الأمــن القومي والتنمية الوطنية
أ.د. محمد نبيل جامع
يمر العالم اليوم بمرحلة انتقالية تدخل فيها كثير من الدول فيما يسمى بعصر ما بعد الحداثة Post modernism، ويرى كثير من العلماء والمفكرين أننا بالفعل قد دخلنا في هذا العصر. ولكن يمكننا الادعاء بأن الدول النامية والمتخلفة لم تدخل بعد بالتأكيد هذا العصر، وإن كانت بالضرورة تتعامل مع الدول المتقدمة التي دخلته بالفعل، وتتعامل بطبيعة حالها مع قواعده التي تفرضها علينا سواء كنا قادرين على اللعب معها كدول نامية بهذه القواعد أم لا. ومن ثم بصرف النظر عن دخولنا أو عدم دخولنا هذا العصر يهمنا أن نعلم قواعد هذا العصر واتجاهاته حتى لا نكون كما يقولون مثل "الأطرش في الزفة".
التحولات أو الاتجاهات المعاصرة من الحداثة إلى ما بعد الحداثة:
لقد ذكرنا من قبل أن جوهر التنمية، ريفيةً كانت أم حضريةً، هو مؤسسي، يعتمد على القيم والمعايير والقوانين الرسمية وغير الرسمية والقيود المنظمة وطريقة تنفيذها والتنظيم والاهتمام بالثقافة والتراث الثقافي وتنميته، وليست التنمية بذلك مادية قابلة لمنهج المشروع الذي أظهرنا فشله أمام منهج الابتكار المؤسسي. ولذلك فتمثل التحولات التالية تحولات ذات طبيعة مؤسسية تجري الدم في العروق وتنشط وتمكن المجتمع ولا تجعله مجرد مريض يخضع ويستسلم دون وعي للطبيب.
أولا: التحول التركيزي من النمو إلى التنمية: كانت أهداف المجتمع الحديث أو المجتمع المتقدم تتركز أساسا حول النمو الاقتصادي Economic growth، فكانت الدول الحديثة تتسابق بمعيار معدل النمو، إذ كان الاتحاد السوفييتي السابق ينمو في الستينات مثلا بمعدلات تفوق تلك الخاصة بالولايات المتحدة على سبيل المثال التي كان معدل نموها ساكنا حول 4%، في حين كان يشار بالبنان إلى معدل النمو في الصين في مرحلة القفزة العظمى للأمام والتي بدأت سنة 1958 ولم تستمر لأكثر من خمس سنوات وذلك لأنها كانت تسير بسرعة عالية جدا كسرعة الفهد المرقط الذي إذا لم يلحق بفريسته في مدى خمسمائة متر يتوقف ويتركها لحالها. واليوم يضرب المثل بمعدلات تفوق الــ 10% في السنة في الصين أيضا ودول جنوب شرقي آسيا. والمهم أنه بتقدم الدول والمزيد من تقدمها تقل نسبيا معدلات نموها لأنها ببساطة تتشبع من السلع والخدمات. وهذا هو ما يحدث في عصر الحداثة، من اتخاذٍ للنمو كمعيارٍ وهدفٍ أساسي لحركة الدول.
ولذلك تتحول الأمور في عصر ما بعد الحداثة وتتوجه المجتمعات إلى التنمية بدلا من النمو بصورة أساسية. ودعنا نتذكر دائما، حتى لا نقع في شراك الجبرية والنماذج الأمثلية، أننا نتحدث عن الاتجاهات العامة والتحول التركيزي الجزئي وليس التحول الكلى تماما. فمن المستحيل عند نقطة معينة أن يتحول مجتمع من نقيض إلى نقيض، حتى الشمس تطلع وتغرب بالتدريج.
إذن فلماذا تتوجه المجتمعات الحديثة إلى التنمية؟ لأن التنمية كما قلنا هي ميلاد جديد لكائنات جديدة ذات بنيانات ووظائف جديدة، هي خلق جديد، هي عالم جديد بطاقة وإمكانات جديدة، هي تحول نوعى وتغير جذري، هي أمر كالتحول من طاقة البخار إلى طاقة الكهرباء أو الطاقة النووية، ولكن طبعا في الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وتصور ما يصاحب هذا التغير من سرعة وقوة وإنتاجية طفرية لم تكن من قبل في الخيال.
