الكبر والتواضع.. داء ودواء

اعلم أيها الأخ، أنه لا غريم ولا مدين أمطل فى سداد دينه من النفس الأمارة بالسوء، ولا عدو للإنسان أعظم خطرًا، وأكبر ضررًا من الشيطان الرجيم, ولا معارض فى عمل الصالحات أقوى من الهوى.

ولا يدفع المدد الهابط عليك من السماء، ولا يمنع الرحمة النازلة عليك من فيض الله مثل الكبر ـ والعياذ بالله-؛ لأن الغيث حينما ينزل من السماء، لا يستقر إلا على الأرض المنخفضة لا على المرتفعات، ولا على رءوس الجبال.

فكذلك قلوب المتكبرين تنتقل عنها الرحمة، وتنزل إلى قلوب المتواضعين، والمراد بالمتكبرين؛ من يجحدون حقوق الناس وينكرونها، لا من يكون ثوبه حسنًا نظيفًا.

ولكن الكبر هو بطر الحق يعنى دفعه, واحتقار الناس، والتعالى عليهم, ولا تعتقد أن الكبر لا يكون إلا فى وزير، أو صاحب جاه، أو مال أو سلطان، بل قد يكون الكبر فيمن لا يملك عشاء ليلة، وفيمن يلبس الثوب المرقع، ويكون التواضع فى سربال الجاه والسلطان, وهو يفسد ولا يصلح؛ لأنه تكبر على خلق الله، واعتداد بالنفس, وزهو بها.

واعلم أنه ما لبس أحد لباسًا أنتن من لباس الدعوى، بأن يقول الرجل فى المخاصمة: أنت مثلى؟ وأنت يصح لك أن تخاطبنى؟ ومن أنت حتى أكلمك؟ اسأل عن أصلى وحسبى! فأول من هلك بذلك إبليس اللعين، حين قال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).

فإياك واحتقار الناس وازدرائهم، ولو كان أعرج أجذم أجرب، مشوه الخلقة, فلا تحقرنه، لحرمة لا إله إلا الله فى قلبه وحسن ظنك بكل أحد تفلح وتنجح.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شرب الماء يقول: " الحمد لله الذى جعله عذبًا فراتًا برحمته، ولم يجعله ملحًا أجاجًا بذنوبنا".

وهو صلى الله عليه وسلم مقدس عن الذنوب، معصوم منها, ولكن قال ذلك تواضعًا منه, وتعليمًا لأمته.. وكان يمكنه أن يقول صلوات الله وسلامه عليه: بذنوبكم, ولكنه تأدب فى لفظه، وما أكل صلى الله عليه وسلم ولا شرب إلا ليعلمنا الأدب, وإلا فكان صلى الله عليه وسلم يطعم ويسقى من عند ربه.

يا هذا : من أكرم مؤمنًا فكأنما أكرم الله، ومن آذى مسلمًا فكأنما آذى سيده ومولاه.

فإياك يا أخى أن تؤذى مؤمنًا, فإن نفسك قد امتلأت بمساويها، فيكفيك حملك ووزرك، وانظر فى معايب نفسك, وأصلح أخطاءها, وما مثالك إلا كالبصلة، إذا قشرت خرجت كلها قشورًا.

 

واعلم يا أخي أنك إذا أردت أن تنتصر على أعدائك، وتفوز بسعادة الدارين فكن كلك تواضعًا وذلة، قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) .

وإن أردت أن تعطى فأظهر الفقر بالاحتياج لله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) ، وإن أردت ورود المواهب عليك وإنارة بصيرتك، فصحح الفقر والفاقة لديك، واعلم أن الأنوار الربانية على قسمين؛ أنوار أذن لها فى الدخول إلى قلبك, وأنوار أذن لها فى الوصول، ولم يؤذن لها بالدخول, فربما وردت عليك الأنوار، فوجدت قلبك محشوًا بصور الآثار، فارتحلت من حيث نزلت.

ففرغ قلبك من الأغيار ـ أى من غير الله ـ تملؤه بالمعارف والأسرار.

والمؤمن يشغله ذكر الله والثناء عليه تعالى عن أن يكون لنفسه شاكرًا, فيزداد تواضعًا، وتشغله حقوق الله عن أن يكون لحظوظ نفسه ذاكرًا, فيزداد إخلاصًا لربه، ولقد جعلك الله فى العالم الأوسط بين ملكه وملكوته؛ ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته، وليعرفك أنك جوهرة غالية، انطوت عليها أصداف مكوناته.

واعلم أنك فرد من الأكوان، وجزء منها ما دمت مشغولاً بها، ولم يشهد الكون, فإذا شهدته، وشغلت قلبك به، كانت الأكوان معك مسخرة لأمرك, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك".

ولا ترحل بعقلك من كون إلى كون, فتكون كالحمار فى الرحى، يدور حولها، والذى ارتحل إليه هو الذى ارتحل عنه، ولكن ارحل بقلبك من الأكوان إلى المكون, فهذه نتيجة التفكر والتدبر فى ملكوت السموات والأرض، قال تعالى: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى).

لأن تكون خاملاً فى الدنيا ظاهرًا يوم القيامة، خير لك من أن تكون مشتهرًا فى الدنيا خاملاً يوم القيامة.

وإذا رأيت وليًا لله تعالى صادقًا فى ولايته مقبلاً على ربه، معرضًا عن الدنيا، فلا يمنعك إجلالك من أن تقعد بين يديه، متواضعًا، وتتعلم منه, وتتأدب فى حضرته, وتتخلق بأخلاقه، وتستمع إلى مواعظه ونصحه، ولا يمنعك كبرياؤك واعتدادك بمعارفك، أن تسأله عن دينك، وتطب منه الدعاء، فمن دلك على الله فقد نفعك.

ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: "يا أخى لا تنسنا من دعائك", تعليمًا لأمته، وإشارة لهم إلى طلب الدعاء من أهل الفضل المخلصين.

المصدر: من كتابى تحفة التصوف
  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 382 مشاهدة

ساحة النقاش

الدكتور/ محمد محمود القاضي

mohamedalkady
موقع شخصي يهتم صاحبه باللغة العربية ودراساتها، والثقافة الإسلامية، والثقافة العامة، والتأليف للطفل. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

230,753