<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

التطهير أساس التغيير

إن مَثَلَ مصر بعد الثورة كَمَثَلِ ثوبٍ أبيضَ شديدِ البياض ولكنه – للأسف - ملطخ بالبقع والتشوهات، ثم قمنا بغسله وتنظيفه قدر المستطاع، فخرج بعد الغسيل وما زالت آثار البقع التي تشوه منظره موجودة، فرضينا بالمستوى الذي وصلنا إليه من التنظيف وغضضنا الطرف عن البقع والتشوهات الموجودة رغم خطورتها وشكلها السيئ المنفر، ورغم أنها تشكل عقبة في سبيل الوصول إلى البياض الناصع والنظافة التامة، والمشكلة الأكبر تكمن في أن هذه البقع تستعصي على الإزالة والتنظيف وتتحدى كل محاولات التطهير والتعقيم، وإن لم نجتهد في إزالتها وتطهيرها سيظل الثوب المصري ملطخًا مشوهًا لا يصلح للاستخدام، ولن يكون موضع مباهاة المصريين، ولن يحقق لهم ما يصبون إليه من العزة والفخر.

إن تأملي في أوضاع مصر الآن هو الذي أوحى إلىَّ بهذا المثل، فهو ينطبق عليها تمامًا، فمصر هي الثوب الأبيض، والبقع هي مجموعة الفاسدين المفسدين فيها، وعملية الغسيل والتنظيف هي الثورة الأبية التي قام بها شعب مصر، وبعد الثورة رضينا بأي مستوى وصلنا إليه من التغيير رغم أن كل مؤسسات الدولة ما زال يقبع فيها العديد من المفسدين والمرتشين وأصحاب النفوذ والمصالح والمؤثرين في مواضع اتخاذ القرار الذين يقفون عقبة في طريق التغيير والإصلاح، واتبعنا معهم سياسة حسن الظن، ثم اكتشفنا أن المبالغة في تحسين الظن بالآخرين يوقع صاحبه في مآزق حرجة لا مخرج منها.

إنه رغم الجهود المضنية المبذولة من الجميع نحو التغيير إلى الأفضل والأحسن إلا أننا نشعر أن هناك مقاومة شرسة تقف حائلاً وعائقًا دون امتداد هذا التغيير وتقدمه وانتشاره في كل مؤسسات الدولة، ولعل إحساس اليأس الذي بدأ يتسرب إلى النفوس لهو أقوى دليل على قوة هذه المقاومة وعنادها، إنها قوة لا تريد هذا التغيير وترفض الاستجابة لإرادة الشعب، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا إنها تتحدى إرادة هذا الشعب، وتؤكد أنها لن تسمح بأن يحقق المصريون ما يتمنونه من الحرية والاستقرار والتغيير، إن مصلحتها الحقيقية في بقاء الأوضاع على ما هي عليه من الترهل والتردي والتراجع، إنها منتفعة من الفساد المستشري في كل مؤسسات الدولة، والتغيير سيكشف عوارها ويضيع عليها كل المكتسبات التي حققتها على مدى عقود من الفساد الذي كانت تسعى إلى تأصيله وشرعنته ليظن الناس أنه الأصل وأن أية محاولة لتغييره ستبوء بالفشل، وأن صاحب هذه المحاولة كمن يحرث في الماء أو الساعي لينال بيده السماء.

لا يوجد أدنى شك عند كل المصريين أن كل مؤسسة من مؤسسات الدولة يوجد فيها العديد من المفسدين والمرتشين وأصحاب النفوذ والمنتفعين بالفساد الذين عششوا وفرخوا في أماكن تواجدهم وأصبحوا يشكلون مراكز قوى جديدة، بل أصبحوا سرطانًا يحتاج إلى معجزة لاستئصاله وإنقاذ المجتمع من خطره وشره، وأن المجتمع لن ينصلح حاله وتستقيم أحواله وتعود إليه عافيته واستقراره إلا بذهاب هذا الداء الوبيل والشر المستطير، إن وجود أمثال هؤلاء في جسد المجتمع يؤدي إلى استمرار وهنه وضعفه وتراجعه، إنهم يشكلون عقبة كئودًا في طريق التجديد والتغيير نحو أوضاع مستقيمة، نحو مجتمع إيجابي نزيه، نحو حياة نظيفة طاهرة.