ولذلك عندما تتجمد المجتمعات الحديثة، باتخاذها للنمو هدفا، تلجأ إلى التنمية كهدف بحثا عن طفرات في التقدم، وبالتالي إلى حدوث معدلات عالية في النمو. وهكذا يمكن القول أن التنمية تؤدى إلى النمو، ولكن لا يستطيع النمو أن يؤدى إلى التنمية.
ولذلك يمكننا القول بكل طمأنينة وثقة أن الأمن القومي يتطلب اتخاذ التنمية، بمفهومها الصحيح وليس بمفهومها الشعبي الذي يدور على كل لسان، هدفا استراتيجيا لا يصح تأجيله أو التقاعس عن تحقيقه، كما لا يمكن التخلي عن دور الدولة وترك كل شيء للقطاع الخاص لأن التنمية يستحيل أن يرعاها القطاع الخاص نظرا لطبيعتها العامة المعاكسة تماما للنزعة الخاصة للقطاع الخاص. |
ثانيا: التحول النسبي من النظرة الكلية إلى النظرة الجزئية: فالمجتمع الحديث كان يعمل بتركيز كبير على الشمولية في الحركة. وقد كان هذا لازما ولا زال بطبيعة الحال. ولكن الاهتمام المفرط بالكل كان يتم على حساب إطلاق الطاقات الكامنة الكاملة بالجزء، ولذلك كان المجتمع يعمل بجميع أجزائه بطريقة كلية متناسقة متكاملة، ولكن لا يسمح بالتباينات الفردية أن توقف حركة الكل. فكان هناك ما يسمى بفقه التنازلات trade-off، أي التنازل عن قدر من الإنتاج الكامل للجزء لو تم التعامل معه فرديا مقابل تحقيق زيادة كلية أسرع في الكل لو تعاملنا مع الأجزاء على قدر العموميات فيها فقط دون الاستفادة من الفرديات أو تنميتها في كل من هذه الأجزاء.
أما الآن وقد حقق الاهتمام بالكل كل طاقاته، كالنمو سابق الحديث عنه، يتحول مجتمع ما بعد المعاصرة إلى النظر في ملفاته القديمة، ويحاول من خلال الاهتمام بالمكونات الفرعية للمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وإطلاق طاقاتها الخاصة، دون التغاضي عن التكامل والاهتمام بالكل.
ولذلك نرى في دول ما بعد الحداثة في كل مجال علمي أو اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي خلايا أو جزرا خاصة يعتد بها ويعتمد عليها في دفع عجلة التنمية. فنجد مثلا مراكز التميز Centers of excellence للاهتمام بالعباقرة ولرفع مستواهم الإنجازي إلى حدود لا يقدر عليها النمو، ولكن تقدر عليها التنمية بخلقها وإبداعها للجديد من نظم ومهام وفكر وثقافة....إلخ. ونجد أيضا ما يسمى بالــThink-tank organizations التي تمثل مراكز البحث والتفكير والإبداع، حيث يقوم مجتمع ما بعد الحداثة بتدعيمها لأنه يأخذ منها ما لا يستطيع الساسة ومتخذو القرار تحقيقه من إبداع واختراق، لأنهم مشغولون في مهامهم اليومية من مقابلة هذا إلى افتتاح ذلك إلى استقبال هذا إلى رئاسة مجلس ذلك ....إلخ.
