المتآمرون على الثورة
عندي ظن يكاد يصل إلى درجة اليقين أن هناك خلف الكواليس مَن يُحَرِّك دفة الأمور ومسار الثورة إلى جهة غير معلومة، أو قل: إلى جهة لا تحقق المطالب التي قامت من أجلها الثورة المباركة التي تريد للشعب الكرامة والحرية والعدالة، وكأنهم يريدون للثورة أن تموت، ويراهنون على ذلك بطول الفترة الزمنية؛ لأن الشعب ينسى، والثائر يهدأ، والحماس يفتر، والهمة تخمد، والعزيمة تخور، والمطالب تتراجع، لكل هذا أشعر – ويشعر معي كل المتابعين لتطورات الأمور في مصر المحروسة – أن السير بخطى السلحفاة لتحقيق مطالب الثورة سيرٌ متعمَّد وليس بريئًا، وكأن الطرف المناوئ للثورة في الخفاء يريد أن يستفيد من هذا البطء في لملمة أموره وترتيب أوراقه وإجراء المشاورات اللازمة مع الأطراف المتآمرة على الثورة والثوار، وإعداد الخطة الملائمة التي سيفاجئ بها الشعب، وعندها لن يستطيع أن ينبس ببنت شفة، أو يُحَرِّك ساكنًا.
لماذا لا يريدون لهذا الشعب الكريم أن يهنأ بحياة، أو يسعد باستقرار، أو يفرح بحرية؟ أما كفاهم ما عاناه لسنوات وسنوات من الظلم والقهر والكبت والطغيان؟ لماذا نشعر أن كل المسئولين - يومًا بعد يوم - يدخلون في دائرة التآمر على هذا الشعب؟ لماذا انعدمت الشفافية والثقة بين الشعب والمسئولين؟ إحساس يزداد يومًا بعد يوم، ومهما حاولنا أن نكذِّب أنفسنا، ونغلِّب جانب حسن الظن على جانب الاتهام، تأتينا الأحداث وتطورات الأمور بما يؤكد أننا - نحن الشعب – في وادٍ وأن الحكومة والمجلس العسكري في وادٍ آخر، وكأنهم يعالجون مشاكل بلد آخر، ويستمعون – إن كانوا يستمعون - إلى أوجاع شعب آخر، ويجتمعون مع قوى سياسية أخرى موجودة على كوكب آخر وليست على أرض مصر.
لماذا لا تعترف الحكومة أنها عاجزة عن تلبية مطالب الشعب وحل مشاكله، فتتنحى لتترك المجال لشرفاء آخرين يستطيعون الخروج بالشعب المصري من تلك الأزمة؟ أم أعجبتهم الكراسي التي يجلسون عليها، وعادت ظاهرة الالتصاق بالكراسي إلى عهدها القديم؟ ولماذا لا يعترف المجلس العسكري أن دوره الوحيد كان المحافظة على دماء المصريين فقط، أما تحقيق مطالب الثورة وتغيير النظام وتسليم السلطة إلى حكومة مدنية، فإنه لن يستطيع القيام بهذا الدور لأنه جزء من هذا النظام؟ وإذا كنا نريد أن نتحدث بصدق، فإن المجلس العسكري لم يقدم شيئًا للثورة حتى الآن، وكل ما قدمه هي المماطلة والتسويف، وكأنه ينتظر أن يحصل مبارك على البراءة ويعود إلى القصر الجمهوري من جديد، وبالتالي يعود كل شيء إلى ما كان عليه قبل الثورة.
