في قريتنا الشئ الوحيد الذي نتساوى فيه مع البشر هو أن الشمس تشرق علينا من الشرق وتغرب علينا من الغرب نتلقى أخبار من حولنا من ثرثرة المارين بنا في رحلاتهم المجهولة نرتمي بين حضن الجبل يزاحمنا الرعاة والبدو الأطفال عندنا حفاة يلعبون والرجال عند العصارى يلقون جثثهم أمام البيوت على (حُصر ) صُنعت من الحلف وهو نبات قاسى وجاف والنساء ( يبركن بجوارهم ( يغزلن الصوف أو يغسلن أوعيتهم البدائية
حتى كبرنا واكتشفنا بأن
الدنيا لم تعد كما كانت .... ولم يعد الدفء هو ذاك الوطن.......... كلنا
غرباء نرحل داخل أنفسنا ونغوص في الأعماق نبحث عن شئ إفتقدناه ولا نعرفه
فنرجع بلا شئ .. قريتنا ياسادة لا عنوان لها و لا خريطة ولا ملامح
وكائناتها لا تُسمع أحد نحن يا سادة خارج حدودالحياة في بطن الجبل حيث لا
هوية ولا انتماء معاناتنا كنوز يتاجر بها الأغراب وأحلامنا تجارة تستهوى
عشاق الرق وآدميتنا مفردات لا حروف ولا كلمات لها ولا أسطرتُكتب عليها ولا
أقلام تخطها نحن يا سادة نعشق المطر ولا نعرف معنى الوطن نهرب إلى الفضاء
لضيق الحدود وكثرة السدود والإهمال... معاناتنا كنز للهواة وأمراضنا نحن
موطنها لا تبارحنا إلا إلى القبور ... وفقرنا حكر احتكرناه ونأبى تصديره
نحن أخطاء الماضي وخطيئة الحاضر ووكائنات غير مرغوب فيها...طلاب
المجد نحن سلالمهم وطلاب الشهرة نحن لغتهم ... نحن يا سادة سلعة
قابلة
للإتجار بها ولاقيمة لها .. نحن مواطنون بلا وطن
1
لامفر من المروق بين الجبال ،أخذت تطالعنا ملامحه القاسية تسيل منه حرارة تنصهر فوق رؤوس الركاب فتتصبب عرقا،تنبت حباته على الجباه المنصهرة فيمسحون بمناديلهم الورقية هذا النضيح النافذ من أسفل الجلد .....راح بعضهم يريح رأسه على الزجاج وقد أطبق عينيه على حلم غربته يعارك النعاس الرابض على حدود جفنيه ،وبعضهم يعيد قراءة جريدته....كانت الطريق تتلوى كالثعبان والسائق يقبض على عجلة قيادته في قلق وتوتر مترقبا ظهور أي جسم غريب مفاجئ من بين نتوءات الجبل يعيق أحلام المسافرين...... هي نفسها رائحة الصحراء، رائحة الجبال المنسية والرعاة المنسيين يمرون بأغنامهم بين الجبال يزرعون الخيام التي لا تعمر كثيرا ،ثم يرحلون بملامحهم الصحراوية المصبوغة بأشعة الشمس ووخز السنين المنقوش على وجوههم فتكسوها سمرة نحاسية لامعة وشعر أجعد أكرت وآذان مشرئبة ومنتصبة إلى أعلى وسيقان طويلة يابسة متحطبة تبرز منها العظام نافرة ومترنحة ، هي هناك أيضا بملامحها القروية تنتظر ،ثمة علاقة قوية بين أهل البوادي وأهل القرى ،ربما في العادات التي توغلت فى صدورهم أو في صحوة الشمس التي تلسع الوجوه فتعيد صياغتها القمحية المتربة .... تنتظر على الطريق تتفحص العابرين والمارة فالخلق قد تشابه عليها لعلني أكون أو لا أكون ولما تراني تضحك وتخفي وجهها بطرف طرحتها ، كثيرا هى ما اختلقت الأكاذيب عن الابن الراحل لتريح الأم المنتظرة..... زينب بنت الخال هي أيضا منتظرة تخاف على العاق لنفسه من أرحام المدن ففي الغربة غرائب لا تعرفها ولكن تحسها تخاف أن ينبلج عليه رحمها فتحويه ولا ترجعه.
