الإسلام والاستبداد السياسي
من الأهداف العليا لرسالة الإسلام احترام الإنسان وتكريمه وإعطاؤه المكانة اللائقة به، وللوصول إلى هذه النتيجة حث الإسلام على احترام العقل، واحترام الإرادة، واحترام الرأي الآخر، فالإنسان في الفكر الإسلامي من حقه أن يفكر، من حقه أن يختار، من حقه أن يعبر عن رأيه، فلا حجر على التفكير، ولا مصادرة لرأي مهما كان، ولا أدل على ذلك مما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وهو النموذج المثالي لتطبيق المفاهيم الإسلامية على أرض الواقع، وما كان يفعله خلفاؤه الراشدون من بعده، حيث كان احترام الحريات والآراء أصل كبير لا يمكن الاعتداء عليه، فالإنسان من وجهة النظر الإسلامية مفطور على الحرية، ونستحضر هنا كلمة عمر بن الخطاب الخالدة لعمرو بن العاص: ((مُذْ كَم تَعَبَّدْتُم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)).
والنماذج على احترام حرية الرأي، أو ما يمكن أن نسميه بالحرية السياسية، كثيرة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه الراشدين، ويكفى أن نشير إلى ما حدث في صلح الحديبية؛ فقد كان من شروط هذا الصلح أنه ((من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه، ردَّه عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردُّوه عليه))، ولم يرق ذلك الشرط لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذهب لمناقشته مع أبى بكر الصديق رضي الله عنه، ولما لم يجد عند أبى بكر جوابًا، أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألستَ برسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى. قال عمر: أو لسنا بالمسلمين؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى. قال عمر: أو ليسوا بالمشركين. قال صلى الله عليه وسلم: بلى. قال عمر: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني)). قال: فكان عمر يقول: ((ما زلتُ أتصدق وأصوم وأصلى وأعتق من الذي صنعتُ يومئذٍ مخافةَ كلامي الذي تكلمتُ به، حتى رجوتُ اللهَ أن يكون خيرًا)).
ففي أي نظام من الأنظمة الحديثة تجد مثل هذا النوع من الحرية في التعبير عن الرأي والمعارضة السياسية لموقف أو لرأى القائد الأعلى للدولة الإسلامية؟!!.
ولم يجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرجًا أو غضاضة في بيان وجهة نظرهم في جميع مواقف السلم والحرب والمعاهدات، بل وفى الشئون الخاصة، وكثيرًا ما نزل صلى الله عليه وسلم عن رأيه لرأى أصحابه، ومن المؤكد أنهم لم يكونوا يستطيعون ممارسة هذا الحق من الحرية دون خوف من بطش أو انتهاك حرمة لولا إيمانهم العميق ومعرفتهم الدقيقة بأن الإسلام كفل لهم هذا الحق، بل وأمرهم به.
كما أنه ليس أدل على ابتعاد الإسلام عن الاستبداد من وجود ((مبدأ الشورى))، وقد دلَّت سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية على كثرة مشاورته لأصحابه، فشاورهم في مسائل عامة تتعلق بالجهاد وغيره، كما شاور بعضهم في أمور خاصة ومتعددة، وشاور خلفاؤه الراشدون من بعده، وجاءت آثار السلف في الحض على ذلك والترغيب فيه، والناظر في المجتمع الإسلامي في الصدر الأول يجد أن المشاورة كانت أمرًا فاشيًا وسلوكًا حميدًا عند عامة المسلمين، يَتَّبِعونه في أمورهم العامة والخاصة، والوقائع بذلك كثيرة جدًّا.
إننا عندما نتأمل في هذه المبادئ الإسلامية السامية يقفز إلى أذهاننا سؤال مهم: أين نحن من هذه المبادئ؟ ولماذا غابت عنا وعن مجتمعنا وعن حكامنا؟ إنه التغريب ومحاولات سلخ الأمة عن دينها وقيمها ومبادئها، إننا – من خلال واقعنا المعاصر وحتى هذه اللحظة - لم نر أو نعرف حرية الرأي، أو احترام الإرادة، أو حرية الاختيار، فكل شيء – سياسيًّا – كان مفروضًا علينا، وهذا جزء من الديكتاتورية التي عاصرناها ولم نعرف غيرها في ميدان السياسة، فإذا ما تحدثنا هذه الأيام عن الديمقراطية أو الحرية أو العدالة فإننا نتحدث عن شيء لم نعشه ولم نجربه في عصرنا الحديث، وإنما نتحدث عن شيء رأيناه عند غيرنا، ونتمنى أن يكون عندنا، رغم أنه من ثوابت ديننا، فاحترام الحريات واحترام الإرادة الشعبية، وشيوع العدالة، والنهي عن الاستبداد كلها – كما ذكرنا - مبادئ إسلامية، دعا إليها الإسلام لاستقرار الدولة ونهوض المجتمع.