إنه رغم مرور تسعة أشهر على أحداث الثورة، فإن كل التطورات تصب في صالح المأجورين الذين يدعون أنهم أنصار مبارك وفي صالح المجلس العسكري كذلك، ولا تصب في صالح الثورة والمصريين، هل هذه مصادفة، أم أن هذه هي النتيجة التي يريد المتآمرون الوصول إليها؟ أليس في الحكومة والمجلس العسكري رجل رشيد أمين يرفض التآمر على أحلام هذا الشعب وآماله، فيتقدم باستقالته ويفضح الخطط الخفية، ويكشف تفاصيل خيوط المؤامرة على هذا الشعب؟
ويزيد من هذا الشعور المخيف عندي ما تسير عليه وتيرة المحاكمات، أشعر أنها مسرحية هزلية الغرض منها تخدير الشعب وإسكاته، أو قل: استغفاله والضحك عليه، فحتى الآن لم يصدر حكمًا واحدًا يروي غلة هذا الشعب ويذهب غيظ قلبه ويشفي صدور الموجوعين من أبنائه، وكأن رموز الفساد في النظام السابق مظلومون، أو تجنينا عليهم واتهمناهم ظلمًا بالفساد والإفساد، وأن الفساد الذي عم أنحاء البلاد حدث فيها دون متسبب، أو أن هذا هو قدر مصر والمصريين، أعلم تمامًا أن كل واحد من مجرمي النظام السابق أمَّن نفسه تمامًا بعد أن نهب ما نهب، وأفسد ما أفسد، وأنهم نجحوا في إسكات كل الأصوات من حولهم، كي لا تنكشف عورتهم، ولا ينفضح أمرهم، لكن الله لهم جميعًا بالمرصاد.
ثم تأتي مسرحية سرير مبارك لتكمل فصول المؤامرة على هذا الشعب الطيب، إن كُتَّاب مسرحية المؤامرة يراهنون على عاطفة هذا الشعب، وبالتالي لجئوا إلى وسائل عديدة لدغدغة عواطف المصريين، فكان من هذه الوسائل وجود سرير مبارك، وإصراره على دخول قاعة المحاكمة وهو ممدد عليه، ليقول الناس: مسكين، أو حرام عليكم، أو ارحموا عزيز قوم ذل، أو....الخ، لكن دعونا نقول شيئًا: هل مرض مبارك فجأة بعد تنحيه؟ أم كان مريضًا منذ فترة طويلة، وشاهدنا وعاصرنا ذهابه أكثر من مرة للعلاج خارج مصر وأحيانًا داخلها؟ ورغم بلوغه من الكبر عتيًّا إلا أنه كان يخرج علينا في كل خطاباته وكأنه شاب في الثلاثين من عمره، مع تصفيف الشعر وأحيانًا صبغه، والتحدث بقوة وكأنه لم يمرض ولم يُصب بشيء، وكان يجتهد هو وجنوده في إخفاء أية معلومات تتعلق بصحته حتى يظل في كرسي الحكم دون لغط أو اعتراض.
يا تُرى ما الذي حدث الآن؟ أو ما الذي تغير؟ إنه حتى الآن لم يُحاكم، وبالتأكيد أنه يجلس في مستشفى خمسين نجمة أو قل ما شئت من النجوم، ويستطيع أن يفعل ما كان يفعله سابقًا، لكن كل ما في الموضوع أنه هكذا وُضعت الخطة للضحك على شعب مصر الطيب، لذا أرجو من المصريين ألا يسمحوا لأحد أن يخدعهم أو يضحك عليهم، وستثبت الأيام أننا كنا نعيش في خدعة كبيرة، وعندها ستكون صدمتنا أكبر وجرحنا أعمق.
وهنا نريد أن نسال سؤالاً مهمًّا: لماذا يُحَاكَم مبارك الآن؟ كلنا يتابع ما يتناثر من أخبار عن محاكمته، وكلنا يعرف أنه يُحَاكَم الآن بتهمة قتل المتظاهرين، والمثير للانتباه في هذا الصدد أن مبارك يُحَاكَم الآن على شيء حدث بعد الثورة، وكان من المفترض – أيها المصريون – أن يُحَاكَم على الأسباب التي قامت من أجلها الثورة، وكان منها: الفساد السياسي وإفساد الحياة السياسية، الخراب الاقتصادي التي تعاني وستعاني منه البلاد لعقود قادمة، إفقار الشعب وتجهيله وتجاهله... الخ، لكن – للأسف الشديد – تم اختزال كل مفاسد مبارك في قتل المتظاهرين، وجلسنا مجلس المتفرج في انتظار ما ستسفر عنه هذه المحاكمة الهزلية التي ستطول وتطول لشهور وشهور حتى ينسى الشعب، ثم تكون المحصلة في النهاية صفرًا، وسنشاهد خروجه من هذه التهمة كما تخرج الشعرة من العجين – كما يقولون - وساعتها سندرك ما كنا عليه من الغفلة، ونُفيق من نومنا بعد أن يفوت الأوان.
