات واحلالها من خلال الانتخابات العامة. وبذلك يمكن ضمان الانتقال الشرعي والسلمي للسلطة، بالطريق الديمقراطي الي الحكومة والبرلمان المشكلين من الحزب الذي يحوز ثقة جماهير الناخبين. ويحدث ذلك في حالة تغير اتجاه الرأي العام وفقا للمتغيرات المختلفة من آراء وأوضاع ومصالح اجتماعية وسياسية .
وكذلك يضمن تعدد الأحزاب استيعاب كل أو معظم الاتجاهات في اطار النظام السياسي. أما من حيث لا توجد تنظيمات سياسية تضم المعارضين للحكومة.. عندئذ لا يكون ثمة خيار لهؤلاء المعارضين سوي الطاعة أو التمرد والخروج علي النظام.
8 - توفير الشرعية السياسية :
تعرف الشرعية بأنها البناء الدستوري المقبول من المجتمع، وهي المصدر الذي تستمد منه الحكومة سلطتها النهائية، والمثُل التي تعبر هذه الحكومة عنها .
ويحدد بعض علماء السياسة دور الأحزاب في حل مشكلة الشرعية للنظم السياسية في ثلاثة جوانب متكاملة وهي : نشاط الأحزاب في تعظيم أو ترقية شرعية النظام من خلال حشد التأييد الجماهيري ، ونشاط الأحزاب في تقديم مظلة واسعة من العلاقات المتداخلة ، والتي تجمع بين القطاعات الاجتماعية المختلفة ، وأخيرا ما تقوم به الأحزاب من الالحاح من أجل تقديم أهداف معينة للحكم .
9 - التكامل القومي :
يعني التكامل القومي بشكل عام ادماج العناصر الاجتماعية والاقتصادية والدينية والعرقية والجغرافية في الدولة الواحدة. وهذا المفهوم يتضمن جانبين : الأول قدرة الحكومة علي السيطرة علي الاقليم الخاضع لسيادتها القانونية، وثانيهما توافر مجموعة من الاتجاهات لدي الشعب ازاء الأمة عموما تشمل الولاء والاخلاص والرغبة في احلال الاعتبارات الوطنية فوق الاعتبارات المحلية أو المدنية أو الاجتماعية.
وقد اهتمت غالبية الأحزاب السياسية الحاكمة في كثير من الدول خاصة في آسيا وأفريقيا بتحقيق التكامل القومي من خلال إحكام السيطرة علي كافة أرجاء اقليم الدولة ، والحد من الولاءات الذاتية الضيقة. ولكن يقتضي نجاح الأحزاب السياسية في ذلك أن يكون الانتماء علي أساس البرامج والأفكار والمصالح وليس علي الأسس العرقية أو الدينية أو غيرها من العوامل التي تشيع الفرقة بين أبناء الوطن الواحد.
ساحة النقاش