<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

التغيير مسئولية الشعب

إن أي تغيير في أية حضارة أو في أي مجتمع يُبنى على قائمين اثنين لا ثالث لهما سوى المعجزات, وهما: قادة التغيير، والشعب المؤمن بالتغيير والراغب فيه, ومن خلال قراءتنا للتاريخ لن نجد أن قادة استطاعوا التغيير في مجتمع ما دون وجود رغبة لدى المجتمع أو الشعب في التغيير، فأساس التغيير هو رغبة الشعوب فيه وطلبهم له وعملهم عليه، وعلينا أن نعي أن التغيير لن يحصل بدوننا كشعب, وأن نعي أن مطلب التغيير مطلبنا جميعًا , وأن ندرك أن هذا التغيير يجب الحفاظ عليه, وليس من الصحيح في شيء أن نرمي الكرة في ملعب السياسيين, ولا أن ننتظر القادة والإصلاحيين, لكن على الشعب أن يتحرك للتجديد والتغيير ويرفض فكرة التفريق بين الدولة والشعب، فالدولة ليست بعض المستفيدين والانتهازيين، كما أنها ليست بعض الطارئين على مؤسساتنا, علينا أن نعي أن الدولة هي الشعب, وأن من يقوم بإدارة الدولة من حكام ومسئولين هم مجرد موظفين نبقيهم في أماكنهم متى شئنا ونقيلهم متى شئنا.

قد يكون كلامي هذا مخالفًا لواقع اليوم, ومخالفًا لما اعتدنا عليه من ثقافات مقلوبة مغلوطة، وهذا ما يدعونا للتفكير بإحداث التغيير الجذري الشامل لتكوين دولتنا وبنائها بأيدينا, وأن نكون نحن أساس التغيير وليس القادة, لأننا نبني المجد لدولتنا لنورثه لأبنائنا فيكون خيره لنا, وهم يبنون المجد لشخوصهم ليورثوه لأبنائهم فيكون خير الدولة لهم.

إن دولتنا التي نريد بنيانها دولة لا يتمتع فيها القادة بالامتيازات بينما يشرب الشعب من ماء البحر, لا, لا نريد دولة القادة والقياديين, بل دولة المؤسسات المبنية على المساواة والعدل والحرية, دولة تعطي لمن في الحكومة نفس ما تعطي لعامة الناس, فلا امتياز ولا امتيازات لأحد مهما كبر منصبه أو صغر.

في العهد البائد ازداد ابتعاد الشعب كمكون منفرد عن النظام الحاكم الذي هو مكون منفرد آخر، وازدادت العزلة تدريجيًّا مع ازدياد خوف المنظومة الحاكمة من الشعب وتسلط تلك المنظومة في ظل دولة بلا مكونات دولة, فلا دستور ولا برلمان (صوري وشكلي) ولا صحافة حرة ولا إعلام حر ولا أحزاب حقيقية، وفي ظل الخوف والحذر المزدوج بين النظام الحاكم والشعب ازداد شعور الفرد بعدم الانتمائية مما أدى إلى ظهور الكثير من الأمراض الاجتماعية الخطيرة والتي تجلت وانكشفت وظهرت للعيان وتمثلت في الكثير من الظواهر اللاأخلاقية كالفساد المالي والإداري وعلى أرفع المستويات؛ نتيجة لانعدام الشعور بالمواطنة الذي أورثته لنا دولة اللادولة، ولو عدنا لأدبيات ومبادئ تكوين الدول الحديثة نجد أن الدولة تُبنى على مرتكزات تتقاسم بينها السلطات, وكان للشعب فيها نصيب وافر فهو الحاكم وهو القائد, وهو من يمتلك مفاتيح الحسم والتغيير لا غيره، ولو عدنا إلى الوراء قليلاً لا نرى في بلادنا فيما سبق أن الشعب هو من امتلك السلطة أو الرغبة في التغيير، ولم يستطع النظام الحاكم كسب الشعب إلى جانبه، ولم يستطع أن يجعله الأداة الرئيسة للتغيير, أو على أقل تقدير إشراكه في عملية بناء دولته .

إن التغيير ليس مسؤولية الحاكم وحده، ولكنه مسئولية الأفراد أيضًا، فكل شخص في المجتمع مسئول عن صناعة التغيير، ونجاح الإنسان على المستوى الشخصي قد يكون مساهمة كبيرة في التغيير، ولا يمكن لتغيير أن ينجح بدون تخطيط وواقعية.