ولذلك يمكننا القول أيضا أن الدول المعاصرة بقواعد عصر ما بعد الحداثة يجب عليها أن تشجع الإبداع العلمي في مؤسسات علمية متميزة تكون مهمتها الاختراق، وليس توفير الخدمة العادية، وعليها إنشاء المؤسسات الرائدة، كتجارب على الأقل، في مختلف مؤسسات وقطاعات المجتمع، بل وعليها أن تفكر في تجارب جديدة تماما حتى على مستوى المجتمعات المحلية، مثل الـمجتمعات المحلية العلمية المخططة Scientific intentional micro-communities (SIMC) التي تحدث عنها هنرى ونثروب (Winthrop، 1968). هذا التحول هو من مقتضيات الأمن القومي. |
ثالثا: التحول التركيزي من منهج المركزية إلى اللامركزية: إذا كنا قد ذكرنا دور التنمية في أولا وتركيزها على الخلق والإبداع، ثم ذكرنا في ثانيا أعلاه الاهتمام بالأجزاء، فلابد، بل وإنه لمن المنطقي، من التحول التركيزي من المركزية إلى اللامركزية. التخطيط المركزي يعتمد على اعتناق نموذج معين يتراوح ما بين النماذج الاشتراكية إلى النماذج الرأسمالية إلى النماذج الدينية. الأولى على سبيل المثال لم تكن من السعداء لو نظرنا لما حدث لمعتنقيها، والثانية استطاعت أن تستمر وتتواجد بسبب كثير من مرونتها التي تجعلها أحيانا أكثر اشتراكية من تطبيقات النماذج الاشتراكية نفسها، والثالثة على قلتها لم تنجح بعد في بلورة لون وطعم ورائحة لها حتى الآن حتى نستطيع الحكم عليها أو تقييم تجاربها.
التخطيط اللامركزى يعتمد على إعطاء درجات واسعة من الحرية والمرونة دون الالتزام الحرفي الأعمى بنموذج معين، والعبرة كلها في تحقيق معايير الكفاءة والفعالية والأخلاقية والغايات العليا. إن نظم التعليم الإرشادي وتعليم الكبار وتنمية المرأة والإرشاد الزراعي مثلا في محافظة بدوية كشمال سيناء لابد وأن تختلف جوهريا عنها في محافظة الدقهلية أو الغربية أو الإسكندرية على سبيل المثال.
ولابد من البديهي أن يصاحب هذا التحول تحول جوهري في اتجاه التخطيط، بمعنى التحول من التخطيط من أعلى إلى أسفل Top-down إلى التركيز على التخطيط من أسفل إلى أعلى Bottom-up. وهذا، مرة أخرى، أمر تركيزي لا ينادى بإلغاء سلطة الدولة ودورها وإلا سندخل لا محالة في قانون الغاب. لقد تعقد المجتمع والدولة بدرجة كبيرة بحيث أنه لم يعد من البساطة أن نجلس في مكاتب القاهرة المكيفة ونرسم مصائر المجتمعات المحلية القابعة في قاع الريف وأطراف الصحارى وأغوار البحيرات والأنهار. إن تنمية الشيء تتطلب النظر إليه، والاهتمام به بل وعشقه، والنظر إلى مستواه واحتياجاته وإمكاناته وطاقاته واستعداداته للتغير واستحثاثه وتحفيزه ومشاركته في كل هذا، ومساعدته لنفسه بنفسه حتى يشعر في النهاية بذاته واحترامه وإنسانيته. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال ما قلنا سابقا عام 1987م في دراسة أسباب تخلف القرية المصرية من ضرورة التحول من مركزية التخطيط ولا مركزية التنفيذ، التي كانت متبعة حينئذ، إلى لا مركزية التخطيط ولامركزية التنفيذ في ظل السياسة المرنة للدولة. ومن ثم فيركز هذا كله على الكلمة التي لاقت شهرة وقبولا في العقدين الماضيين بين خبراء التنمية ألا وهى كلمة تمكين Empowerment للأشخاص والمنظمات والمؤسسات والمجتمعات المحلية لتقوم بتنمية نفسها بنفسها.
