1
هذه السياج قد تواري خلفها الظل ،ووشوشة الرياح التي تهب من أجناب السماء تراقص أعواد الذرة الطرية وكأن جسد غريب يشق أحشاءها ، منذ شرك الشمس لأحضان الجبل في الصباح وهذا الغراب الأسود يحوم حول البيت ونعيقه يتواتر إلى أذنيه ، يتتبعه في السماء فيراه ثابت الجناحين منحدرا إلى أسفل لا يكاد يقترب منه حتى يتماوج مندفعا إلى أعلى ويتصعد ثانية مخترقا الفضاء شاقا لأحضان السماء ....... هب الصغير إلى الصخور يرمق الكائنات المارقة من حوله تمدد فوق حبيبات الرمل وأسبل عينيه ضاجعته كوابيس المنسوج في الغيب، من الحقول إلى البيت رائحة اعتاد شمها ،يستبيح السير المقيد برائحة التقاليد لا يضيره الانتساب إلى تلك القرية الملعونة ، اعتاد التعالي والنظر إلى السماء فلم يعد يرى في البراري الصعاليك.....هزته الجدة لأنه مرر (موس الحلاقة )على شاربه فالشارب من شيم الرجال ،سقته من النبع وساقته على أطرافه إلى حيث آبار التقاليد المظلمة ،لا يجيد الحوار مع الأب الجاف الهائج.
بالعيون الوقحة الحمراء المتورمة تحت الجفنين يأخذ الأمر وبالعيون أيضا يعاتب ، ما اعتاد الكلام معه....
المدرسة ميثاق لابد من المرور عليه ولكن بالأحذية ،فالعلم يذيب الخشونة من الرجال ويبتر الهيبة......هكذا حدثته الجدة.
2
عاد ذات مساء موثوق بكتبه وكراساته يشد أزر نفسه الحالمة بالمدى والهروب من سياط القيود ، كان البيت مكتظا بالمنتسبين إلى آدم ، رجال ونساء تجهمت وجوههم وإرتسمت عليها علامات من أزيز الذكريات ،ألقى الكتب وألقى السلام ......لم يجب أحد.
عاد إلى الأريكة الملتصقة بالجدار وجلس ،لمح شارب أبيه يتراقص فوق شفتيه وعمامته قد انحدرت إلى أسفل ،قدم له السلاح...... رائحة البارود التي ما اعتاد شمها إخترقت أحشائه نفضه من على الأريكة وزام في صيرورة وجهه الباقية منذ دخوله فابتلى الوجه بالدماء التي ظهرت من أسفل الجلد محتقنة بالشرايين على وتيرة الاستعداد للنزول ،بالبارود ينتفض الرجال وتخمد وساوس الحلم عند الصعاليك ......قالها الأب المشرئب بالذهول ،بالأمس تجرد صعلوك على كسر حجر من الأحجار التي أسسناها ....رفع الحاجب فلا بد من الطمس،نفض حاجبه ،تزايد الغباء في العقل البكر.....هز الأب يده وطرقها على فخذه ،ثم أشار بأصبعه صوب صدر الابن ....ابن مخيمر (الملَحَد)تجرأ وتقدم لوداد سته،عاد وجلس على أريكته مستأثرا الهدوء،
قال الصغير
وبالطبع رفضت............
قال الأب
وهل يكفي الرفض لغسل العار، سيزيد الهمس على بنت الأشراف والإسكات يكون بهذا ولوح بيده الممسكة بالسلاح ،عند الغروب يمر خلف جاموسته يرافقه غروره تطمس أنت الغرور وترفع سعر وداد.
نظر الصغير إلى( وداد) الغارقة في دموعها ومن حولها المترملات يندبن في بهو جنائزي معتم،لم يجرؤ أن يسألها لماذا تسترد من أحزانها النواح ،ترى هذه الدموع عليه أم على تجرؤه المشين ، دخلت الجدة بوجهها المتعقرب الضامر هزت الأريكة بفخذها اليابسة الممشوطة بالعروق فتساقطت الكتب وانسكب عليها الماء.....أمسكت بيدها ياقة قميصه وشدتها.....ما دمت ترتدي هذا القميص فصورتك ستظل مهرأة بين الرجال ،يريد الانتساب إلى أسياده وأنت سوف تنسبه إلى عذرائيل وفي مسحة من الوهج الأعمى تسلق إلى العقل البكر ثراء الانتساب إلى الأفضلية ،هزه الصياح الطافح من عمق الأب وهزيمة المبادئ الوليدة في عقله المتصابي وهو يرنو إلى ضجيج البارود الساخن.
3
أمام سياج الذرة التي هزها النسيم يمط رقبته على الطريق ليصنع للزوجة الآتية من أسفل الجبل مأمن للعودة ،هذه المرة أصرت على أن يؤمن لها الطريق بنفسه غالبه النعاس تحت تأثير نسمات الهواء الطرية (فغفا) بين أعواد الذرة الحبلى بقناديلها تبعث نشوة في صدره وطراوة بين ضلوعه ،أراح رأسه بين الأعواد المنتصبة.....جاءه (مخيمر)ملثم الوجه وعيناه تزرفان حمرة معجونة بسهر الليالي التي انتظرها ليخمد نار صدره ويريح ابنه المتوقد في قبره ،يتحرك في خطى بطيئة هادئة....والجسد الرخو ملصوق بالأرض أبطلته إطلالته الهائجة سحب "شاله" الملثم به ولفه حول رقبته ،أخذ يرفس تحته و (مخيمر) يبرك على صدره ضاغطا بشاله على رقبته..... ارتحلت بقع السواد من العيون القلقة وعم بطن العين بياض باهت ،ازداد (مخيمر) في ضغطه وهو يقهقه ويسحب من أعماقه صورة ابنه السابحة في الدماء وأظافر الجاموسة تضغط على بطنه فزعة من دوي الرصاص وهي تجري بغير اهتداء ،نفضه من فوق صدره وهب مفزوعا.....
كان كابوسا قد طالعه وهو في حراسة شياطين الوادي المرهون بأعقاب الجبل نظر حوله وهو يلف يده حول رقبته يتحسس موقع الخنق ،هب واقفا وأمسك صهوة حصانه وتسلقه ثم انطلق إلى الجبل مخلفا الغبار الناتج عن ارتطام حوافر الحصان بالتراب.