إن غالبية الشعب المصري الآن لا تستطيع أن تعرف ما يحدث في مصر، ولا تفهم تطورات الأمور ومآلات الأحداث، فكل شيء أصبح غامضًا، لا يستطيع أحد أن يجزم بشيء، ومن المؤكد أن السبب الرئيس في ذلك هو طبخ السيناريوهات خلف الأبواب المغلقة، وانعدام الشفافية بين الشعب والمسئولين سواء من الحكومة أو من المجلس العسكري، وكأن الذين احتلوا مناصب في الحكومة أو الذين تحكموا في مصير البلاد من أعضاء المجلس العسكري هم – فقط – الذين يحسنون التفكير والتخطيط لمستقبل مصر، وأن بقية الشعب مسكين ليس له حظ من هذه العبقرية، وأن عليه أن ينتظر ما تجود به قرائح المسئولين عن إدارة شئون البلاد.
إن المجلس العسكري يتحمل مسئولية هذا الغموض في المقام الأول، ويبدو من خلال ما يتناثر من المعلومات أنه يريد تحويل دفة الأمور لصالحه والسيطرة على مقاليد الحكم، وأن التظاهر بالزهد في الحكم هو جزء من خدعة كبيرة وقع الشعب في حبائلها عندما ظن أن هذا المجلس يستحق الثقة، ثم تثبت الأحداث يومًا بعد يوم أن المجلس العسكري يستغل هذه الثقة أسوأ استغلال، وفي أحيان كثيرة تغلب عليه الديكتاتورية التي اعتاد عليها، رغم تظاهره بأنه أبعد ما يكون عنها، وليس أدل على ذلك من إصداره لقانون الانتخابات الأخير بعيدًا عن التشاور مع القوى السياسية، وكذلك فرضه لحالة الطوارئ رغم إعلان رجال القانون وفقهاء الدستور أنها انتهت ولا يجوز مدها إلا باستفتاء شعبي، لكنهم أعلنوها وفرضوها على الشعب بطريقة: ((اللي مش عاجبه يخبط دماغه في الحيطة))، وهذه السياسة ليست جديدة علينا – نحن المصريين – فهي جزء من السياسة العامة التي اعتدنا عليها أيام النظام البائد الذي كان يرى أن الشعب مجموعة من ((القُصَّر)) الذين لا يؤبه لهم ولا يُعْتَدُّ برأيهم ولا حتى بوجودهم.
وحتى لا نسمح للمغرضين بالمزايدة فإننا عند حديثنا عن المجلس العسكري يجب أن نفرِّق بين أمرين مهمين، بين المجلس العسكري المكون من مجموعة من القيادات المعدودة وبين الجيش المصري كجهاز عسكري متكامل، إن الجيش المصري له من المصريين كل التحية والتقدير ولا يستطيع أحد أن يزايد على وطنيته، وأنه مليء بالمخلصين الشرفاء الذين ضحوا – وما زالوا يضحون – من أجل هذا الوطن، ويتمنون له الأمن والاستقرار والرخاء والحياة الكريمة، أما المجلس العسكري فهو عبارة عن مجموعة من القيادات التي كانت في حقيقة الأمر صنيعة النظام البائد، ويدينون بالولاء لهذا النظام ويعترفون بفضله عليهم، لذلك فإنه ليس من العقل أن نتوقع أن يكون خلاصنا على أيديهم، ورغم ذلك فإن الشعب المصري صبر كثيرًا وانتظر كثيرًا، وغلَّب حسن النية على كل الهواجس، منتظرًا لنتيجة ترضي طموحه وتحقق آماله، لكن كل النتائج جاءت محبطةً ومخيبةً للآمال، ولم تتحرك بالثورة إلى الأمام خطوة واحدة.
