<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

نظام الحكم الذي نرتضيه

في ظل هذا التحول الكبير الذي نحياه جميعًا في بلادنا أرى أننا في حاجة ماسة إلى المصارحة والصدق مع أنفسنا قبل كل شيء، فقد عشنا فترة طويلة من الزمن مخدوعين بأفكار ونظريات كان لها أبعد الأثر في تزييف وعينا، وتشويه أفكارنا، وتشكيكنا في ديننا، وتمزيق أمتنا، وقد جربنا - على مدار السنوات الماضية - الآثار المؤلمة والمدمرة للسير وراء النظريات الغربية والأفكار المستوردة وتنحية شرع الله عن شئون الحياة وشئون الحكم، ولم نجنِ من وراء هذا كله إلا الفساد السياسي والإداري والخراب الاقتصادي والتفكك الاجتماعي والجهل الثقافي والتعليمي، فضلاً عن الانحدار الخلقي، وضعف الوازع الديني، وانهيار القيم والفضائل.....الخ.

وبعد طول هذا العناء، ألم نسال أنفسنا هذا السؤال: ما يضيرنا إذا حاولنا أن نفهم – بعيدًا عن التعصب والأحكام المسبقة – ماذا تعني الديمقراطية التي تحكمنا منذ عشرات السنين، وماذا جنينا من ورائها؟ وماذا يعني النظام الإسلامي في الحكم الذي نحيناه جانبًا دون أن ندرك معناه وأهدافه ومقاصده؟ أما آن الأوان لنجرب العودة إلى حكم الله وتحكيم شرع الله فينا ونرى كيف تكون النتائج؟

أنا أدرك تمامًا أن حكم الله ودين الله ليس للتجريب، ولكن في الوقت نفسه أدرك – ويدرك معي الكثيرون – أنه أصبح بيننا وبين فهم نظامنا الإسلامي بون شاسع بفعل عوامل كثيرة يأتي على رأسها محاولات التغريب المستميتة التي كانت تهدف إلى تقديس كل ما يأتينا من الغرب وسلخ الأمة عن قيمها ومبادئها وعقيدتها، لذلك سنحاول معًا – رويدًا رويدًا – أن نفتح قلوبنا وعقولنا من جديد لنفهم الفرق بين الديمقراطية الغربية والنظام الإسلامي في الحكم لنحدد نظام الحكم الذي نرتضيه ونتحمل مسئولية الاختيار أمام الله وأمام أنفسنا، وسنبين ذلك في السطور التالية.

ماذا تعني الديمقراطية؟

الديمقراطية ((Democracy)): كلمة يونانية الأصل تتكون من مقطعين: ((ديموس)) ومعناها: الشعب أو العامة، و((كراتوس)) ومعناها: سلطة. فهي تعنى – إذن- سلطة الشعب، وهذا هو جوهرها وإن تطورت بعد ذلك من مستوى الديمقراطية المحلية إلى مستوى الديمقراطية الإنسانية، أي خرجت من نطاق المدن الضيق إلى نطاق الدولة حتى عُرِفَت بأنها: ((حكم الشعب بواسطة الشعب من أجل الشعب))، أو ((حكم الشعب نفسه بنفسه))، فإرادة الأمة فى النظام الديمقراطي تعلو فوق كل إرادة، ولهذا فإن هذا النظام بعيد عن الاستبداد والفردية، ومن أجل ذلك يشعر المواطن في ظله بالأمن وينعم بالاستقرار، فحقوق الرعية مكفولة في النظام الديمقراطي، ومصالحهم هي من أهم أهداف هذا النظام، ولا يصعب على المرء – في ضوء ذلك- أن يتبين وشائج القربى الواضحة بين الديمقراطية ونظام الحكم في الإسلام، فلا شك أن غاية النظام الإسلامي هي صالح الأمة بالمفهوم الشامل لهذه الكلمة، كما أن ركيزة هذا النظام هي قاعدة ((الشورى)) التي تجعل الأمة عنصرًا فعَّالاً مؤثرًا في إدارة دفة الحياة السياسية في الدولة، وليست الشورى مجرد وسيلة لاختيار الحاكم، بل الشورى – فوق ذلك- هي أسلوب الحاكم في الحكم عندما تسلمه الأمة زمام أمورها، فالديمقراطية ونظام الحكم في الإسلام – إذن- يتشابهان إلى الحد الذي قد يغرى البعض بالقول إن النظام الإسلامي ليس إلا نظامًا ديمقراطيًّا في شكله ومضمونه.

