<!--<!--<!--
الحكومة السابقة والحكومة المنتظرة
لا أنسى اليوم الذي وقع فيه الاختيار على الدكتور عصام شرف ليكون رئيسًا للوزراء ومسئولاً عن تشكيل أول حكومة تأتي عن رغبة شعبية بعد إزاحة النظام السابق وحكوماته الفاسدة الفاشلة، لقد غمرت السعادة كل المصريين تقريبًا، وأحسوا أن هذا هو أول مظهر حقيقي لانتصار ثورتهم المباركة، فتنفسوا الصعداء، وتنسموا رياح الحرية، وبدأت أمارت التفاؤل تظهر على كل الوجوه، وكلمات الارتياح تخرج من كل الشفاه، فقد عقدوا الآمال الكبار على الدكتور شرف وحكومته لإنقاذهم وتحسين أوضاعهم ومعاشهم بعد عقود عديدة من المعاناة والفقر والاستياء.
ومرت الشهور تلو الشهور والناس يرفعون شعار حسن الظن بالحكومة ورئيسها، ويدركون أن مهمتها ليست سهلة، وأنها – بلا شك – تحتاج إلى كثير من الوقت لوضع الخطة المناسبة والتخلص من العراقيل الكثيرة السابقة، وتحقيق المواءمات السياسية والاقتصادية المطلوبة للانطلاق نحو آفاق التنمية والازدهار والخير والرفاهية للوطن والمواطنين.
ولكن كما يقول المثل العربي: ((أسمع جعجعة ولا أرى طِحنًا))، نسمع عن اجتماعات ومداولات ودراسات للميزانية وغيرها وإصلاح للعلاقات وتبادل للآراء مع الاقتصاديين والسياسيين والخبراء، وسفريات هنا وهناك دون أن نرى أثرًا ملموسًا لأي تحسن أو تغير في أحوال البلاد والعباد، بل على العكس نشعر بالتراجع والتردي والترهل في كل المجالات دون استثناء، فتحولت أمارت التفاؤل التي كانت تملأ الوجوه إلى أمارت تشاؤم وحزن، وانقلبت كلمات الارتياح إلى كلمات سخط وغضب، وبدأ حسن الظن في الحكومة ورئيسها يتوارى شيئًا فشيئًا دون أن تخطو الحكومة أية خطوة إيجابية لتحافظ على ما تبقى منه عند الشعب.
لقد كان الناس يدركون جيدًا أن مهمة حكومة الدكتور شرف لم تكن سهلة أبدًا، لأنه كان مطلوبًا منها أن تصلح كل الفساد الذي أحدثته الحكومات السابقة الفاسدة في عهد النظام السابق، وهو فساد له جذور ممتدة عبر سنوات طويلة، جذور صعبة الاستئصال لكنها ليست مستحيلة، كان مطلوبًا منها أن تنتقل بالشعب المصري إلى بر الأمان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي أيضًا، ولكنها فوجئت بموجة من الاعتصامات والمطالب الفئوية التي استهلكت منها كثيرًا من الجهد والوقت، ونجحت إلى حد كبير في تهدئة موجات الاعتصامات والمطالب المتعددة، ولكنها على المستوى العام لم تتقدم بالاقتصاد المصري نحو الأمام خطوة واحدة، كما ازداد الوضع السياسي سوءًا أيضًا، ولم يتغير الوضع الأمني السيئ، بل تراجع أكثر وأكثر، وازدادت أعمال البلطجة في كل أنحاء مصر بلا استثناء، ومع كل هذا ازداد سخط الشارع المصري على حكومته، وتراجعت ثقته فيها، وبدأت ترتفع الأصوات متهمة إياها بالصمت والعجز.