إن الإسلام لا يعرف الاستبداد السياسي، أو بالمصطلح المعاصر، لا يعرف الديكتاتورية أو الأوتوقراطية المعروفة في الفكر الغربي، فالأوتوقراطية ((Autocracy)): نظام في الحكم يقوم على الاستبداد والتعسف ((والسابقة Autoمعناها: ذاتي))، فالأوتوقراطية تعنى حرفيًّا حكم الفرد، ومرادفها: الديكتاتورية ((Dictatorship)) التي تعنى إملاء الإرادة، فهذا النظام يتجاهل إرادة المحكومين، وهو الذي سمَّاه المفكر الكبير ابن خلدون ((الملك الطبيعي))، وعرَّفه بأنه: «حمل الكافة – أي الناس- على مقتضى الغرض والشهوة»، وهو يقصد بالطبيعة: الغريزة أو ما رُكِّبَ في الفرد من ميول وأهواء غريزية: كحب الذات، والرغبة في الاستعلاء أو الاستبداد، والسعي إلى تحقيق المطامع الفردية المبنية على الأثرة والأنانية.
إذن، فهذا النوع من الحكم هو حكم استبدادي يقوم بتحقيق رغبات وأهواء وغرائز المتحكِّمين، وهو نوع مذموم كله؛ إذ إنه هو نفسه ما نسميه اليوم بالحكم الاستبدادي، أو الحكم المطلق، أو الحكم الفردي، أو الحكم ((الأوتوقراطي))، أو الحكم غير الدستوري، وعواقبه الفوضى والشقاق وعدم الاستقرار، ثم انهيار الدولة.
إن الواقع السياسي لحكام المسلمين وما يقوم عليه من الاستبداد والطغيان بعد أن تحولت الخلافة الإسلامية إلى ملك عضوض جعل بعض المستشرقين يظنون أن الإسلام لا يعرف إلا الاستبداد والديكتاتورية لإدارة شئون الدولة الإسلامية، ولو قرءوا عن الإسلام في مصادره الأساسية، وعرفوا تاريخ الإسلام من خلال فترة النبوة والخلافة الراشدة لأدركوا أن مبادئ الإسلام وقيمه لا تدعو أبدًا إلى الاستبداد بالرأي وفرض الإرادة على المحكومين.
لقد اتجه بعض المستشرقين غير العارفين بتاريخ الإسلام وتراثه مثل: موير وماكدونالد وآرنولد ومرجليوث وغيرهم إلى وصف نظام الحكم الإسلامي بأنه حكم الفرد ((حكم أوتوقراطي))، وأنه نظام استبداديٌّ مطلق، وأن المسلمين لم يعرفوا على مدى تاريخهم الديمقراطية ولا مبدأ الأغلبية حتى تعلموا شيئًا من هذه المبادئ بعد أن وصلت إليهم موجات الحضارة الأوروبية ومبادئ الثورة الفرنسية.
يقول المستشرق "موير" Muir في كتابه ((الخلافة)): ((المثال والنموذج للحكم الإسلامي هو الحاكم المستبد المطلق))، أي إن حكومة الإسلام عنده حكومة استبدادية أوتوقراطية.
ويذهب هذا المذهب المستشرق ((ماكدونالد)) Macdonald في كتابه ((تطور الفكر السياسي الدستوري في الإسلام))، حيث يرى أنه ((مع بعض القيود يلزم أن يحكم الإمام كحاكم مطلق ... ولا يمكن – على الإطلاق- أن يكون الإمام حاكمًا دستوريًّا بالمعنى الذي نعرفه)).
أما ((آرنولد)) Arnold في كتابه ((الخلافة)) فيرى أن: ((الخلافة التي اعْتُرِفَ بها هكذا (من جانب علماء الشريعة) كانت نوعًا من الحكومة المستبدة الجائرة التي يتمتع الحاكم فيها بسلطة غير مقيدة بقيود، ويطلب من الرعايا أن تطيعه بدون تردد)).