لكن هذا القول ليس صحيحًا على إطلاقه، فمما لا شك فيه أن هناك فروقًا أساسية بين نظام الحكم في الإسلام والنظام الديمقراطي، وبدراسة النظامين بدقة نلحظ اتفاقهما في كثير من الجوانب، ولكننا نلحظ في الوقت نفسه تفرُّد الإسلام بجوانب تخصه وتجعله شيئًا يختلف عن الديمقراطية ويفوقها، ونحن – مبدئيًّا- مع من يرفضون جلب الأسماء المستوردة ومحاولة إلباسها لقيمنا ومبادئنا، فالاتفاق في جزئية أو أكثر مع أجزاء من نظام أو آخر لا يعنى بحال التورط في صب الإسلام كله داخل قالب أيديولوجي أو فكر شمولي كلى آخر.

إنه من باب التضليل المؤذى إلى أبعد الحدود أن يحاول الناس تطبيق المصطلحات التي لا صلة لها بالإسلام على الأفكار والأنظمة الإسلامية، إن للفكرة الإسلامية نظامًا اجتماعيًّا خاصًّا بها وحدها يختلف من عدة وجوه عن الأنظمة السائدة في الغرب، ولا يمكن لهذا النظام أن يُدْرَس ويُفْهَم إلا في حدود مفاهيمه ومصطلحاته الخاصة، وإن أي شذوذ عن هذا المبدأ سوف يؤدى حتمًا إلى الغموض والالتباس بدلاً من الوضوح والجلاء حول موقف الشرع الإسلامي تجاه كثير من القضايا السياسية والاجتماعية التي تشغل الأذهان في الوقت الحاضر.

أوجه التشابه بين الديمقراطية والنظام الإسلامي:

أما عن أوجه التشابه بين الديمقراطية ونظام الحكم في الإسلام، فنستطيع أن نحصرها في النقاط التالية:

1.    إذا كانت الديمقراطية تقوم على أساس عقد - أو لون من التعاقد - بين الحاكم والمحكوم، وأن الحاكم مسئول أمام شعبه عن تنفيذ الدستور، فذلك موجود في الإسلام، بل هو أساس نظام الحكم في الإسلام.

2.    إذا كان المراد بالديمقراطية تعريفها وحقيقتها حسبما أشرنا آنفًا، فذلك المعنى متمثل وموجود في نظام الدولة الإسلامية.

3.    إذا أُرِيد بالديمقراطية ما يقترن بها عادة من مبادئ سياسية واجتماعية، مثل: المساواة أمام القانون، وحرية الفكر والعقيدة، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، أو كفالة بعض الحقوق، مثل: حق كل مواطن في أن يحيا، وأن يستمتع بالحرية، وأن يتوفر له عمل كريم. فذلك كله يتكفل به الإسلام ضمن إطار مبادئه العامة.

4.    إذا قُصِدَ بالديمقراطية ما يستتبعها من وجوب تحقيق مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، فهذا واضح كذلك في نظام الدولة الإسلامية؛ ذلك أن التشريع يصدر أساسًا معتمدًا على الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة أو إجماع الأمة والاجتهاد، وكل هذا مستقل عن الإمام أو رئيس الدولة الإسلامية، بل هو مقيد وملزم به، أي أن السلطة التشريعية منفصلة عن السلطة التنفيذية التي يأتي على رأسها خليفة المسلمين. أما القضاء فهو أمر مستقل كذلك، فالقاضي يحكم وفقًا لقوانين الشريعة ودستور الإسلام، ولا يتأثر بهواه أو برغبة غيره حاكمًا أو غير حاكم، ففكرة الإجماع التي أشرنا إليها – فوق أنها من خصائص الشريعة الإسلامية- تؤكد أنه خُصِّصَ للأمة ولإرادة الشعب مكان في النظام الإسلامي يفوق ما يمكن أن نجده أو تناله الأمة في أي نظام ديمقراطي.