ومن ثم فمن مقتضيات الأمن القومي التحول الجذري إلى منهج التخطيط اللامركزي، وأنا شخصيا أعتبر هذه القضية هي التي يجب أن تكون المشروع النهضوى الأساسي، لو استعملنا هذه المصطلحات المقعرة المنتشرة حاليا والتي تشعرنا بأننا نعيش في عصر التقعر والكلام. يجب ألا ننظر إلى اللامركزية على أنها معادية للأمن القومي. العكس هو الصحيح تماما. اللامركزية ليست فوضى، فيها ضبط وحساب وثواب وعقاب ونظام، ولكن فيها تنازل عن سلطات وتفويض لمسؤوليات، وهذه الأخيرة لن تدوم للإنسان في الدنيا ولا في الآخرة، وهى حتمية للتقدم والتنمية سابقا وحاليا وأكثر وأكثر في عصر ما بعد الحداثة. المركزية المصرية القائمة الآن باختصار شديد تُشل جميع الأجهزة المحلية والتحتية وكذلك الأفراد ابتداءًا من رئيس الوزراء حتى محولجي السكة الحديد عن اتخاذ القرار أو التنفيذ حتى تأتيه التعليمات ممن هو أعلى منه، ومن هنا تأتي وتستمر الكوارث. |
رابعا: التحول التركيزي من كلية تكنولوجيا المعلومات إلى جزئيتها: تتطلب التنمية، والإبداع، واللامركزية سابقات الذكر أعلاه التركيز على مناهج البحث والمعرفة التي تركز على الاستماع أكثر من القياس، وعلى أساليب التقييم بالمشاركة أكثر من المسوح، وعلى الاستقراء Induction أكثر من الاستنباط Deduction، وعلى ملاحظة الواقع والظواهر بتعقيداتها وتنوعها أكثر من النماذج الأمثلية التجريدية، وعلى التجزيء Deconstruction أكثر من التجميع. ومن ثم فيتخذ عصر ما بعد الحداثة مناهج مختلفة في البحث والتوصل إلى المعلومات تعتمد على تجزيء المعلومات، واللاجبرية Indeterminacy، والتنوع أكثر من الوحدة، والاختلاف أكثر من التوليف، والتعقيد أكثر من التبسيط، وتهتم بالفرديات أكثر من البحث عن القوانين العامة والعلاقات السببية.
ومع هذا فقد أدت المعرفة العلمية والتقنية بجانب خبراتها في عصر ما بعد الحداثة إلى الانتشار النووي، والتدهور البيئي، وانحسار العدالة، والتحولات التصدعية في طبيعة العمل والحياة اليومية، وفقدان الشعور بالأمن في ديناميات العوالم الاجتماعية والطبيعية. حتى أن التقنية التي أنشأها الإنسان لا يمكنه أن يتحكم فيها كليةً<!--. ومن هنا بدأ المنظور التقليدي الوضعي للعلم يفقد جاذبيته من جانب العلماء الاجتماعيين في خلال الأربعين عاما الماضية. وقد تبين أن العلم التقليدي لم يتمكن من ابتكار طرق جيدة للتعامل مع القيم والأخلاقيات والعقائد.
ومن هنا فقد اقترح وارنر Warner و إنجلاندEngland (1995) منظورا تقنيا للعلم "A technological science perspective" حيث يدعيان من خلاله ضرورة احتواء هذا المنظور التقني على القواعد والإستراتيجيات الأخلاقية التي تنص على "كيفية الأداء". ولتقدير هذا المنظور التقني للعلم أنظر إلى التقنية الاجتماعية للمدارس الريفية أو إلى تعاونيات المزارعين أو إلى برنامج للتنمية الريفية. إذ لابد لتصميم أي من هذه الأمور أن ينشأ على طبيعة خاصة من الزمان والمكان.
وقد حدث هذا التحول العقلي للعلماء الاجتماعيين كنتيجة أو كاستجابة لمفهوم نفعية العلم وكذلك للاهتمام الخاص بتقييم جدوى وفائدة العلوم والدراسات الاجتماعية. وهذا يتمشى مع ما سبق ذكره من التركيز على التنمية، والإبداع، واللامركزية سابقات الذكر أعلاه.
مفهوم الأمن القومي: لقد أدى عصر الحداثة وما بعد الحداثة ليس فقط إلى ظهور حتمية هذه التوجهات التي ذكرناها سابقا، وإنما أدى هذا العصر أيضا إلى تخريب غير مسبق، وإخلال لم يحدث من قبل للبيئة بسبب تقنياته وأنماطه الاستهلاكية غير المسبوقة. ومن ثم فعلى الحكومات المعاصرة أن تعيد النظر في المفاهيم التقليدية للأمن القومي.