ويسير في الاتجاه نفسه المستشرق ((مرجليوث)) Margolliouth ويوضح رأيه أكثر من غيره في كتاب له عن الإسلام، فيقول: إنه يمكن أن يقال إن مبدأ الحكومة الأوتوقراطية –الاستبدادية- قد ظل مُسلَّمًا به، لا يجادل أحد فيه في الأقطار الإسلامية حتى القرن التاسع عشر، وذلك حين وصلت الموجة التي صُدِّرت عن الثورة الفرنسية – عن طريق تركيا- إلى المنطقة الحارة - يقصد منطقة الشرق الأوسط - كما يزعم أن كلمات ((أكثرية)) و((صوت)) و((انتخاب)) لم تُعْرَف في الشرق الأوسط إلا حديثًا حين أُدْخِلت إلى اللغات الإسلامية من اللغات الأوروبية، ثم يستمر في مزاعمه فيقرر أن الإسلام لم يظهر فيه رجال فقه دستوري حتى القرن التاسع عشر، وأن الإسلام لم يعرف الديمقراطية، لأن الشورى التي دعا إليها هي الاستشارة فقط، وليست هناك سلطة يكون الإمام مسئولاً أمامها، وأيًّا كان الحكم الذي يستقر الرأي على الاعتراف به فإن الرعايا المسلمين ليست لهم أيةُ حقوق على رئيس الجماعة، والحاكم أيضًا ليس مسئولاً أمام أحد - على حدِّ زعمه.
إن هذه النصوص تعطينا تصورًا عن نظرة الغرب إلى النظام السياسي عند المسلمين، وهي نظرة تبناها الغربيون جيلاً بعد جيل، ولا شك أنها نظرة مغلوطة عن الإسلام ونظام الحكم الإسلامي، وقد انزلق هؤلاء المستشرقون إلى هذا التصور الخاطئ لأنهم نظروا إلى الحكم الإسلامي في العصور المتأخرة، أو في عصور الانحطاط، عندما تحول الحكم الإسلامي الرشيد إلى ملك استبداديٍّ، وارتكب حكام المسلمين الظلم ضد رعاياهم، وهذا الواقع لا يُعَدُّ حجة على الإسلام ولا يمثل نظرية الإسلام في الحكم، والمستشرقون بذلك يخلطون بين الإسلام- دستورًا وقانونًا وأفكارًا تُسْتَمَد من المصادر التشريعية الأصيلة- وما حدث في العالم الإسلامي، فهل تُسْتَمَدُّ مبادئ المسيحية السمحة مما فعله المسيحيون ويفعلونه من استعمار وسفك دماء وتقتيل ومن تسابق في اختراع كل ألوان الدمار والقضاء على الآمنين الأبرياء؟!!.
إن من خطأ بعض المستشرقين أنهم يحكمون على الإسلام دائمًا من واقع المسلمين الحالي، فهم لا يصورون الإسلام من منابعه ومصادره، بل يصورونه من واقع المسلمين السيئ، وهم يعمدون إلى اختيار البيئات الإسلامية التي نالها أكبر قسط من الضعف والتفكك ومخالفة الشرع ويجعلونها نموذجًا للإسلام، وبالتالي فحكمهم على الإسلام يأتي من واقع خيالهم أو من أخطاء حكومات الواقع المستبدة التي حكمت البلاد الإسلامية، وكان قيامها نفسه، وكثير من أعمالها، مخالف للشريعة، وعلى الباحث الذي يريد معرفة رأى الإسلام أن ينظر في مبادئ الشريعة نفسها وقواعدها، وأن يعرف كيف طُبِّقت هذه المبادئ وتلك القواعد في حياة المسلمين الأوائل.
ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء لإثبات أن هذا النظام الذي يتحدث عنه هؤلاء المستشرقون ومَن شايعهم بعيدٌ تمامًا عن منهج الإسلام، وكل ما زعموه إن هي إلا افتراءات بغير دليل، وتحامل متعمد لا يرقى إلى مستوى البحث العلميّ الموضوعيّ، فمن المعروف أن من القواعد الأساسية لنظام الحكم في الإسلام: العدل والشورى والحرية ورقابة الأمة على الحاكم، ولا يمكن في ظل هذه القواعد الراسخة أن يتهيأ المجال لنشأة أي نظام أوتوقراطيٍّ مستبدٍّ، بل إن مبدأ الطاعة ذاته في الإسلام – وهو حق للحاكم على الرعية- مشروط بالتزام الحاكم بأوامر الله ونواهيه، فإن لم يفعل فلا سمع له ولا طاعة، ومن هنا يفقد الحاكم مبرر وجوده في الحكم.