إن هذه العصبة ليست خافية على العاملين في كل مؤسسة، وفي ظل أوضاعنا الراهنة أصبح من أوجب الواجبات على كل فرد أن يدل على هؤلاء ويكشف عوارهم وفسادهم، فهذا نوع من تغيير المنكر الذي أمرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال: ((مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))، لقد حان وقت التحرك نحو التطهير، وبعد التطهير سيكون الانطلاق نحو آفاق الحرية والاستقرار والحياة الكريمة وبناء الدولة الجديدة التي يرنو إليها المصريون جميعًا، ويشعرون تجاهها بالولاء والانتماء بعد عقود طويلة من الانفصام بين الدولة والشعب.       

إن العمل على تطهير المجتمع من الفساد هو الطريق الأمثل نحو إيجاد بيئة عمل صحية منتجة يشعر فيها الناس بالعدالة والمساواة، وتشجع على التفاني والإخلاص والرغبة الصادقة في حمل المسئولية والأمانة، تشيع فيها أجواء الاستقرار والاطمئنان، وتسود فيها مشاعر المحبة والتلاحم والتكافل، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن تقوم الجهات الرقابية والقضائية بممارسة دورها المنوط بها وفق صلاحياتها الممنوحة لها واستقلاليتها في تتبُّع الفساد واستئصال أسبابه وجز رءوسه وقطع دابرهم، والضرب بيد من حديد على كل مَن تسول له نفسه المساس بحقوق المواطنين.

إنه رغم ما نسمعه عن المحاكمات ورغم وجود العديد من المفسدين وراء القضبان إلا أن هذه الإجراءات ليست كافية لأن الشعب يشعر أن الفساد أعمق من ذلك وأكثر، وأن ما حدث من إجراءات تجاه هؤلاء الفاسدين ما هي إلا تجارب هزيلة لتهدئة الرأي العام، وهناك اتهامات للحكومة بالتقاعس عن المواجهة مع هؤلاء، وفي تقديري أن المصارحة والشفافية في كشف الفساد والمفسدين وإطلاع الرأي العام على كل التفاصيل وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية بدلاً من الاكتفاء بألفاظ العموم التي تثير الشك واللغط مهم لعدة أمور:

الأول: أن الشارع المصري لا يزال يغلي مُطالِبًا بمكافحة الفساد والقبض على الملطخة أيديهم به، ومن شأن الصراحة والشفافية وكشف الحقائق كاملة أن تهدئ الخواطر وتخفف من وغر الصدور، وتقلل من حالة الاحتقان.

الثاني: كسب ثقة المواطن وإعطائه الأمل في أن الحكومة عازمة عزمًا أكيدًا على اجتثاث الفساد من جذوره ومحاسبة المفسدين.

الثالث: إرجاع المال العام المستولى عليه من قبل الفاسدين المستغلين للسلطة إلى خزينة الدولة من شأنه أن يعين الحكومة على الوفاء بالتزاماتها، خاصة في ظل ارتفاع معدل الإنفاق؛ نتيجة تلبية طلبات الاعتصامات السلمية والمحتجين.

الرابع: كشف الحقائق بكافة تفاصيلها أمام الرأي العام دون مواراة أو مجاملة فيه رسالة واضحة وإنذار صريح ووعيد شديد لمن قد تسول له نفسه المساس بحقوق الوطن والمواطن، سواء من كان في المنصب أو من سيأتي إلى المنصب، وأن يد الحكومة أطول وأقوى، وسيف القانون أحدُّ وأمضى.

ولكي تحقق ثورة الخامس والعشرين من يناير أهدافها النبيلة فأول ما يجب علينا أن نقوم به هو تطهير الإعلام كخطوة أولى ومهمة؛ لأنه بدون تطهير الإعلام فإن أي شيء سوف نقوم به في الاتجاه الصحيح ليس له معنى ولا فائدة منه؛ لأن الإعلام الموجه المغرض سوف يفسده، ولذلك لابد من القيام بثورة تطهير شاملة للإعلام ليتحول من إعلام يخدم جهة معينة ووجهة نظر واحدة إلى العمل في خدمة الشعب المصري فقط، وأن يطرح جميع وجهات النظر المختلفة، وأن يتبنى مبدأ: ((الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية)).