ومما لا شك فيه أن اهتمام الدول بأمنها القومي أمر قديم قدم نظام الدولة نفسه. هذا بالرغم من أنه بعد الحرب العالمية الثانية بصورة خاصة، اكتسب مفهوم الأمن القومي لدى الدول صبغة عسكرية طاغية أكثر من أي وقت مضى. فكانت الدول في مختلف المناسبات الوطنية تعلن عن سيطرة الأمن العسكري لدرجة انحسرت فيها مصادر التهديد الأخرى كأنها تبدو أحيانا كما لو كانت غير قائمة على الإطلاق. الظلم والفساد وعدم العدالة، والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وتدهور النظم الحيوية البيئية، والاستنزاف المستمر لموارد الطاقة غير المتجددة، واللامبالاة والاغتراب والمشاكل الاجتماعية المصاحبة كلها تمثل تهديدات قومية تنتج عن علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعن علاقة الحكام بالرعية، وعن علاقة المواطن بالبيئة بدرجة أكثر مما تنتج عن علاقة الدولة بالدول الأخرى.
واتجهت الدول بأمنها القومي إلى حالة الاستعداد المستمر مما أدى إلى تعسكر، أي طغيان الاعتبارات العسكرية ، في المقتصد القومي بل والمقتصد العالمي عامة، حيث تعدت الإنفاقات العسكرية حدود الــ 6% على المستوى العالمي. فعلى المستوى العالمي تتعدى المخصصات العسكريات تلك الخاصة بالخدمات الصحية. وتنفق معظم الدول على الأمن القومي أكثر مما تنفق على تعليم أبنائها، حتى أن روث سيفارد (Sivard، 1974) ذكرت في كتابها أن عملية تطوير النظم العسكرية نحو المزيد من الفعالية تستخدم أكثر من ربع مواهب العالم العلمية وتشغلهم تشغيلا كاملا.
ولا تعتبر المنافسة بين القطاعات العسكرية والقطاعات الاجتماعية أمرا جديدا في تاريخ العالم، إلا أن التكاليف الهائلة لمجرد الحفاظ على القوة العسكرية الحديثة بلغت حدودا غير مسبوقة. ففي هذا العصر الذي تتزايد فيه ندرة الموارد العالمية نلاحظ استمرار القطاعات العسكرية في امتصاص النصيب الأكبر من موارد العالم المحدودة على حساب تكاليف اجتماعية متعاظمة.
وربما يكون تعريف فرانكلين هاديلFranklin P. Huddle (1977)، المسئول عن الدراسة الموسوعية لمجلس النواب الأمريكي التي كان عنوانها "العلم والتكنولوجيا والدبلوماسية الأمريكية" والذي نشر في مجلة "العلم"، من أنسب تعاريف الأمن القومي بالمنظور العصري حيث يقول:
"يتطلب الأمن القومي مقتصدا مستقرا تتوافر لديه الإمدادات الأكيدة للصناعة. ومن ثم فيعتبر حسن التدبير وصيانة الموارد من ضرورات أمننا القومي. الأمن يعنى أمورا أكثر من مجرد الحماية من الهجوم المعادى، إنه يشتمل على المحافظة على نظام من المدنية."
ويستمر البروفيسور هاديل في قوله على كل دولة أن تقوم بتصميم طريقة حياة يقبلها شعبها ثم تتلاءم هذه الطريقة مع حاجات واختيارات بقية دول العالم. فكأنما الأمن القومي في مفهوم هاديل هو قضية وطنية، كما أنه قضية عالمية شاملة، تقوم فيها الدولة بتصميم طريقة حياة، أي حياة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، شاملة تكون مقبولة من الشعب. ولا يمكن أن تكون مقبولة من الشعب إلا لو كانت نابعة منه، ثم تكون هذه الطريقة مراعية لاحتياجات ورغبات دول العالم بأسره. ويعنى ذلك أن تسعى الدولة في إطار أمنها القومي إلى أن تكون مقبولة بين دول العالم إن لم تكن محل إعجاب، وذلك بحيث لا تكون ما يسمى بالمنبوذ الدولي.
والقضية الأساسية في موضوع قبول طريقة الحياة من جانب الشعب، والتي تمثل جوهر أمنه القومي، لا يمكن أن تحدث في غياب الديمقراطية والمشاركة الحقيقية من جانب الشعب في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ثم لا تكون هذه الحياة نظما وخططا جاهزة تمليها عليه الحكومة بالرغم من اجتهادها وحسن نواياها.