بدأت آمال الناس تتبخر عندما لاحظوا أن شخصية الدكتور شرف تتسم بكثير من الطيبة واللين وأن منهجه يتميز بالسعي لإرضاء جميع الأطراف، وكشفت الأيام أن هذه الصفات وتلك السياسة لا تصلح مع ظروف مصر الحالية ولا مع شخصية المصريين، بل ربما كانت هذه الصفات وتلك السياسة من أهم العوامل التي ساعدت على زيادة الجرأة في الشارع المصري، فازدادت أعمال البلطجة والعنف، وتفاقمت الفتن الطائفية في أكثر من مكان، وتوالت الأزمات السياسية والاقتصادية وتعددت النكبات ولم تستطع الحكومة أن تواجه هذا الوضع المتردي، فازداد الناس تشاؤمًا وحزنًا، وظلت أعينهم مفتوحة ترقب تحركات الحكومة لعلها تصحح من سياساتها وتعدل مسارها وتفعل شيئًا واحدًا إيجابيًّا يعيد الارتياح إلى قلوب المصريين ونفوسهم، ولكن طال انتظارهم حتى ملوا الانتظار.
راقب الناس تحركات وقرارات رئيس الوزراء الجديد، يملؤهم الأمل في غد مشرق وسياسة حصيفة حكيمة واعية تنتشلهم من الغرق في مستنقع الفقر وغلاء الأسعار وصعوبة الحصول على لقمة العيش، سياسة جديدة عادلة تضمن لهم الحرية والكرامة، ولكن كل هذه الآمال تبددت مع أول قرار أخذه الدكتور شرف بتشكيل حكومته الجديدة، حيث جاء معظم التشكيل من النظام السابق، وممن كانت لهم علاقات بلجنة السياسات المشئومة، فثارت ثائرة الناس وازداد غضبهم، وغلبوا حسن الظن على كل الهواجس، وانتظروا ما تئول إليه الأمور والأحوال.
ثم تبدت عدة مظاهر لا تبشر بخير، بل تمثل انقلابًا صريحًا على الثورة والثوار، كان في مقدمتها الإعلان الدستوري الذي جاء مخالفًا لما استفتي عليه المصريون، ثم كانت قاصمة الظهر بوثيقة المبادئ الحاكمة للدستور، والتي عُرفت إعلاميًّا باسم: ((وثيقة السلمي))، رغم أن اسمها الحقيقي: ((وثيقة المجلس العسكري))، التي تُعدُّ انقلابًا عسكريًّا على الثورة، وتمنح المجلس العسكري صلاحيات واسعة، وتجعله فوق السلطات التشريعية، بل تضع مصر تحت وصاية العسكر بنصوص دستورية، وثار جدل واسع بين المصريين حولها، وحدثت مصادمات وأريقت دماء وأزهقت أرواح، وكانت تلك الوثيقة القشة التي قصمت ظهر البعير، والسبب المباشر في إقالة حكومة الدكتور شرف.
ولا أكون مبالغًا إذا قلت: إنه منذ اللحظة الأولى لتفعيل حكومة الدكتور شرف بدأت الأمور تتكشف عن مدى الصلاحيات الممنوحة أو المتاحة لهذه الحكومة، ويبدو أنها كانت صلاحيات محدودة للغاية إن لم تكن منعدمة، فهذه الحكومة لم تكن تستطيع أخذ قرار إلا بعد العودة إلى المجلس العسكري، مما ينبئ عن تكبيل الحكومة والمصادرة على قراراتها، ولكن في النهاية يقع الملام على الدكتور شرف وحكومته، لأنهم لم يدركوا أنهم حكومة ثورة تحتاج إلى صلاحيات واسعة وكاملة تساعدها على احتواء المواقف والمطالب التي تواجهها، وكان على كل مَن شارك في هذه الحكومة – وعلى رأسهم الدكتور شرف – أن يكون أمينًا مع الثوار، وأن يتعامل معهم بوضوح وشفافية، وأن يصارحهم بالقيود المفروضة عليه، والضغوط التي تمارس عليه وتقيد أداءه، أو ينسحب من الحكومة اعتراضًا على سياسة المجلس العسكري مع الحكومة، وعندئذ يعرف الشعب الحقيقة فيتحرك لتغيير هذا الوضع المغلوط أو المقلوب، خاصة أنه قد تعالت أصوات كثيرة تُطالب الدكتور شرف بالإفصاح عن مدى صلاحياته، وعن علاقته بالمجلس العسكري، لكنه لم يستمع لهذه النداءات أو على الأقل لم يعرها اهتمامًا، ولذلك فإننا نحمله أوزار تلك المرحلة السابقة، ونحمله الوقت الذي أهدرته حكومته دون أن تحقق للمصريين ما كان ينبغي أن يتحقق خلال عشرة أشهر أو يزيد.
