لأىِّ ثورة عظيمة، فيما أرى، خمسة شروط أساسية لا غنى عن شرط منها، وخمس مراحل (أطوار) لابد أن تمرَّ بها.. ولسوف نتوقف فيما يلى عند أطوار الثورة ومراحلها، ثم نردف ذلك ببيان شروط الثورة الحقة، وتبيان سر العنوان الذى اخترته لهذه المقالة.
■ ■ ■
لكل «ثورة» فرديةً كانت أم جماعية، خمس مراحل (تفاعلية) متتالية، لا يمكن أن تتطور الثورات وتتم إلا من خلالها. فإذا غابت مرحلة واحدة من تلك الخمس، التالى ذكرها، صار هذا «الفعل» شيئاً آخر لا يمكن وصفه بأنه ثورة.. وهذه المراحل هى على الترتيب (الظلم، الغضب، القمع، الانفجار، التغيُّر) وهى تجرى دوماً على النحو التالى:
الظلمُ هو المقدمة، أو هو البذرةُ الأولى والجنين، لكل ثورة قادمة، والظلمُ صفةٌ إنسانية بحتة، لا تصحُّ فى حق ما هو أدنى من البشر (الحيوان) وما هو أعلى منه (الإله)، ففى عالم الحيوان يتصرف كل كائن بطبيعته الأولى، بحيث لا يمكن وصف سلوك حيوان معين، بأنه «ظالم» لحيوان آخر، حتى وإن كان ذلك الفعل هو الافتراس. فالوحشُ من الحيوان الأرضى، ومن الطير، يفترس غيره، لأن ذلك هو السبيل للبقاء، وليس لأنه يظلم فريسته.. وشرطُ الظلم هو (القصد) أو النية السابقة على الفعل، والحيوان لا يفعل بالنوايا، بل بالغرائز.
وفى كل الديانات الحاضرة والغابرة، يسمو الإله ويتعالى عن صفة الظلم. وقد نصَّ الإسلامُ على أن (الله) حرَّم الظلم على نفسه، ودعا الناس إلى مجانبته والابتعاد عنه. حتى إن فرقة «المعتزلة»، وهى واحدة من أشهر الفرق العقائدية الإسلامية، تطرَّفت فى هذا الأمر وقرَّرت أن الله «لا يعرف الظلم أصلاً، ولا يستطيع أساساً أن يفعله، وإلا فقدت الألوهية صفةً من أهم صفاتها، هى العدل».
إذن، فالظلمُ وصفٌ غير جائز فى الطرفين المشدود بينهما الوجود الإنسانى. ومع ذلك، فإن البشر كثيراً ما يتظالمون فيما بينهم. خاصةً إذا امتلكوا السلطة على غيرهم، وكانوا حاكمين، ومن هنا قيل: «السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة على الإطلاق». فإذا انعدمت السلطة، القاهرة، ما عاد بالإمكان وقوع الظلم. ولذلك قال الشيخ نجم الدين كبرى (المقتول على يد التتار سنة ٦١٨ هجرية، وهو يحاربهم وحده!) فى رباعية فارسية، ترجمتها: «إن الحكام فى أوان عزلهم، كلهم كالشَّبلىّ وبايزيد، فإذا عادوا لسلطانهم، فكلُّهم مثل شمر ومثل يزيد».. وللتوضيح: أبوبكر الشبلى وأبويزيد (البسطامى) من الصوفية الزاهدين، وشمر بن ذى الجوشن، هو قاتل الإمام الحسين فى كربلاء، بتشجيع من الخليفة يزيد بن معاوية.