أوجه الاختلاف بين الديمقراطية والنظام الإسلامي:

وبرغم هذا التشابه أو التلاقي بين نظام الحكم في الإسلام والديمقراطية، فإن هناك فوارق واضحة بينهما، ومن الممكن إبراز أهم هذه الفوارق فيما يلي:

1.    المقصود بكلمة ((شعب)) أو((أمة)) في الديمقراطية الغربية: مجموعة الناس المحصورين في حدود جغرافية معينة، والذين تجمع بينهم روابط الدم والجنس واللغة المشتركة والعادات والتقاليد، ويوحدهم تاريخ واحد مستقل مشترك، فالديمقراطية عندهم تقترن بفكرة القومية أو العنصرية، ومن الواضح أن الوضع في الإسلام ليس كذلك، إذ إن الأمة - أو الشعب - ليست هي تلك التي يرتبط أفرادها بروابط الدم واللغة...الخ، ولكن الرابطة الإسلامية بين أفراد الشعب المسلم هي العقيدة التي يتجمع المسلمون حولها، وكل من اعتنق الإسلام وآمن بعقيدته فهو عضو في الدولة الإسلامية الكبرى، فنظرة الإسلام تنأى عن العنصرية وتقوم على العالمية والنظرة الإنسانية العامة الشاملة، يدل على ذلك قول الله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ (سورة سبأ، من الآية رقم 28)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم جَمِيعًا﴾ (سورة الأعراف، من الآية رقم 158)، وقوله تعالى: ﴿وَ مَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (سورة الأنبياء، الآية رقم 107).

2.    هدف الديمقراطية الغربية في كل مكان وزمان ينحصر في العمل على تحقيق أغراض دنيوية وتحقيق الرفاهية لشعب أو أمة معينة في نطاق هذه الحياة العاجلة، بينما يهتم النظام الإسلامي بالحياة الدنيا ويمنحها ما تستحقه من عناية، لكنه يضيف إليها أهدافًا روحية، جاعلاً هذه الأهداف هي الأساس: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا في الدُّنْيا وَمَالَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَن يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا في الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُم نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا، واللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (سورة البقرة، الآيات: 200-202)، فالآخرة هي الغاية عند الفرد المسلم الذي يقوم بكافة أعماله مبتغيًا وجه الله عز وجل وطالبًا رضوانه، والذي يحرص على تحقيق مطالبه الروحية، فالالتزام الديني أو التقوى في النظام الإسلامي أو القانون الأخلاقي هو المعيار الذي تقاس به أعمال الناس وتصرفاتهم.

3.    سلطة الأمة في النظام الديمقراطي سلطة مطلقة، لأن الأمة هي مصدر السيادة في هذا النظام، ومجلسها التشريعي هو الذي يضع القوانين ويلغيها، وما يصدر عنه واجب النفاذ حتى لو تعارض مع المبادئ الأخلاقية أو مع المصالح الإنسانية العامة، بل قد يترتب على القانون الذي تتخذه الأمة ممثلة في مجلسها التشريعي سفك دماء أو انتهاك حرمات الآخرين والاستيلاء على ممتلكاتهم واستنزاف خيراتهم دون وجه حق، ومع ذلك تُمْضِيه المجالس البرلمانية الديمقراطية الغربية ويلتزم شعبها بتنفيذه واحترامه. أما في النظام الإسلامي فسلطة الأمة ليست من هذا النوع المطلق بلا قيود، ولكنها سلطة مقيدة وملتزمة بالحدود الشرعية وبتعاليم الدين والدستور؛ لأن القوانين الإلهية الثابتة هي مصدر السيادة في هذا النظام، وليس في إمكان الأمة أن تبت في مسألة من المسائل إلا معتمدة على القانون، أي مصادر التشريع الإسلامي.