وبعد هذا التطهير نكون قد قمنا بالعمل الأكبر والخطوة الأولى والأهم في الاتجاه الديمقراطي السليم بلا ضغوط وبلا فتن داخلية وبلا إشاعات تجعلنا شيعًا وأحزابًا متناحرة.

ومن أهم المؤسسات التي تحتاج إلى تطهير جذري وشامل هي وزارة الداخلية التي – من المفترض- تشكل حصن الأمن والأمان للمصريين، وقد أصبحت خارج الخدمة منذ الثورة إلى يومنا هذا، بدا عليها التقاعس والتراجع والهزال المفتعل، وكأن جبابرة الداخلية يقولون لنا: إما أن نسير على السياسة القديمة في إهانة المواطنين وإهدار كرامتهم والنيل من أعراضهم، وإما عليكم – أيها المواطنون- أن تعتبرونا غير موجودين وأن تتولوا حماية أنفسكم، فلا تفسير لغياب الأمن وانتشار أعمال البلطجة إلا بهذا، وعلى الشرفاء في وزارة الداخلية أن يتصدوا لهذه الحالة المفتعلة والمستفزة من الانفلات الأمني؛ لأن لهذه الحالة آثارها السلبية على النمو الاقتصادي واستقرار السياحة وتقدم المجتمع.

إننا لا نستطيع أن نستسيغ أو نصدق أن قيادات الداخلية بحدهم وحديدهم وسطوتهم وجبروتهم التي كانوا يتعاملون بها مع شعب مصر أيام النظام السابق، لا نصدق أنهم لا يعرفون هؤلاء البلطجية فردًا فردًا، وكذلك يعرفون أماكن تواجدهم ونشاطهم الإجرامي، وكأن تسليط هؤلاء البلطجية على الشعب أمر مقصود ليسوموه سوء العذاب، فتكون النتيجة إما أن يترحم الشعب على الأيام الخوالي رغم ما كان فيها من الظلم والظلام، وإما أن يقولوا لجبابرة الداخلية: عودوا إلى أعمالكم وافعلوا فينا ما شئتم لكن ارحمونا من البلطجة والبطجية وغياب الأمن والأمان على النفس والمال والعرض.

نحن لا ننكر أن زحزحة هؤلاء الجبابرة عن عروشهم ليس أمرًا يسيرًا لكنه أصبح ضرورة اجتماعية وأمنية وواجب وطني في آنٍ واحد، وعلى المسئولين في وزارة الداخلية أن يتخلوا عن المجاملة والتملق وأن يسعوا إلى تطهير وزارتهم ممن يقفون عقبة في طريق تحقيق الأمن والأمان للمواطنين، وألا ينسوا أنهم مسئولون أمام الله عن تلكم الأرواح التي تزهق يوميًّا بسبب غيابهم عن الشارع المصري، ولا حل لهذه المعضلة إلا بوقفة إيجابية لتصحيح المسار وتجديد العهد مع المواطنين أن يكون الجميع يدًا واحدة لتطهير المجتمع وتحقيق الأمن والأمان لكل فرد من أفراده، وأن تكون الشرطة – حقًّا وحقيقةً – في خدمة الشعب.

وما ينطبق على الإعلام والداخلية ينطبق على كل مؤسسات الدولة التي تحتاج إلى التطهير الشامل والجذري من كل هؤلاء الذين اعتادوا على سياسات التلفيق والتزوير والغش والخداع والتملق والانتهازية، ولن تنطلق هذه المؤسسات إلى الأمام وتحقق ما يُرجى منها إلا بعد تطهيرها وتنظيفها من كل ما يقف حجر عثرة في طريق عملها بشفافية ونظافة وأمانة.