وتمثل التهديدات الجديدة للأمن القومي أمورا غاية في التعقيد. فالإيكولوجيون يعلمون أن العلاقة المتدهورة بين البلايين الستة للعالم اليوم ونظمه البيولوجية المختلة لا يمكن أن تستمر. إلا أن قليلا من القادة السياسيين في العالم يعلمون ذلك، وما زال عليهم أن يدركوا الأهمية الاجتماعية لهذا الموقف غير المستديم.
وتقوم أجهزة المخابرات الوطنية بتحذير القادة السياسيين من تهديدات العدوان العسكري، ولكن لا توجد شبكة مخابرات خاصة بتحذير القادة السياسيين من التهديدات المحتملة لتفكك النظام الاجتماعي والبيئي الحيوي. يفهم الإيكولوجيون الحاجة إلى وقف التدهور الإيكولوجي، ولكن لا نجد إلا القليل من المهتمين القادرين المدربين على وزن وتقييم هذه التهديدات وتحويل هذا التقييم إلى خطة لتوجيه الموارد العامة بطريقة تحقق أعلى درجات الأمن القومي.
وينطبق نفس القول على المخاطر الاجتماعية الكامنة، ومشاكل الفساد والظلم وسوء الإدارة وضعف الاستفادة من طاقات الشعب ومواهبه، وحالات الاغتراب واللامبالاه، ومثالب السلوك العام، وتدنى مستوى الخدمات الاجتماعية ونوعيتها على المستوى الشعبي سواء في التعليم أو الصحة أو حتى المرافق العامة التي ولا شك قد خطت خطوات كبيرة إلى الأمام، حيث لا نجد أيضا الشبكة المناسبة من المخابرات التي تنبه إلى تهديدات هذه القضايا التي تحدث عنها هاديل كطريقة حياة على الأمن القومي.
لقد أساءني جدا ما سمعت من أحد كبار مفكري مصر العظام اليوم وهو يقول لي تصور أنه قد دار بخلدي أحيانا أمنية معينة، وهى أن يحتلنا "أعداء الحق" حتى تنبعث الحياة في هذا الشعب كما كنا في الماضي ونحن نحارب الاستعمار والنظم الوطنية الفاسدة. هذه العبارة قد بلغت المنتهى في التعبير عن قضية الاغتراب واللامبالاة وانفصام الشعب عن إدارة نظم حياته اليومية واندماجه فيها واستمتاعه بها.
إن كان هناك أصوات وكتابات ودراميات تعبر عن تلك المشاكل فهي في النهاية ليست إلا أصوات فردية، واتفقنا أنه مهما بلغ الفرد من قوة وإبداع وتفوق كأحمد زويل فلن يصلح هو المسار العلمي المصري لو كلف بذلك وعمل كفرد، وأعتقد أنه قال مثل هذا أو قريبا منه في سياق استقبالاته الأخيرة في مصر. وللأسف أن هذه الأمور المتعلقة بالأمن القومي لا نندمج في التفكير فيها إلا إذا تعدت المشاكل حدا معينا كأحداثٍ إرهابية، أو انتفاضات معينة، أو حدثت كوارث معينة....إلخ. ومن المؤسف أن مثل هذه الأحداث قد حولت مفهوم الأمن القومي إلى مجرد الحفاظ على استمرار نظام الحكم الحالي وحماية رموزه والقضاء على كل مواطن المعارضة في مهدها. فأصبحنا كما يقال دولة بوليسية يتحكم الأمن في صورة وزارة الداخلية في كل جوانب الحياة الاقتصادية والثقافية والعلمية والتعليمية والترفيهية. ومن الأحداث العجيبة التي حدثت للمؤلف أخيرا أنه قد قدم في بحوث أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا المعلنة بالجريدة الرسمية (الأهرام) للفوز بتنفيذ مشروع بحثي ضمن خطة الأكاديمية البحثية التي تضعها هي بنفسها، وكان عنوان المشروع "الإبداع في العلوم الاجتماعية"، وكان المؤلف محظوظا مع أكاديمية البحث العلمي حيث عمل معها منذ أكثر من خمس وعشرين سنة وكان دائم الفوز بمشروعاتها التي يتقدم لتنفيذها. والمهم أنني قد فوجئت لأول مرة منذ هذه الفترة الطويلة برد الأكاديمية على طلبي هذا بالرفض والسبب هو "عدم موافقة الأمن". وصدق القول الشائع "وشر البلية ما يضحك."