2
تساند العجوز المعاندة لعواصف الوجع تعرف أن (العمة ) قد تبعثر نظرها وتآكل عظمها وتمدد الجلد على الوجه وتراخى ليرسم خطوط الشقاء والمعاناة على الجبهة الذابلة الصفراء واحتقن الدم تحت الجفون وتورم ، تبل لها الخبز في الماء بعد أن تساقطت صفوف العاج من الفم الفارغ المظلم تنتظر بجانبها ولوج ابن العم الذي يسبح في الشتات وبصوتها الهادئ الدافئ الآتي من الأعماق .....تسألني : ؟
· - تسافر كثيرا وتتأخر ونحن ننتظرك.
· - أشتاق إليكم كثيرا أشتاق إلى أحضانكم ودفؤكم...... كثيرا ما فكرت في رفس الغربة ولكن......
ننتظرك على ملل ونحن لا نعرف ميعاد عودتك.
· - الغربة يا زينب ليست غربة المكان ولكن هي تلك التي تعشش داخلنا غربة نحسها ونحن بين الأهل لأن الأهل ما صاروا أهل.
· - ألا تجد فينا أهلا يا ابن العم؟
· - في الغربة يا زينب تتأجج المشاعر وينمو برعم الحب الضامر في القلوب....
· - ولكن بعد المسافات وانقطاعك
· - كلما بعدت المسافات زاد الحنين والشوق إليكم
· 3
· فتغيب زينب متحررة من عبق همومها وترنوا
إلى بعيد فهي تحب حكايات العمة عن البيوت المغلقة على أسرارها ، تجلس بجوارها تلاعب أصابعها بين حبات القمح المسكوبة على السجادة لتعزل الحصى عن القمح قبل إرساله إلى الطاحونة ...فتحكى للصغيرة"تربتي يا زينب تربة صخرية لا تنبت فيها الحبوب وحينما انفلقت بذرته نادته الجبال ،هو يعشق الجبال ،عاشر العرب والغجر أكل من طعامهم ونام في خيامهم ،يغيب عني كثيرا و أذهب أنا وراء الوحيد أعدو أفتش عنه بين الخيام وعند عثوري عليه أضربه وأنا حزينة ، أضربه لأني أخاف عليه وحزينة لأني أضربه تأتيني أخباره بأنه يتسلق مؤخرة العربات المنطلقة على الجسور ويقفز وهي مسرعة فينسلخ جلد وجهه ويتمزق ثيابه فينقبض صدري وتعاودني كوابيس أخباره التي قد لا تسرني ،كان يجثو فوقك ويقبض على شعرك وأنت تحته تستغيثين وتصرخين ثم تشتمينه فيزداد عناده ويظل يضغط على شعرك ونحن من حوله فرحين ، كنا نظن أنها أولى أعتاب الرجولة أن يضربك ولما تورم صدرك وبدأ يعلو ساحبا ثوبك إلى أعلى كان يشم رائحة غريبة تنبعث من جسدك الساخن فتوجعه أنفاسك بدأ يستأنسك ويستحي من الالتصاق بك .... كان يحبك يخفي لك الطعام حتى تعودين ويبكي عندما تغيبي عن البيت ....."
تنظر زينب الى عمتها وقد تآكل جسدها وتتمتم
هذه المرة غالبها المرض فاعتكفت على السرير تدعو لسلامة عودته ولا تدعو لشفائها ،
4
....تفادى السائق منحنى كاد أن يهلكنا مرقت أمامه غجرية تحبو خلف أغنامها تناغى السائق بكلام ينم عن سخطه من تلك الشقية التي تآكلت اقدامها من زلط الصحراء تابع عدوه بين الجبال لوحت للسائق بيدها لم يجد بدا من الوقوف لقد نصفت الطريق بجسدها اتضحت معالمها ضحك هي العرافة التي تسوق للمسافرين أخبارهم ....كانت تحمل فوق رأسها صرة مررت بصرها بين الرؤوس المطلة من الزجاج "انزل ......نعم أنت انزل " زعق السائق: " انزل يا استاذ شوف بختك" ،أنزلت الصرة من على رأسها وتقرفصت :
· · ارمي بياضك
· - (فكت الصرة وداعبت الودع في الهواء ثم تركته يهوي على الأرض نظرت إليه ثم إلى الودع وقالت:
· - ليه كده يا استاذ ، دائما تتعجل الترحال تترك المريض وتسافر ، ألا تعرف أنه أيضا يريد السفر ولكنه سيسافر سفرا أطول من سفرك ،خد يا أستاذ لو كان رجوعك يفيد ما أرجعته لك.
