مستشارك النفسى و الأسرى ( د. أحمد شلبى)

موقع للارشاد النفسى للمتميزين وذوي الإعاقة والعاديين

قصة يوسف عليه السلام

وإشراقات نفسية أسرية

 

لعلنا نلحظ عند مطالعتنا للقصص القرآني أن قصة سيدنا يوسف (عليه السلام) قد انفردت بخصائص عدة بين هذه القصص ، حيث ذكرها القرآن من بدايتها إلى نهايتها (من الآية 4 إلى الآية 102)، وغطت أحداث 40 سنة تقريبا ، ولم تذكر إلا في سورة يوسف فقط؛ (أبو بكر الجزائري، أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير) 

ولا شك أن ذلك من مواطن تفرد هذه القصة الزاخرة بالعديد من المعاني والعبر التي تستوجب أن نغوص في إعماقها ونسلط الضوء على بعض مضامينها ، ومن ذلك :

 

في مجال التربية الأسرية والنفسية :

نلحظ في أسرة هذا النبي الكريم العديد من الأمور التي تسترعي النظر ونحتاج إلى التوقف معها ، ومنها  :

 

1 الأبوة الملهمة :

ففي الحديث الشريف (اتق فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله ) (أخرجه الترمذي وقال حديث غريب )

وهذا الأب والنبي الكريم قد آتاه الله إحساسا ملهما وبصيرة ثاقبة تخترق حدود الزمان والمكان ؛

<!--فانظر إلى دعمه لرؤيا ابنه وطلبه ألا يقصها على أخوته ،وتقع أحداثها بحذافيرها بعد عشرات السنين: ( ...يا أبت إني رأيت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) (يوسف: 4)        

- وإلى توقعه أن يكيد له أخوته؛ (قال يا بُنَي لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين)

(يوسف: 5) 

- وعدم تصديقه لقصة أكل الذئب لسيدنا يوسف (عليه السلام)؛ (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (يوسف، 18)  

ولاحظ تعليقه؛ (فصبر جميل والله المستعان) ولو كان أبا عاديا وأُخِبر أن ابنه توفي وأكله ذئب، لبكى أو اندهش أو دعا له بالرحمة ...لكن قال فصبر جميل ، وكأنه استشعر أو أخبره الله عز وجل بأن القصة لم تنتهِ ولكن هذه هي البداية ولا تزال هناك فصول أخرى ولذا فإن الأمر يتطلب الصبر الجميل، أما عن وصفهم للحادثة فقد ارتاب فيه الأب   وأوكل الأمر فيه إلى الله الذي يستعين به دائما ، وكأنه يقول لهم ؛ هذا ما تصفون لكن الحقيقة يعلمها الله ونحن نستعين به كي يظهرها .

 

- كذلك طلب الأب من أبنائه عند دخولهم مصر ألا يدخلوا من باب واحد وأن يدخلوا من أبواب متفرقة ، وذلك لحاجة في نفس يعقوب قضاها ؛ (يوسف ، 67)      

- وتأمل استشعاره لرائحة سيدنا يوسف عن بعد؛ ( فلما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون) ) (يوسف ، 94)

وإلى جانب ذلك فهو أب صاحب هدف وقضية يوصي بها أبناءه ويتأكد من التزامهم بها عند موته؛ ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب -يا بَنِّيَ- إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (البقرة ، 132)

(أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال -لبَنِيْه- ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم واسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) (البقرة ، 133).

 

وهكذا فنحن أمام أب يمتلك:  

<!--- نفسا مطمئنة مرهفة ، وأبوة ودودة حانية ،

<!--صاحب هدف وقضية وحكمة وبصيرة ثاقبة

صبر وحِلِم جميل وعلم وعون يمنحهما الله لمن يشاء عند الالتجاء إليه والاستعانة به:

فهل نترسم خطو هذا الأب الملهم والنبي الكريم؟ حتى ننجح في حياتنا ونتغلب على ما يواجهنا من صعاب.

 

2 نهر واحد ومشارب متعددة:

ولعلك تلحظ أنه رغم أن الأب واحد ونبي ويتسم بهذه الصفات المتميزة إلا أن الأبناء قد اختلفت مستويات طموحاتهم وتفكيرهم وسلوكياتهم؛

أ) فبينما يرتفع مستوى تفكير سيدنا يوسف وتصوره إلى الكواكب والنجوم نجد أن بعض أخوته يهبط مستوى تفكيرهم إلى غياهب الجب(البئر)

 