والظلم لا يبدأ عارماً، ولا يمكن أن يولد فاحشاً وفادحاً، وإنما يتطور رويداً مع تزايد السلطة بيدِ الحاكم، واستدامة بقائه فى الحكم. وفى حياة الأفراد وخبرات الشعوب، تختلف بدايات (الظالم) عن نهاياته، بل تكون أحياناً متناقضة. فالرجل الذى يؤذى امرأته، والمرأة التى تظلم زوجها، كان كلاهما فى أول الأمر وديعاً مع الآخر، ومحباً رقيقاً. ثم يتطور الأمر حتى ينقلب من الضدِّ إلى الضدِّ، ثم يصير (الظلم) فادحاً مع طول الأمد وامتداد المدة.. وكذلك الحال فى مجال السياسة، فالظَّلَمةُ من الحكام الذين امتد بهم زمان السلطة، حتى استحقوا عن جدارةٍ وصف (الديكتاتور) لم يكونوا عند ابتداء أمرهم على النحو الذى انتهوا إليه، وربما كان بعضهم على العكس مما انتهى إليه.
فالقائد الألمانى «هتلر» بدأ فى بلاده بطلاً قومياً، ثم انتهى به الحال إلى إحداث الويلات الجسام. مع أنه نتاج للعقلية الألمانية الرصينة المبدعة. والملازم الأخ «معمر القذافى» بدأ فى بلاده أميناً للقومية العربية، ثم انتهى به الحال إلى تنصيب نفسه ملكاً لملوك أفريقيا، وصار ابنه المريع «سيف الإسلام» بمنـزلة ولى العهد. مع أن أفريقيا ليست مملكة. والرئيس السابق «مبارك» كان فى أول أمره رفيقاً بالناس، رقيقاً معهم، ثم أطلق مع الأيام يده فى أموال مصر، وانطلقت أيدى أعوانه سلباً ونهباً، وبلغ ظلمه للناس غايته حين استطاب فكرة التوريث. مع أن مصر المعاصرة ليست مملكة.. وعلى هذا الأساس، يمكن قياس مسار كل حاكم ظالم (ديكتاتور)، لنرى اختلاف نهاياته عن بداياته، ونرى فعل السلطة المستدامة ما بين زمانىْ البدء والختام.
■ ■ ■
والأمر تفاعلىٌّ.. إذ يقوم الطرف الأول (الحاكم) بالخطوة الأولى (الظلم) فيأتى دور الطرف الثانى الذى قد يستقبل الظلم بالرضا والصبر، لأنه فاقدٌ للروح وللثقة بالنفس، أو مدمنٌ للأفيون، أو لا يرضى بالظلم ولا يصبر عليه، لأنه مدركٌ لإنسانيته وموقنٌ بأن الدين يعنى الخضوع لله وليس البشر، وعاقلٌ إلى الدرجة التى تجعله يكذِّب قول القائل: إن الحاكم ظلُّ الإله فى الأرض (وإن صَحَّ السند).. وفى هذه الحالة (الحية، الصحية) يتولد فى نفس المظلوم توترٌ واضطراب، يفضى فى النهاية إلى الخطوة التالية: الغضب.
والثائر غاضبٌ بالضرورة، حتى وإن لم تنفجر بعدُ ثورته، وتستعلن. ومن أخطر الأمور، فى حياة الفرد والجماعة، الاستهانة بالغضب الذى يعتمل ويتأجَّج فى باطن المحكوم المظلوم.. غير أن الحاكم، الظالم، غالباً ما يستهين بغضب المحكوم، ويتعامى عنه. لأن الظالم يلتذَّ بالظلم، ويستطيب السيطرة على الآخرين. وقد يجد فى ذلك، متنفَّساً للمشاعر البدائية، التى ورثها البشر من أزمنة سحيقة، عاشوا فيها لمئات الآلاف من السنين، فى الكهوف. ولهذا، فإن الظالم يحرص على إبقاء المظلوم مظلوماً، ويسعى لاستنفاد غضبه بالعصا والجزرة، أو بذهب المعز وسيفه، أو بالترغيب والترهيب. وهكذا يتحايل لإقناعه بالرضا والصبر، متوسلاً فى ذلك بالرفق إن أمكن وبالقهر إذا لزم.. والقهرُ عنفٌ، والعنف يولِّد العنف، وهو ما يدخل بالحالة الثورية إلى طورها الثالث ودرجتها التالية فى السُّلَّم الصاعد للثورة، بعد الظلم والغضب.