وبهذا يتضح لنا أن النظام الإسلامي لا يغفل دور الأمة في إدارة شئونها، ولكنه لا يغفل أيضا القواعد والضوابط التي تحكم الأمة في تصرفاتها.

ويمكن تلخيص هذه القواعد على النحو التالي:-

‌أ-     السيادة في الدولة الإسلامية لله تعالى متمثلة في أحكام شريعته الخالدة التي يتعبد الناس بها.

‌ب-  الأمة مسئولة عن تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية لأنها حاملة الأمانة والمخاطبة بأحكام الشريعة.

‌ج-  الأمة تختار الحاكم الذي ينوب عنها في تنفيذ أحكام الشريعة وسياسة الأمور الدنيوية على مقتضاها، وذلك لأن الأمة مجتمعة لا تستطيع أن تقوم بهذه المهام.

‌د-   الحاكم لا يمارس سلطاته نيابة عن الله تعالى وإنما نيابة عن الأمة، ولذلك فللأمة الحق في مراقبته ومناصحته ومحاسبته وعزله إن اقتضى الأمر.

‌ه-   لا سيادة ولا وصاية لفرد من الأفراد ولا لطبقة من الطبقات على الأمة.

4-  النظام الديمقراطي ينظر إلى مصلحة الأمة في ضوء الحدود الإقليمية أو العنصرية الضيقة ويتجاهل ما وراءها من مصالح البشر. أما المصلحة في النظام الإسلامي فلها مفهوم أشمل وأكثر إنسانية مما هو عليه في النظام الديمقراطي، فالنظام الإسلامي ينظر إلى المصلحة بمفهومها الإنساني العميق، ومن هنا فإن المصلحة التي تتعارض مع مبدأ أخلاقي عام يرفضها النظام الإسلامي رفضًا قاطعًا. وفى ظل هذا التوجه فقد أباحت النظم الديمقراطية الحديثة استغلال الشعوب وإذلالها واستنزاف ثرواتها؛ تحقيقًا لمصالح إقليمية أو عِرْقِيَّة خاصة، بينما نهى الإسلام عن اللجوء إلى الظلم حتى مع الأعداء، فقال تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا﴾ (سورة المائدة، من الآية رقم 8)، وهكذا ألغى الإسلام المصلحة التي لا تضبطها مبادئ الدين وتوجيهاته على حين أباحت الديمقراطيات الحديثة المصلحة الخاصة ولو ترتب عليها شقاء الآخرين ممن لا ينتمون إليها. فالنظام الإسلامي إنساني النزعة، والديمقراطيات الحديثة إقليمية الطابع أنانية المَنْحَى.

وبهذا يتضح أن نظام الحكم في الإسلام إذا اتفق مع الديمقراطية في بعض الوجوه الأساسية، فإنه يختلف معها في وجوه أخرى كثيرة وأساسية أيضًا، فالنظام الإسلامي نظام فريد متميز لا يتطابق مع أيٍّ من أنظمة الحكم المعاصرة وإن اتفق مع بعضها في بعض الجوانب، لكن هذا لا يبرر إسقاط أيٍّ من هذه النظم الوضعية على النظام الإسلامي، فالنظام الإسلامي بينه وبين الديمقراطية وجوه شبه قوية، ولكنه يختلف معها في نقاط أساسية، وإذا كان لا يصلح أن نستورد المصطلحات من هنا وهناك ونحاول أن نلبسها للنظام الإسلامي لأن هذا يؤدي إلى التدليس والتضليل، فمن الأَوْلَى أن يعرف نظام الحكم في الإسلام باسمه الخاص به، وهو أنه «نظامٌ إسلاميٌّ». 

د/ محمد علي دبور

كلية دار العلوم – جامعة القاهرة

وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

[email protected]

 

 

المصدر: مقال شخصي

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

80,475