والأمن القومي لم يعد قضية وطنية صرفة تستطيع الدولة بمفردها أن تحققه. فأعداء الحق على سبيل المثال مخطئون تماما إذا ظنوا أنهم بإرادتهم الوطنية الصرفة أو بتدعيم قلة من الدول العالمية سوف يستطيعون أن يقيموا بناءً منيعا من الأمن القومي. فنظرا لتداخل الأمور الإيكولوجية والبيئية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في عالم ما بعد الحداثة وفى عالم الكوكبية المعاصرة، واعتماد هذه الأمور بعضها على البعض، وقيامها على شبكة من العلاقات الدولية، فلا مناص من أخذ ذلك في الاعتبار. وفى الحقيقة لا يمكننا إلا أن نشهد ببراعة السياسة الخارجية المصرية المعاصرة حيث استطاعت أن تجعل من مصر دولة مقبولة عالميا من جميع دول العالم حتى أعداء الحق أنفسهم لا يجدون مسبة تشبع غليلهم، بل وقد وجدوا أنفسهم في حارات مسدودة في كثير من الأحيان مما اضطرهم إلى التنازل عن غطرستهم والاستجابة لمطالب المجتمع الدولي.
وأنا لست من دعاة التخاذل العسكري والاستعداد بأقصى ما نستطيع عسكريا، وخاصة من جانب الإستراتيجية والتخطيط وحسن التدبير والإبداع في تحقيق الردع والهجوم عند الحاجة بأسرع الطرق وأقلها تكلفة، ولا يمكنني كذلك الادعاء بأن القوات المسلحة تخصص لها أكثر مما يجب كما يحدث على مستوى العالم كما ذكرنا أعلاه، إلا أنني أرى بكل ثقة وتأكيد أن الاهتمام العسكري لا يجب أن يصرفنا عن هذه التهديدات المتعلقة بالأمن القومي والتي تتعلق بقضية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تتعامل مع المشاكل المذكورة أعلاه.
وتحتاج هذه القضية إلى اهتمام سياسي وإرادة سياسية وتوجيه الموارد واستنهاض المواهب وتطبيق التقنيات الإدارية اللامركزية واستنفار القدرات العلمية والمعلوماتية حتى نواجه هذه التهديدات غير العسكرية، وتحتاج أكثر ما تحتاج إلى تغيير الهياكل الأساسية لأطر التفكير الاستراتيجي التنموي الحكومي نفسه.
إن تخطيطات واستراتيجيات الأمن القومي يجب أن توجه لتحقيق أقصى درجة ممكنة من الأمن القومي، بما فيه الأمن العسكري، وليس لتحقيق أقصى درجة من القوة العسكرية، كما يفعل أعداء الحق، وإن كانت معايير التنمية أيضا عندهم عالية.
إن الأمن القومي يعيش في مفهومٍ أو في بيئة يمكن تسميتها بـ "الاستدامة". الاستدامة ليست فقط في الموارد المادية والطبيعية وإنما استدامة النظم والقدرات البشرية بالمفهوم الشامل الذي تحدثنا عنه أعلاه ، وهذا هو ما يجب أن تركز عليه أطر التفكير الاستراتيجي التنموي الحكومي كما ذكرت سابقا.
وفى النهاية أختم بهذه الفقرة للدكتور محمد السيد سعيد (1995) في مقاله القيم بعنوان "التكنولوجيا العسكرية":
إن تعاظم الإنفاق العسكري العربي وخاصة في عقد الثمانينات لم يؤد إلى تحقيق المنعة أو توفير خدمة الأمن القومي كسلعة جماعية. بل على النقيض فقد تضاعفت التهديدات الموجهة للدول العربية، وللأمن العربي الجماعي. والواقع أنه يمكن تفسير ذلك تفسيرا ميكانيكيا بالقول بأن تضاعف المخاوف والتهديدات قد ترتب عليها تضاعف الإنفاق. غير أننا لا نجد أي صلة تؤكد هذه السلسلة السببية. وعلى العكس، فإن هناك ما يشير إلى سلسلة عكسية! أي أن تضاعف الإنفاق العسكري بحد ذاته كان مولدا لشعور عميق بعدم الأمن ولتضاعف التهديدات. وفى كل الأحوال لا نجد أن تعاظم الإنفاق العسكري قد أدى لتعظيم الشعور بالأمن، وهو ما يعنى أن علينا أن نبحث عن تحقيق هدف الأمن الوطني والقطري بوسائل ومداخل أخرى غير زيادة الإنفاق العسكري.