والقهر فى واقع الأمر، غالبٌ للمظلوم والظالم، وقد يبدو للوهلة الأولى أنه يقع فقط على المظلوم الغاضب، لإخماد غضبه وإجباره على قبول الظلم. لكن عبء القهر، يقع فى حقيقة الأمر أيضاً على الحاكم، لأن القهر تصاعدىٌّ لا يتوقف عند حدٍّ أقصى. فالحاكم يتوتر فى سرِّه ويضطرب قلبه حين يبدأ فى قهر غضب المحكوم، وحين لا ينفع الذهب ولا تُجدى الجزرة، ولذلك، يلجأ أولاً إلى القهر بالهيبة. فإذا سقطت الهيبة، قهر الحاكمُ بالتلميح إلى سوء الحال وبشاعة المآل، إذا ازداد الغضب وتفاقمت الأمور.
ومن بعد ذلك يكون القهر بالتخويف من مصير المرأة المطلَّقة، وحال المطلَّق الوحيد، وبؤس البلاد التى يتهدَّدها: خطرُ تنظيم القاعدة وشباب الإرهاب الذين يجوسون خلال الديار، وشبحُ الدولة الدينية التى ستحبس النساء فى البيوت وخلف الستور، وتقافزُ «الإخوان» والجماعات «السلفية» وزنادقة «الشيعة» وكفَّار «الشيوعية» وانعدام «أمن الدولة» وانهيار «الاقتصاد» والتورط فى حرب مع «إسرائيل» وافتقاد «الاستقرار».. إلى آخر هذه الشناعات والمبالغات، التى كان الإعلام يملأ بها الأسماع.
فإذا خابت المساعى القهرية السابقة، لأنها محض كلام، انتقل الحاكم إلى قهر المحكوم بالأفعال، التى قد تتخذ فى الحياة الفردية (بين الرجل والمرأة) أشكالاً كثيرة، منها: أكل الحقوق عدواناً وظلماً، إهمال الواجبات، الهجر فى الفراش، تلويث السمعة، التضييق.. وفى الحياة السياسية العامة (بين الحاكم والمحكومين) تتخذ أشكالاً مثل: الاعتقالات، قمع المعارضين، التهجير الطوعى واللاإرادى (التطفيش) وغير ذلك من الوسائل والتدابير.
وقد ينجح القهر فيعيش الفرد، أو البلد، مقهوراً إلى حين، وقد يضطر الحاكمُ إلى التصعيد المستمر لوسائل القهر، بينما يفتك بباطنه القلقُ والتوجُّسُ والترقُّبُ، مثلما تفتك وسائل القهر بالمحكومين. وهنا، يترحَّم الحاكمُ فى سرِّه، على زمانٍ كان فيه الحال هنياً وديعاً. ناسياً أو متناسياً أن ذاك الزمان الذى انقضى، لم يكن فيه الظلم قد بلغ مداه واكتملت فداحته وانتشر فُحشه، ولم يكن الغضب، قد طَمَّ بالمحكوم وعَمَّ مع ظهور الفساد فى البر والبحر، ولم يكن القهر، قد أمعن وازداد حتى صار يُنذر بالخطوة الرابعة، أو الطور الرابع من أطوار الثورة: الانفجار.
ينفجر المحكوم فى وجه الحاكم، فيكون من أولى علامات الانفجار وأبرزها ظهوراً: رفضُ الاحتقار، الاستهانةُ بقهر الحاكم والجرأة عليه، سقوطُ جدران الخوف.. وهنا، لابد من الخلع (بفتح الخاء، وبضمها) طوعاً أو كراهية، تراضياً أو انتزاعاً.. وذلك لسبب بسيط، هو أن المظلوم الثائر يكون أقوى بالقطع من الحاكم الظالم، فهذا الأخير يحب الحياة، بينما الأول لا يرهبه الموت.. والموتُ أقوى من الحياة.