إن من أكبر أخطاء الحكومة السابقة أنها التزمت الصمت حيال صلاحياتها المحدودة، وكأن المشاركين فيها رضوا فقط بالجلوس على كراسيهم، وأنساهم المنصب لماذا جاءوا إلى هذا المكان، أو لماذا جلسوا على كرسي الوزارة؟!!
من الواضح أن المشكلة الحقيقة لم تكن في عجز حكومة الدكتور شرف وضعفها – رغم أن صمتها يعد جزءًا كبيرًا من المشكلة – ولكنها كانت في المجلس العسكري الذي اغتصب صلاحيات الحكومة، وكان السبب المباشر في بطء أدائها وتراجعه.
وبعد أن أقيلت حكومة الدكتور شرف، فإن التطورات الأخيرة التي أعقبت أحداث التحرير الأخيرة تعد مكسبًا سياسيًّا كبيرًا للثورة والثوار، خاصة تلكم القرارات التي أصدرها المجلس العسكري بعد اجتماعه مع القوى السياسية والتي تمثلت في:- قرار بقبول استقالة حكومة الدكتور عصام شرف- تشكيل حكومة إنقاذ وطني - الإفراج عن كل المعتقلين - علاج المصابين وتعويض أسر الشهداء - محاسبة المتورطين من الشرطة في عمليات القتل – إجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها (28 نوفمبر) - كفالة حق التظاهر والاعتصام السلمي في ميادين مصر - تعهد المجلس العسكري بتسليم السلطة لرئيس مدني منتخب بحد أقصى (30/ 6/ 2012)، وأهم هذه النقاط هي النقطة الأخيرة المتعلقة بتسليم السلطة إلى رئيس مدني قبل نهاية يونيو 2012، وأعتقد أنها النقطة الفارقة بين مجموعتي التحرير والعباسية في مليونية الجمعة الماضية.
وهذه كلها قرارات جديرة بالاهتمام والاحترام، لكن الأهم منها هو توفير الضمانات الحقيقية لتحقيق هذه القرارات على أرض الواقع حتى لا تتحول كسابقتها إلى مجرد تصريحات للتخدير والتنويم والخداع والاستهلاك الإعلامي، بل لاستهلاك الوقت أيضًا، ومن أهم هذه الضمانات – من وجهة نظري – هو أن يمنح المجلس العسكري الحكومة الجديدة كامل الصلاحيات لتنفيذ خطة الإنقاذ على الوجه الصحيح وألا يغتصب صلاحيات هذه الحكومة كما حدث مع الحكومة السابقة، لنجد أنفسنا أمام مجموعة من الشخصيات المكبلة التي لا تستطيع أن تفعل شيئًا، وكان هذا من أهم المآخذ على حكومة شرف التي رأت أنها مغتصبة الصلاحيات ورغم ذلك التزمت الصمت، ولذلك لم تتقدم بالبلاد خطوة واحدة نحو الأمام، بل ازداد تراجع البلاد، وازدادت الأوضاع سوءًا، وكان من الواجب عليها أن تتعامل مع الشعب الذي اختارها ووضع ثقته فيها بوضوح وشفافية وأن تصارحه بكل الضغوط التي تمارس عليها والأغلال المكبلة بها ليكون الشعب في الصورة ويساعدها على التخلص من كل ما يقف في طريق عملها، لكن - للأسف الشديد - هذا لم يحدث، ومن هنا فهي تتحمل كل أوزار المرحلة السابقة.
لذلك نأمل من الحكومة الجديدة ألا تكرر هذا المشهد المؤسف مرة أخرى، وأن تحترم عقل الشعب وتفكيره وثقته، وأن تتعامل معه بكل الوضوح والشفافية، لأن المصارحة هي الطريق إلى حل كل مشكلات الحكومة ومشكلات الشعب أيضًا، أما سياسة العزف المنفرد وسياسات المراوغة والخداع والكذب والانفراد بالرأي، والعمل في وادٍ ومطالب الشعب واحتياجاته في وادٍ آخر، كل هذا لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان وازدياد النفور والكراهية بين الشعب والحكومة، ونظل ندور في حلقة مفرغة دون الوصول إلى الأهداف المنشودة لهذه الثورة.