وهكذا يمكن تعريف الأمن القومي كما يلي:
الأمن القومي هو الإشباع المستدام لمتطلبات المجتمع القومي لتحقيق البقاء والفعالية في تحقيق الغايات العليا في إطار التواؤم والتوازن الديناميكي مع منظومة القوى والعلاقات الدولية. |
|||||
|
والذي يتحقق من خلال <!--<!-- |
|
|||
المنظومة البنائية والوظيفية المعلوماتية التي تستطلع وتتوقع وتقيم التوجهات المستقبلية المحلية والوطنية والعالمية، وتوجه السياسيين وصانعي القرارات ومتخذيها لتقييم وتطوير الرؤى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية الحاكمة لعملية التنمية الوطنية وتفعيلها في إطار التواؤم والتوازن الديناميكي مع منظومة القوى والعلاقات الدولية. |
|
||||
|
ومن ثم |
|
|||
فيجب إنشاء منظمة عالية المستوى، على غرار مراكز التميز Centers of excellence، لا تقل في حجمها عن إحدى الجامعات الكثيرة التي انتشرت في كل مكان، ولا تقل في إمكاناتها عن أثرى هذه الجامعات حكومية كانت أم أهلية، ولكن تجمع في حرمها المواهب الوطنية الفذة من الشباب والخبراء والحكماء في الخمسة قطاعات سابقة الذكر أعلاه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية، على أن تعمل بأرقى وأصح المفاهيم الإدارية التي تعتمد على تكامل عملهم وتفاعله واندماجه لتحقيق الأثر التفاعلي Interaction effect الناتج عن التآزر والتعاضدSynergy بين هذه القطاعات بحيث تكون قراراتها وتقاريرها صادرة عن المنظمة وليس عن قطاع من هذه القطاعات. وتنشأ هذه المنظمة تحت مسمى "المركز الوطني للأمن القومي" أو ما شابه ذلك. |
|
||||
المراجع
سعيد، محمد السيد (دكتور)، "الموضوع الأكثر استراتيجية عل جدول الأعمال المصرى: الانطلاق، إعادة الهيكلة، والتحديث الصناعى"، ورقة عمل مقدمة فى ورشة العمل الثالثة حول الاختيارات التكنولوجية لمصر، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، 19 أغسطس 1995.
Winthrop, Henry. Ventures in Social Interpretation. New York: Appleton-Century-Crofts, 1968.
Warner, Keith W. and J. Lynn England, "a technological science perspective for sociology," Rural Sociology 60(4):1995, 607-22.
Huddle, Frank P., "the national policy for materials," Science, February 20, 1977.
Sivard, Ruth Leger. World Military and Social Expenditures 1974. Lessburg, Va: WMSE Publications, 1974.
<!--[if !supportFootnotes]-->
<!--[endif]-->
<!--أنظر:
Erikson, Kai T. A New Species of Trouble: The Human Experience of Modern Disasters. New York: Norton, 1994. Sachs, Wolfgang (ed.) The Development Dictionary: A Guide to Knowledge as Power. London: Zed Books, 1992. Schumacher, E. F. Small is Beautiful: Economics as if People Mattered .New York: Harper & Row, Inc, 1989.أأأ ننن
Heibroner, Robert L. "So machines make history?" Pp. 53-65 in M. Smith and L. Marx (eds.) [1967] Does Technology Drive History? The Dilemma of Technological Determinism. Cambridge: M.I.T. Press, 1994. Westrum, Ron. Technologies and Society: The Shaping of People and Things. Belmont, CA: Wadsworth, 1991.
ساحة النقاش