ومن بعد ذلك كله، يقع (التغيير) الذى هو الدرجة العليا والطور الأخير للثورة، وهو مرهونٌ دوماً بفعل الثائر (الثائرين) ومرتبط بوعيه الخاص، أو وعيهم الجماعى. لأن خمود الطور الرابع من الثورة (الانفجار) لا بد أن يعقبه عملٌ كثير لإصلاح الديار وتعديل الأحوال، أى جعلها أكثر عدالة.. وهذا يقتضى الدخول فى الأفق المستقبلى، ويستدعى النزوع الابتكارى. أو بعبارة أخرى، يَلزمه: عقل جديد لعالم جديد (وهو عنوان مقالتى القادمة، السادسة، فى هذه السباعية).
■ ■ ■
تلك هى «أطوار» الثورة، ومراحلها الخمس، حسبما بدت لى من بعد إمعان النظر.. فإذا طبقنا ما ذكرناه على ثورات مجيدة، مشهورة، كالثورة الفرنسية العارمة، أو ثورة الثكالى فى الأرجنتين، أو ثورة العالم الثالث ضد الاستعمار، أو ثورة النسوة اللاتى قطَّعن أزواجهن قطعاً وعبَّأنهم فى أكياس القمامة، أو غير ذلك من الثورات الفردية والجماعية.. وجدنا الأمر يسير على المنوال الذى ذكرناه.
وللثورة، الفردية والجماعية، شروطٌ خمسة لابد من توافرها وإلا صارت (الثورة) شيئاً آخر، وهى على جهة الإيجاز: الكشف، النبل، الإصرار، الأمل، العمومية.. ففى الحالة الثورية، يكتشف الفرد ذاته وكأنه صار إنساناً آخر، وتعرف الجماعة نفسها وكأنها كانت غائبة من قبل عن وعيها. ومن هنا، ترتبط الثورة بقيمة (شرط) النبل والطهارة المبهرة، إذ نجد الثائر فى أغلب حالاته، نبيلَ المقصد، ومتعالياً عن الأفعال التى ربما اقترفها من قبل ثورته، كأفعال التحرش مثلاً أو الأنانية أو ازدراء الآخرين، ومن هنا يظهر شرط الإصرار، حيث لا يسعى الثائر أثناء ثورته، إلى الحصول على مكاسب جزئية أو مطالب فئوية أو منافع شخصية. ومن هنا يتسع الأمل، الذى هو الشرط الرابع المعبَّر عنه أحياناً بعبارة «رفع سقف المطالب» وأحياناً بلفظ «ارحل» وأحياناً بإعلان «ثورة حتى الموت».. أما الشرط الخامس الأهم، فيما أرى، فهو (العمومية) لأن الثورة إذا كانت محدودةً بهدفٍ مخصوص، فهى شكوى، وإذا كانت محكومة بمصالح فئة معينة، فهى حركة. وإذا كانت موجَّهةً من شخص أو جماعة، فهى خديعة. وإذا كانت مرهونةً بمطلب واحد، فهى تفاوض.. وإذا كانت قاصرةً على الرجال، فهى غير إنسانية.
ولتوضيح العبارة الأخيرة، السابقة، سوف أقارن فيما يلى بين الثورتين (التونسية والمصرية) من جهة، والثورتين (الليبية واليمنية) من الجهة الأخرى، فى محاولة لتفسير الاختلاف الواقع بين الجهتين، وتعليل السبب فى النجاح المبهر (البديع) لثورتىْ مصر وتونس، والاضطراب المفزع (الرائع) لثورتىْ ليبيا واليمن.
قد يبدو للوهلة الأولى، أن الثورات الأربع قد مرَّت بالمراحل الخمس (الأطوار الخمسة) التى ذكرناها فى النصف الأول من المقالة. وقد يبدو أن هذه الثورات تسير على المنوال ذاته، وتتحقق فيها شروط الثورات، وبالتالى فسوف تؤدى بالضرورة إلى نهاية واحدة. على اعتبار أن المقدمات المتطابقة، تعطى نتائج متطابقة (حسبما يقول علم المنطق) ومن ثمَّ، فإن ما انتهى إليه حال ثورتىْ تونس ومصر بعد الإطاحة بزين العابدين ومبارك، سوف يقع فى اليمن وليبيا حين يُطاح بالشاويش «على» والملازم «معمر».. غير أن ذلك كله غير لازم، منطقياً، لسبب جوهرى دقيق قد يغيب لدقته عن الأنظار، هو باختصار: أن الثورة الحقيقية، هى بالضرورة، أنثوية.