ب) وفي أسلوب الخطاب ؛ يستخدم سيدنا يوسف في مناداة أبيه (يا أبتِ) والتاء هنا كما يقول علماء اللغة تدل على لاحترام، وقد وردت في القرآن الكريم في 7 مواضع ؛ 4 منها في سورة مريم استخدمها سيدنا إبراهيم (عليه السلام) مع أبيه رغم أنه كان مشركا: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ،  إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ،  يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا ، يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا ، يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ، مريم 42 :45) ،واستخدمها سيدنا إسماعيل مع أبيه إبراهيم (عليهما السلام) وذلك في سورة الصافات(... قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)(الصافات: 102) ، واستخدمتها إحدى ابنتي سيدنا شعيب مع أبيها (عليه السلام  ) (قالت يا أبتِ استئجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ) (القصص: 26)، وفي سورة يوسف استخدمها سيدنا يوسف مع أبيه كما أشرنا (في سورة يوسف ، الآية 4)

على حين نلحظ أن بعض إخوة سيدنا يوسف استخدموا لفظة (يا أبانا) (يا أبانا مالك لا تأْمَنَّا على يوسف ...) (يوسف: 11)

بينما يقول له بعضهم (... تاللهِ إنك لفي ضلالك القديم) (يوسف: 95).

 

ج) وبينما يهبط سلوك بعضهم إلى إلقاء أخيهم في الجُب واتهامه بالسرقة وهو بريء من ذلك ، إذا بهذا الأخ حين يمكنه الله فيصبح عزيز مصر ، ويكون قادرا على أن يأخذ حقه منهم، إذا به يعفو عنهم ويقربهم ويعطيهم قمحا مقابل بضاعتهم وهو قادر على أن يحرمهم من ذلك، ويقول لهم ؛(لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) (يوسف ، 92 ).

 

فإذا حاولنا أن نبحث عن أسباب هذا التنوع في المشارب رغم أن الأب المربي واحد، فيمكن أن يرجع ذلك من وجهة نظرنا إلى أمور عدة منها:

- أن التربية والتأهيل للنبوة تختلف ولا شك عن التربية لأي إنسان عادي ، كما قال ربنا لسيدنا موسى في القرآن الكريم ؛ (... وَلِتُصَنَعَ على عيني ) (طه: 39)

- كذلك فإن الشخص الذي يختار للنبوة لا بد له من مواصفات خاصة حيث أن القلوب والنفوس وسمات الشخصية تختلف من شخص إلى آخر؛ فقد تحدث القرآن الكريم عن اختلاف مستويات تلقي القلوب لدى طائفة من بني إسرائيل (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة؛ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ، وإن منها لما يهبط من خشية الله ...) (البقرة، 74)

- وأيضا فإن اختلاف التربية الأُموية يلعب دورا في ذلك ، حيث قال سيدنا يوسف لأخوته: (ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم... ) (يوسف، 59) لكن القرآن الكريم لم يفَصِّل الحديث عن ذلك ولذا لا يمكننا تفصيل الحديث عنه .

 

ويمكننا الإفادة مما سبق بأن :

# يتفق الأب والأم على أسس بناء عشهما وأسلوب تربيتهما لأبنائهما حتى لا يكون الأب في وادٍ والأم في وادٍ آخر وحتى لا يناقض أو ينقد بعضهما بعضا.

# أن أبناءك ليسوا نسخة منك ولن يكونوا نسخا مكررة لبعضهم البعض بل لكل منهم خصائصه وسمات شخصيته التي يتميز بها ، لذا فمن الظلم المقارنة بينهم بل نوجه كل منهم حسبما تسمح به قدراته ونساعده على حسن استثمارها.

# أن نساعد كل ابن على التعلم والتأهل للمهمة التي يؤديها والعمل الذي يقوم به.

# نحاول ما استطعنا الارتفاع بمستوى طموح وتفكير أبنائنا ، ففي القول المأثور : (نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك هي بالباطل).

# تعويدهم على أسلوب الخطاب الراقي.

# تعويدهم وتدريبهم على سلوكيات الإيثار، والمغفرة والتسامح فيما بينهم.

ولكن لماذا يحدث الخلاف بين الإخوة بعضهم البعض وأحيانا قليلة الكيد؟ وكيف نعالجه؟ هذا ما سنتناوله في المقال التالي بإذن الله ؛ نسأل الله أن يبارك في أبنائنا جميعا وأن يجعلهم قرة عين لنا ، وللحديث بقية .

mostsharkalnafsi

بقلم د. أحمد مصطفى شلبي [email protected]

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 454 مشاهدة
نشرت فى 19 ديسمبر 2023 بواسطة mostsharkalnafsi

ساحة النقاش

د.أحمد مصطفى شلبي

mostsharkalnafsi
• حصل علي الماجستير من قسم الصحة النفسية بكلية التربية جامعة عين شمس في مجال الإرشاد الأسري والنمو الإنساني ثم على دكتوراه الفلسفة في التربية تخصص صحة نفسية في مجال الإرشاد و التوجيه النفسي و تعديل السلوك . • عمل محاضراً بكلية التربية النوعية و المعهد العالي للخدمة الاجتماعية . »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

368,810