وعندما نتحدث عن التطهير فإننا لا نقصد فقط تطهير المناصب من رموز النظام السابق، ولكن نقصد أيضًا – وهذا هو الأهم- تطهير المناصب ممن يفكرون بعقلية ومنطق النظام السابق حتى لو كانوا ممن يدعون أنهم من المعارضين له، نريد تطهيرًا للعقول من الثقافات الفاسدة التي أصيبت بها قطاعات عريضة من المواطنين بفعل فيرس النظام البائد، فما زالت تعشش في الرءوس أفكار كثيرة بالية وطرائق للحوار لا تتناسب مع أفكار ما بعد الثورة، فنرى أن كل ائتلاف أو حزب يظن أن معه الحق المطلق، أو أنه وحده الذي يحسن التفكير والتخطيط لمستقبل هذا البلد، والبقية من المواطنين أو الأحزاب الأخرى لم ينضجوا بعد أو لم يصلوا إلى المستوى العقلي الذي يؤهلهم لهذا العمل الكبير، هذه هي طريقة احتقار الآخر أو استصغار الآخر التي تغلب على الكثيرين ممن يعملون في الحقل السياسي، فكيف لنا أن نغير مجتمعنا إلى الأحسن وما زلنا نحمل في رءوسنا وعقولنا مثل هذه الأفكار المتخلفة، فالواجب علينا في هذه المرحلة المهمة من تاريخنا أن نطهر عقولنا وقلوبنا من مثل هذا الفكر الأناني إلى فكر جديد وعقول جديدة تتبنى مبادئ الحوار البنَّاء واحترام الرأي الآخر وتلاقح الأفكار للوصول إلى الأصوب والأفضل لمستقبل بلدنا.

يجب أيضًا أن نطهر عقولنا من الأحكام المسبقة على كثير من الأفكار والبرامج المطروحة على الساحة السياسية، من ذلك مثلاً حالة الإسلام والإسلاميين في بلادنا، فالنظام السابق جاهد واجتهد ليزرع في نفوس المواطنين وقلوبهم كراهية الإسلاميين وأفكارهم وبرامجهم، وللأسف الشديد تبنى الكثيرون من المصريين هذه الأفكار وتلك الأحكام الظالمة بلا تفكير أو تأمل، وأصبحت الغالبية تبتعد عن الإسلاميين وأفكارهم ليس كراهية لهم ولكن إما إيثارًا للسلامة، حيث كانت تخشى أن يصيبها مثل ما أصاب هؤلاء الإسلاميين من التنكيل والاعتقال والإلقاء في غياهب السجون، وإما لما أشيع عن الإسلاميين ظلمًا وعدوانًا من أنهم متحجرون لا يفهمون، أو متعصبون لا يتحاورون، أو متشددون لا يلينون...الخ، والآن وبعد أن مَنَّ الله علينا بالحرية في ظل هذه الثورة الأبية لماذا لا نسعى إلى الاستماع إليهم ونطهر عقولنا من الأحكام المسبقة عليهم ونتعامل مع الواقع الجديد، وألا نحكم على شيء قبل أن نتعرف عليه؟ لذا يجب علينا في الفترة الراهنة- إذا كنا فعلاً ندعي الموضوعية والإنصاف- أن نُقبل على هذه الأحزاب الإسلامية الجديدة التي أصبحت واقعًا سياسيًّا، ونتعرف على برامجها وأفكارها بتؤدة وتريث، ثم نحكم عليها بالصلاح أو عدمه، فإذا فعلنا ذلك نكون- فعلاً- قد وضعنا أقدامنا على أول طريق التطهير الفكري والثقافي.    

إن التطهير كما يشمل الأشخاص يشمل العقول والسلوكيات والأخلاق أيضًا، وهو خطوة مهمة وضرورية نحو التغيير، بل هو أساس التغيير الذي نبتغيه ونسعى إليه، وبدونه نكون كمن يدور في حَلْقة مفرغة، فمهما دار وتعب لن يصل إلى نتيجة أو يحصِّل منفعةً، أو نكون كمن يحرث في الماء ولا يجد لحرثه أثرًا ولا لتعبه وكفاحه ثمرةً.

   د/ محمد علي دبور

كلية دار العلوم – جامعة القاهرة

وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

[email protected]

المصدر: مقال شخصي

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

80,520