■ ■ ■
كان القذافى، يتهكم حين سألوه عن معنى الثورة، فأجاب بأنها: أنثى الثور، وهو تهكم يعكس تصوُّر القذافى للأنوثة، ويعاكس العبارة (الرائعة، البديعة) التى حفظها لنا الزمان من كلام شيخ الصوفية الأكبر، محيى الدين بن عربى (المتوفَّى ٦٣٨ هجرية)، الذى كتب نصاً رمزياً مبهراً عنوانه «رسالة فيما لا يعوَّل عليه» فقال: المكان إذا لم يؤنَّث، لا يعوَّل عليه.. ومن ذلك استوحيت عنوان هذه المقالة.
هل رأى أحدنا امرأةً فى ثورتىْ اليمن وليبيا؟ صحيحٌ أنه تمَّ استخدام بعض الوجوه النسائية (والفتيات الصغيرات) عند انطلاق الثورتين، وقد فعل ذلك الفريقان، الذين ثاروا (الشعب) والذين ثاروا ضدهم (الحكومة) لكنهما فعلا ذلك كى يكسبوا التعاطف من جمهور المشاهدين للقنوات الفضائية، التى صارت طرفاً فى الأحداث، ونسيت مهمتها الإعلامية الأساسية: تقديم الأخبار والوقائع بشكل محايد.. المهم، أن (المرأة) على اختلاف مراحلها العمرية، غابت عن المشهد العام لثورتىْ اليمن وليبيا، على اختلاف المراحل الخمس الملازمة، واللازمة، لكل الثورات.
ومن الجهة المقابلة، ظهرت النساء فى ثورتىْ مصر وتونس.. ابتداءً من مرحلة الظلم السياسى الواقع على المناضلات اللواتى تم اعتقالهن فى سنوات سابقة، والثكالى اللواتى يتحيَّرن بأطفالهن بعد افتقاد العائل المسجون، والمغتال، والمشرَّد.. ومروراً بصراخ المظلومين والمظلومات الذى ترددت أصداؤه فى أنحاء البلاد عند التظاهرات التى انفجرت، بعدما فشل القهر فى تقييد الأقدام والأفواه.. وانتهاءً بالعرس المصرى الذى أقيم اليوم. وللتوضيح، فقد كتبت المقالة مساء يوم السبت الموافق يوم الاستفتاء على تعديلات الدستور (١٩ مارس) ولا تزال إصبعى مخضَّبة بحبر الإدلاء الأحمر، ولا تزال عينى مكتحلة بمنظر الطوابير الطوال (طوابير كلمة تركية الأصل، اللفظ الفصيح: صفوف) التى اصطفت فيها النساء كجناحٍ مقابلٍ لجناح الرجال، وبالجناحين حين رفرفت لأول مرة فى تاريخ مصر، صناديق الانتخاب الحقة.. وقد قطعنى قبل قليل، عن غمرة انهماكى فى الكتابة، اتصال ابنتى «آية» التى أخبرتنى مزهوة، وهى التى أكملت عامها الثامن عشر قبل شهور، بأنها أدلت اليوم بصوتها فى (مدرسة مبارك).. قالت ذلك وهى تضحك، فى إشارة خفية إلى تناقض الأمرين: الانتخاب، ومبارك.