نظر إلى الخلف باعدت المسافات بينه وبين القرية...... الصحراء مدى يسبح فيه الفضاء ،بدت القرية صغيرة وحقيرة ،تذكر المنطرحة وصورة العرافة تتماوج وتتآكل حتى صارت كخيوط دخان تتصاعد إلى السماء وتتلاشى. تثاقلت رأسه وتهاوت حتى غاب بوعيه عن العرافة والسائق اللذان يذكرانه بالحياة ، لم يغب كثيرا حتى تثاقلت في رأسه القرية أعادته إلى عالمه المندس بين هياكله وعلى جفون السائق ،تتورم خلايا النعاس وتتضخم ،تقدمت يده بسيجارة تلقاها السائق وعيناه منشغلة بهواجس الطريق.
5
غمرهم السكون مرة أخرى وراح السائق يعارك النعاس والطريق...... القرية أيضا عذراء لا تزال بخصوبتها بشوارعها البكر وبيوتها الهزيلة ، في الصباح يخرج الناس خلفهم أغنامهم هي تلك الرفقة المعتادة ... ضجيج البهائم في الصباح وعند الغروب يشبه كثيرا ضجيج العربات في المدن ولكنه ضجيج يطرب الفلاح ويدغدغ مشاعره ..... مع دنو شمس الأصيل تخطو العرافة أعتاب القرية تدك بقدميها الأرض فينفجر صهيل خلخالها مع كل خطوة تخطوها ،تتمايل في مشيتها وتراقص خصرها في تحدي غريزي صارخ...."أوشوش الودع أشوف البخت وأبين زين...." تظل تعدو في القرية حتى آخر ضوء تبرك أمام أحد المنازل وتتزاحم من حولها النساء تفك صرتها وتراقص ودعها وتعزف على جروح المنكوبين ، لم يحدث قط أنها أرجعت النقود لأحد ، لكنها أرجعت لي النقود وخبرتني أخبار شائكة .... حدثتني عن الأم المريضة ولم تحدثني عن بنت الخال ،سفر الأم ليس الآن كما خبرتني اللعينة السوداء . قال لي الدكتور أن المرض يعمر في جسدها خمس سنوات على الأقل يمكنك خلالها أن تحملها خارج الوطن هناك فقط يمكن علاجها لأن المرض يمشي ببطء كالساعة ولكنه يعض في جسدها الهزيل بأنيابه.... لم يكن لي أن أتخيل ان يغزو جسدها مرض مثل هذا وهي المتمردة على الحياة تظل ترمقني وأنا أنظر لزينب تتقدم بخطاها الثقيلة وتخطفها من أمامي ويذهبا سويا لشئون البيت.
لا يدري كيف تقاذفت الكلمات من بين فكيه ليصب في أذن السائق حكايته تابعه السائق في البداية ولكن رأسه التي يرعى فيها النعاس أخذت تتثاقل بين الحين والحين..... لذة طاغية يجدها في استرخاء جسده وتفكك أجزاء
6
أحضر السائق من عالمه الآخر من حيث لا يسكن شيء صورة أولاده وزوجته بملابسهم البيضاء الزاهية يلوحون له في منتصف الطريق، ابتسامته الأثيرية يرسلها إليهم في لهفة ، تحلل السائق من جسده وتحول إلى طائر يطير تحول إلى لا شيء وتراخت يديه المقبوضة على القيادة لم تعد تضيره المخبيات في غيب الطريق ، استغل الأتوبيس غفلة السائق وتدحرج بين الممرات ......صاح في السائق.....أفاق عندما بلغ الأتوبيس المنحدر وراقص عجلة القيادة ، انزلق من على القمة تراقص في الهواء ثم غاص في أعماق البحر مبتغيا الصدف واللآلئ والشعاب المرجانية مسكنا له .
لماذا تسافر إلى البلاد لتحجبك عنا؟ا
لا أعرف يا زينب ولكن كل ما أعرفه أني لابد أن أسافر.
"وأنا أحبه يا عمة وأبكي لأنه يغيب"
لملمت ودعها ووضعته في صرتها ،وضعت الصرة فوق رأسها ورجعت )
ظلت زينب معتكفة تحت أقدام الأم كما اعتكف المرض بين ضلوعها ......