أما دعواهم أن المسلمين لم يعرفوا مبدأ ((الأغلبية)) أو ((الأكثرية)) إلا بعد أن عرَّفته لهم أوروبا، فيدحضها – مثلاً- قول كقول الإمام أبى حامد الغزالي في كتابه ((فضائح الباطنية، ص 102)): ((أنهم – يعنى المسلمين- لو اختلفوا في أمر من الأمور وجب الترجيح بالكثرة، والكثرة في الأتباع والأشياع وتناصر أهل الاتفاق والإجماع أقوى مسلك من مسالك الترجيح، فإن وُلِّىَ عدد موصوف بهذه الصفات – يعنى الصفات الواجب توافرها فيمن يُختار خليفة- فالإمام من انعقدت له البيعة من الأكثر....)).
فهل هناك نص على اعتبار مبدأ الأغلبية عند المسلمين أوضح من هذا؟!.
وقال الإمام الماوردى في كتابه ((الأحكام السلطانية، ص 103)) وهو بصدد الحديث عن اختلاف أهل المسجد حول اختيار إمام للصلاة: ((وإذا اختلف أهل المسجد في اختيار إمام، عُمِل على قول الأكثرين)).
إذن فقد أقر فقهاء المسلمين بمبدأ ((الأغلبية))، وإن كانوا قد سموه تسمية أخرى مشهورة هي ((رأى الجمهور)) والجمهور لا تعنى إلا الأكثرية أو الأغلبية، ويمثل حزب الأغلبية أو مذهب الأغلبية في الإسلام ((أهل السنة والجماعة))، فهل بعد هذا كله يقال إن المسلمين لم يعرفوا ما ذُكِرَ من كلمات إلا في القرن التاسع عشر الميلادي؟ فهل عاش الماوردى وابن خلدون والنسفى والبغدادي والشهرستانى والغزالي وابن حزم والرازي وغيرهم بعد القرن المذكور، أو ألفوا الثروة الفكرية التي خَلَّفُوها بعد الثورة الفرنسية، حتى يقال إنه لم يظهر بين المسلمين رجال فقه دستوري حتى قامت هذه الثورة وصَدَّرَتْ إلينا هذا الفكر؟
أما دعوى مرجليوث بأن الإسلام لم يعرف الديمقراطية لأن الشورى تعنى الاستشارة فقط، وليست هناك سلطة يُسأل الإمام أو الحاكم أمامها، فلعله لا يعرف أن للأمة حقَّ عزل الحاكم وإعادته إلى جادة الطريق إذا ما حاد عن المنهج الصحيح، بل هذا واجبها، وأن القانون الإسلامي يحدد علاقة الحاكم بالمحكومين، ويوضح الحقوق والواجبات لكلا الطرفين سواءً بسواء.
أما دعوى هؤلاء بأن الحكومة الإسلامية حكومة أوتوقراطية، وأن الحاكم فيها يتمتع بسلطات مطلقة، فلا أساس لها من الصحة، فكل المسلمون مجمعون على أن سلطة الإمام مقيدة، وأن مهمته تنحصر في تنفيذ الشريعة، وأن الأمة رقيبة عليه وعلى عمله وتصرفاته، والقول بأنه واجب على الفرد المسلم أن يطيع الحكومة الاستبدادية التي يرأسها الإمام، هو أبعد الأقوال عن الصواب، فالخليفة الأول للدولة الإسلامية ((أبو بكر الصديق رضي الله عنه)) وضع حدودًا للطاعة فقال في أول بيانٍ سياسيٍّ له: ((أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإن عصيتُ فلا طاعة لي عليكم)).
ونخلص من ذلك كله إلى أن نظام الحكم في الإسلام أو النظام السياسي الإسلامي بعيدٌ كل البعد عن ((الأوتوقراطية)) – الديكتاتورية - القائمة على الاستبداد وتجاهل إرادة المحكومين وكرامتهم، وأنه وضع من القواعد ما يضمن لكل طرف – الحاكم والمحكوم – حقوقه وواجباته دون إفراط أو تفريط، وإذا كانت قراءة الواقع السياسي الحالي للمسلمين لا تشهد بذلك، فليس العيب في الإسلام ومبادئه وقيمه، وإنما العيب – كل العيب – في حكام المسلمين الذين تخلوا عن مبادئ دينهم وتمسكوا بما يحقق مصالحهم ويشبع أنانيتهم وإن كان ذلك على حساب رقاب كل المسلمين.
د/ محمد علي دبور
كلية دار العلوم – جامعة القاهرة
وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ساحة النقاش