ماذا نريد من الحكومة المنتظرة؟ إن الحكومة المنتظرة أمامها مجموعة مهمة من التحديات التي فشلت الحكومة السابقة في إنجازها، ونأمل من الحكومة المنتظرة أن تنجح في كسب ثقة الشارع المصري، وذلك بتحقيق إنجازات ملموسة على أرض الواقع، وأهم الإنجازات المطلوبة منها ما يلي:
1- التدقيق في اختيار الشخصيات التي ستتولى حقائب وزارية، والحرص على أن يكونوا شخصيات تتفق عليها وعلى سلوكها وعلى ماضيها أغلبية المصريين، وأن يكون الاختيار على أساس الكفاءة والقدرة على الأداء والإنجاز لا على أساس الشهرة أو الوجاهة أو المجاملة.
2- كسب ثقة المواطن وإعطائه الأمل في أن الحكومة عازمة عزمًا أكيدًا على تحقيق مطالب الثورة والمصريين، وكذلك عازمة على اجتثاث الفساد من جذوره ومحاسبة المفسدين والمتورطين في أعمال عنف دون مواراة أو مجاملة.
3- الاهتمام بالملف الأمني الداخلي وإعادة الأمن إلى الشارع المصري في أسرع وقت ممكن، وهذا لن يتحقق بدون إعادة هيكلة وزارة الداخلية بكل صدق وصراحة وشفافية والبعد عن المجاملات لإزاحة العناصر الفاسدة منها وتطهيرها من كل مراكز القوى الذين يقفون حجر عثرة في طريق تحقق الأمن والأمان للمواطنين.
4- تطهير مؤسسات الدولة بصفة عامة من المفسدين والمرتشين وأصحاب النفوذ والمنتفعين بالفساد الذين يعرقلون هذه المؤسسات عن القيام بدورها بوضوح وشفافية.
5- كشف الحقائق بكافة تفاصيلها أمام الرأي العام دون مواراة أو مجاملة، فهذا فيه رسالة واضحة وإنذار صريح ووعيد شديد لمن قد تسول له نفسه المساس بحقوق الوطن والمواطن، سواء من كان في المنصب أو من سيأتي إلى المنصب، وأن يد الحكومة أطول وأقوى، وسيف القانون أحدُّ وأمضى.
6- الإسراع بدفع عجلة الاقتصاد وتحسين أحوال المواطنين المعيشية والسيطرة على جنون الأسعار، ووضع الخطط المناسبة للقضاء على الفقر والبطالة.
7- إعادة هيكلة الأجور، وعمل حد أقصى وأدني للمرتبات في أسرع وقت ممكن لإعادة روح الثقة والاطمئنان إلى المصريين.
8- إرجاع المال العام المستولى عليه من قبل الفاسدين المستغلين للسلطة إلى خزينة الدولة، لأن هذا من شأنه أن يعين الحكومة على الوفاء بالتزاماتها، خاصة في ظل ارتفاع معدل الإنفاق والتراجع الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد.
9- احترام الإرادة الشعبية والتصدي لكل محاولات الالتفاف عليها؛ لأن إهدار هذه الإرادة سيعود بنا إلى المربع صفر، وسيؤدي إلى عودة روح انعدام الثقة بين الحكومة والشعب من ناحية، أو بين الشعب والمجلس العسكري من ناحية أخرى.
10- التكاتف مع المجلس العسكري لتنفيذ الوعود التي وعد بها المصريين، خاصة فيما يتعلق بتسليم السلطة إلى رئيس مدني منتخب قبل نهاية شهر يونيو 2012، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى الهدوء والاستقرار والارتياح في الشارع المصري.
وأخيرًا أتمنى أن تقع هذه الكلمات الموقع الحسن من الحكومة المنتظرة؛ لنحقق لمصر والمصريين ما نصبو إليه من الخير والاستقرار والوحدة والازدهار.
د/ محمد علي دبور
كلية دار العلوم – جامعة القاهرة
وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ساحة النقاش