وكما يقول الإصلاحيون والتربويون: إننا يجب أن نرفع شعارًا مفاده أننا: ((مجتمع كل أفراده صُناع التغيير))، فالتغيير يقوم به الحاكم، حيث كثيرًا ما نشعر بمسؤولية الحاكم أو نشعر بأن الفشل والإخفاق في عدد من المشاريع النهضوية والمستقبلية سببه عدم تبني الحكّام له في مرحلة من المراحل، فالحكومات تكون مسئولة عن صناعة التغيير ورسم معالمه والإنفاق عليه مسؤولية لا يُختلف عليها، لكن من الخطأ أن نختصر الحياة في شخص أو جهة معينة، وإلا أين دور المجتمع؟ بل أين دور الشعب الذي سيكون أول المتأثرين بهذا التغيير سلبًا أو إيجابًا؟

إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرائد لا يكذب أهله))، فالإنسان الذي يملك الكلمة الحكيمة المضيئة التي أشعلتها تجارب الحياة ونورتها الخبرة وزودها التاريخ بمعالمه وارتبطت بالحياة من خلال معرفة الواقع ومتغيراته وضروراته، هذه الكلمة الحكيمة المستنيرة بنور الله، الصادقة التي تنطلق من قلب محب ومشفق، والكلمات الجميلة التي يمكن أن تسمعها حتى من أناس عاديين، يمكن أن يكون لها دور كبير في التغيير.

ومن الكلمات الجميلة التي ذكرت في التغيير، هي كلمة لفيلسوف يقول: ((إنك لا تستطيع أن تبني بيتك الجديد من طوباتك القديمة))، وهذا يشير إلى أن المجتمع الجديد أو الشخصية الجديدة التي أريد أن أكونها ينبغي أن تؤسس بشكل صحيح ولا تعتمد على إعادة إنتاج نفس المشكلات السابقة التي كنا وما زلنا نعيشها ونعاني منها.

وإذا كنا نواجه الكثير من الأزمات والعراقيل والتحديات في طريق التغيير، فإننا ينبغي ألا نسارع بإلقاء التبعة على الآخرين، أو على الأعداء الذين يفعلون فينا ويتلاعبون بنا، لأنه يكفي كفرًا بذواتنا أن نعتقد أننا لا نصنع شيئًا وإنما العدو هو الذي يصنع فينا ما يحلو له.

 يقول الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) (سورة الرعد: من الآية 11)، فإن آية التغيير هذه تجعل هذه الأزمة فرصة بالنسبة لنا إذا أحسنا توظيفها واستثمارها بدلاً من الشعور الدائم بالقلق من الواقع، فالواجب علينا أن نحوّل هذا الشعور الدائم بالقلق إلى تفكير عميق فيما يمكن أن نعمله نحن تجاه هذا الواقع.

ولكي يتغير الواقع إلى الأفضل والأحسن لابد أن تكون عند الإنسان إرادة قوية؛ ولذلك فإن أحد التجار سئل- وكان فقيرًا- كيف حصلت على هذا المال؟ قال بطريقتين: الطريقة الأولى: أنني قررت أن أكون ثريًّا. الطريقة الثانية: أنني حاولت. ونجح في المحاولة، ولا شك أن الأمر ينطبق على أي شيء آخر، وفي أي نمط من التغيير الفردي أو الجماعي.

التغيير ليس هدمًا لما سبق:

إن الأوهام المتعلقة بالتغيير قد تجعل منه شبحًا نتخوف من الإقبال عليه، وقد يتوهم البعض أن التغيير هو عبارة عن هدم للبناء، ومن حق الإنسان أن يتخوّف، وعلى سبيل المثال، هناك كلمة جميلة لغاندي يقول: "أنا مستعد أن أفتح نوافذ بيتي للرياح لتهب منه في كل اتجاه شريطة ألا تقوم هذه الرياح بهدم منزلي وتقويضي"، فلئن يعيش الناس في بيت متهدم أفضل من أن يعيشوا في العراء، لكن أن يستطيعوا ترميم هذا البيت وتصحيحه بأيديهم وبأيدي المخلصين فهذا أفضل من البقاء على البيت كما هو.

ومن المقولات التي أعجبتني في الحديث عن التغيير وسلوك طريقه أن التغيير يتطلب وعيًا بسباق التتابع، حيث يقطع كل متسابق مسافة أو مرحلة محددة ثم يسلم الراية لمن يليه، لينطلق هو بالعصا حتى ينجح المشروع في النهاية على أيدي أناس قد يختلفون تمامًا عمن بدأوه، وهذا معناه أن نكمل ما كان موجودًا لا أن نهدمه ونبدأ من جديد.

وفي بعض مراحل التغيير تجد الناس يبحثون في المكان الخطأ عن الفاعلين الذين سيديرون دفة الأحداث، فيلومون الكيانات القديمة التي مارست دورًا مهمًّا في مرحلة سابقة، متوهمين أنها المنقذ الذي سيكمل المشروع للنهاية، فيجلدون تلك المجموعات بالمطالب، ويرفعون سقف توقعاتهم منها، ولم ينتبهوا إلى أن تلك الكيانات ليست سوى أدوات كانت صالحة لمرحلة محددة وربما لا تصلح لمرحلة أخرى قد تتطلب أدورًا ذات طبيعة مختلفة، وأدوات ذات خصائص مختلفة.

وقد يقولون: إن هذه الكيانات لا زالت حاضرة. وعندئذٍ عليهم أن يتساءلوا: هل هي حاضرة تقوم بأعمال حيوية وفعالة، أم أنه حضور من ينتظر تكريمه في الميدان بعد أن أنهى مهمته؟!