وابنتى هذه، الوسطى، هى التى خرجت قبل أسابيع مع الجموع فى الإسكندرية لتحتفل برحيل (مبارك) وسط مئات الألوف، فإذا بها تدلى بصوتها الانتخابى بعد حين، فى مدرسة تحمل اسمه، وابنتى هذه، التى لا تضيِّع عليها أمُّها دقيقة واحدة من دون (مذاكرة) حتى تضمن مجموعاً يُلحقها بكليَّة بائسة، فى جامعاتنا التى لا تكاد تعلِّم شيئاً، هى التى خرجت مع قريناتها لدهان الأرصفة وطلاء محطة ترام «الهداية» بقلب الإسكندرية.. الإسكندرية التى خرجت فيها (أعنف) المظاهرات المصرية، لتهدم فى يومٍ واحد المبنى الهائل لمقر «المحافظ» وتحرق مبانى أقسام «الشرطة» جميعها، ثم من بعد ذلك تمسح عن كل الحوائط شعارات «إسقاط النظام» وترسم مكانها جداريات بديعة، تحتفى بنجاح الثورة المصرية.. وتكون حسبما أُعلن اليوم (الأحد ٢٠ مارس) أثناء مراجعتى لهذه المقالة، أعلى المدن المصرية فى نسبة الاقتراع على تعديل الدستور. حتى إن كثيرين علَّقوا على ذلك على صفحتى بالفيس بوك، وعلى صفحات غيرها، بتعليقات مازحةٍ من مثل : ياسلام يا إسكندرية.. لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون سكندرياً.
ولا يفوتنا هنا، أن الإسكندرية تعيش الآن من دون (محافظ) ومن دون (مدير أمن) ومن دون (قسم شرطة) ومن دون (أمن دولة) ومن دون (عسكرى مرور).. لكنها تعيش، وتبتهج، فى ظل ثورة حقيقية يعوَّل عليها، لأنها عمومية (إنسانية)، وليست ذكورية خالصة، مثلما هو الحال فى اليمن وليبيا، ولأنها جزء من الحركة المصرية العامة، التى أرجو الله أن تنجو من أوزار القبَلية والطائفية والانتهازية وغيرها من (الأخطار) المحدقة بمصير الثورات الذكورية، المسلَّحة، المستدعية لتدخل الأجنبى وعهر العابث.
■ ■ ■
إن الفعل الإنسانى، الجدير بهذه الصفة، لابد وأن يتشارك فيه الرجل والمرأة. فهما، معاً، يعبران عن جوهر (الإنسانية) وإذا غاب جانب منهما، غاب معنى الإنسان.. وتلك هى «الرؤية»، التى طرحتها فى روايتى (النبطى) برفقٍ أمومىّ، وجاءت الثورة المصرية لتؤكدها، فقد خرجت البنات والنساء والعجائز، مع الأولاد والرجال والشيوخ؛ فكانوا كلهم، على صعيد واحد (ثورى).. ولم يتلفتوا، مثل غيرهم، بحثاً عن قطعة سلاح أو طلقة، يسدِّدها إلى قلب حكومته الظالمة.
فإذا خلت ثورات الشعوب من المشاركة المؤنثة، صارت مما لا يعوَّل عليه.. ولا يرتقى حالها إلى الثورة الفرنسية التى كان رمزها امرأة (جان دارك) والثورة الجزائرية التى كان رمزها (جميلة بوحريد) وحركات التحرير فى مصر القديمة، التى كان الناس يرفعون فيها راية الإلهة (سخمت) وحركات التحرير فى مصر الحديثة، حيث قامت (صفية زغلول) بدور أساسى استحقت عليه لقب «أم المصريين».. تبقى هنا نقطةٌ دقيقة، سأوردها فى الإشارة التالية: على نساء مصر أن يحذرن من التقاعس عن أداء دورهن الحيوى فى الثورة، خلال هذه الفترة الانتقالية الحالية، التى يملك فيها الزمامَ الجيشُ (وهو ذكورى) ويسعى لامتلاك هذا الزمام الإخوان والسلفيون (وهم ذكوريون) وهؤلاء (العسكريون، الإسلاميون)، وهم معذورون فى توجهاتهم الخاضعة لثقافتهم الخاصة، يميلون ابتداءً إلى استبعاد النساء والإناث عن المشهد العام.. ولو حدث ذلك، فسوف تنهار نهاياتُ الثورة المصرية
ساحة النقاش