إن اغلب الإجراءات التي تم اتخاذها حتى الآن هي إجراءات ديكورية لا يمكن أن تُسْلِم إلى حياة ديمقراطية ولا تمثل خروجًا حقيقيًّا من الأزمة التي يعيشها الوطن الآن، بالإضافة إلى المماطلة والتسويف في تحقيق مطالب الشعب، وكأن تحقيق هذه المطالب منةٌ من المجلس العسكري لهذا الشعب المسكين وممثليه من الأحزاب والقوى السياسية، صحيح أن هذا المجلس تراجع عن عدد من القرارات التي اتخذها بليل، لكن هذا التراجع كان بسبب ضغوط الشعب والقوى السياسية، ولولا هذه الضغوط لفعل المجلس العسكري ما يحلو له، ولدخلنا في نفق مظلم لا يمكننا الخروج منه إلا بعد سنوات وسنوات.
نحن حتى هذه اللحظة لا ندري ماذا يريد المجلس العسكري؟ وإلى ماذا يخطط؟ ولماذا لا يحترم ثقة الشعب المصري فيه، فيسرع بتحقيق مطالبه، وتسليم السلطة إلى ممثليه الحقيقيين؟
ثم تأتي المؤامرة الكبرى من وزارة الداخلية التي لا ندري حتى الآن ماذا قدمت لمصر والمصريين؟ وهل استطاعت أن تحقق الأمن والأمان للمصريين؟ إن كل الشواهد تقول إن الشارع المصري ما زال يفتقر إلى الأمن والأمان، ومازال البلطجية يعيثون في الأرض فسادًا بحرية تامة، ونحن لا نستطيع أن نصدق أن قيادات الداخلية بحدهم وحديدهم وسطوتهم وجبروتهم التي كانوا يتعاملون بها مع شعب مصر المسكين أيام النظام السابق، لا نصدق أنهم لا يعرفون هؤلاء البلطجية فردًا فردًا، وكذلك يعرفون أماكن تواجدهم ونشاطهم الإجرامي، وكأن تسليط هؤلاء البلطجية على الشعب أمر مقصود ليسوموه سوء العذاب، فتكون النتيجة أن يترحم الشعب على الأيام الخوالي رغم ما كان فيها من الظلم والظلام.
إن هؤلاء البلطجية لا يروعون أفراد الشعب فقط ويحرمونه من نعمة الأمن والأمان، بل إن هدفهم الأهم وهدف من يخطط لهم ويحدد لهم خطوط سيرهم هو إيقاع الفتنة بين أفراد الشعب بطوائفه المتعددة، سواء كان إيقاع الفتنة بين الجيش والشعب من ناحية، أو إيقاع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين من ناحية أخرى، وأحداث ماسبيرو الأخيرة ليست عنا ببعيد، وقد أثبتت لنا عجز الحكومة عن مواجهة مثل هذه الأحداث، فضلاً عن افتقارها إلى رؤية شاملة لكل ما يجري على أرض مصر.
إن هذه الثورة لن تحقق أهدافها وتصل إلى مبتغاها إلا إذا نجح الثوار والمخلصون من أبناء هذا الوطن في تحديد الأطراف المتآمرة على الثورة والثوار، وكفانا تعليقًا لعجزنا على شماعة الأيدي الخارجية التي تعبث بأمن البلاد، فكلما وقعت البلاد في فتنة أو أزمة سارعت أصابع الاتهام بالإشارة إلى الأيدي الخارجية، إننا يجب علينا قبل الإشارة إلى الأيدي الخارجية أن نعرف أعوانهم في الداخل، إن أطراف الخارج لن يستطيعوا أن يحققوا ما يريدون إلا إذا كانت هناك عناصر داخلية تنفذ لهم مخططهم لإجهاض الثورة وتخريب مصر وإشعال الفتنة بين أبنائها.
إننا لا نبتغي من وراء هذا النقد والتحليل للأحداث التي مرت بها البلاد إلا أن نقف على أخطائنا ونصحح مسارنا وننتبه إلى الأخطار المحدقة بنا وبثورتنا وببلدنا الحبيب، فتشخيص الداء أول طريق العلاج.
د/ محمد علي دبور
كلية دار العلوم – جامعة القاهرة
وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ساحة النقاش