إن سباق التتابع يعلمنا أن المجتمع كله شريك في صناعة التغيير، وأن كل مرحلة لها رموزها وصناعها، وأن الجميع مسئولون عن قطع الأشواط والمراحل، وعلى كل كفاءة أن تتصدر المشهد حين تأتي المرحلة التي تبرز فيها كفاءاتها.

فعندما يُرى شخص يصارع الغرق في البحر؛ فإن المجتمع يتحرك بشكل طبيعي، فشخص يقوم بالتنبيه بالخطر فيصرخ في رواد الشاطئ، لكنه لا يحسن السباحة فيأمل أن يتلقف صرخته سباحٌ ماهر، فإذا سمع السباح الصرخة بدأت مرحلته ليخلع ملابسه في عمل بطولي مقتحمًا الأمواج، فإذا حمل الغريق إلى الشاطئ بدأ دور متقني الإسعافات الأولية لإنقاذ حياة الغريق، وسنلحظ هنا أن الذي صرخ في البداية قام بدور أساسي هو التنبيه، لكن بعد إخراج الغريق قام بدور ثانوي وهو المشاركة في حمل الغريق مع كثيرين.

لذلك يمكن لمن كان يقوم في مرحلة بدور أساسي ومحوري أن يتحول في مرحلة أخرى إلى دور ثانوي داعم، فليس بالضرورة أن يظل في الصدارة دائمًا في كل مرحلة، فمن تصدر في مرحلة الخطوط الأمامية يمكن أن يربض في الخطوط الخلفية في مرحلة أخرى، فلكل مرحلة أهلها.

والمجتمع الطبيعي الواعي يعلم أنه يمتلك من الطاقات الكامنة ما لو تفاعلت سويًّا لقدمت أروع الأمثلة في التغيير الحضاري، وأن كل هذه الطاقات شريكة في إحداث التغيير، وأن لكل منها وقته كي يتم تفعيلها.

أما الذين يشكون أن التغيير لم يؤد إلى نتائجه النهائية، ويصرخون ليل نهار.. أين ذهب التغيير؟! ويطالبون غيرهم بأن يتم التغيير على أكمل وجه وهم متفرجون؛ فهؤلاء لا يعون جيدًا طبيعة التغيير الشعبي، هم أقرب إلى أولئك الملأ الذين اجتمعوا على شاطئ يصرخون فيمن أنقذ غريقًا... كيف أخرجته من الماء ولم تسعفه؟ لقد انهالوا عليه ضربًا حتى أدموه.

لكن في الحقيقة ليسوا هم وحدهم المخطئين، فبعد أن أنهى هذا المنقذ مهمته، أخذ يصيح في الناس.. أنا بطل.. أنا بطل... فسألوه أن يتم مهمته فأبى أن يخبرهم أنه لا يفهم في الإسعافات الأولية، وأنه مجرد سباح جريء ماهر، تعذر عليه أن يخبرهم أن دوره قد انتهي، خشي أن يخطف الأنظار شخص آخر، فحاول إسعاف الغريق مقترفًا معظم الأخطاء التي تحذر منها الإرشادات الأساسية للإسعافات الأولية، ومات الغريق في يده... نعم ... هو من قتل الغريق!! ترى هل نصف هذا السباح بالمنقذ أم القاتل؟! لقد لعب الدوريْن!!

إن التغيير مسئولية شعب بأكمله لا يمكن أن يلقيها أحد على الآخر، كما لا يصح أن تكون جريمة يلاحق بها من بدأوه وضحوا من أجله وأتموا مرحلتهم على أكمل وجه، لنرى البعض يصرخ فيهم.. وماذا بعد؟! كذلك لا ينبغي أن يستعلي أصحاب المرحلة الأولى على من سواهم قائلين لهم: أنتم لم تشاركوا معنا وليس لكم مكان اليوم، سنتم السباق وحدنا للنهاية.. هم بذلك أقرب إلى قاتل الغريق.

إن المجتمعات الواعية تعلم أن التغيير هو فن تتابع الأدوار، وأن مشاركة الجميع مطلوبة وإن اختلفت توقيتات المشاركة، المهم أن يشارك الجميع في عزف السيمفونية كلٌّ في وقته المناسب، ولا بأس أن يعلو صوت آلة موسيقية مقابل خفوت صوت آلة ثانية أو اختفاء صوت ثالثة.. يجب احترام ذلك كله، المهم أن يعرف كل فرد أو حزب أو مؤسسة متى يبدأ دوره ومتى ينتهي، ومعرفة توقيت الانتهاء لا يقل أهمية عن معرفة توقيت البدء!!

إذا سمعت صوتًا نشازًا في معزوفة التغيير فاعلم أن هناك عدم احترام للأدوار، وأن اللعب "بالصاجات" أصبح هو المهيمن.

د/ محمد علي دبور

كلية دار العلوم – جامعة القاهرة

وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

[email protected]

 

 

 

المصدر: مقال شخصي

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

80,520