نجاح الثورة وأكذوبة سقوط الدولة
بقلم
أ.د. محمد نبيل جامع
أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية
0127435754
28 أكتوبر 2011
أتاحت لي الفرصة في الأيام الأخيرة أن أتقابل مع مجموعة من معارفي الذين كانوا يشاركون في نهب ثروة مصر، والذين لم أقابلهم منذ اندلاع ثورة يناير، ففوجئت بتغيرات نفسية وجسدية واضحة، وقد ظهرت عليهم بشكل يدعو للشفقة. ولم أُظهر لهم مدى دهشتي بتلك التغيرات الواضحة حتى لا يشعرون أنني أتشفى فيهم. فمنهم من أصبح عصبيا متحفزا يدافع عن خيبة أمله بطريقة هَوَسِية، ومنهم من بدا عليه الاكتئاب، ومنهم من اسود وجهه بعد أن كانت الدماء تصبغه بحمرة الصحة والعافية، ومنهم من جف جلد وجهه وبرزت عظام وجنتيه. وفوق هذا وذاك، كان الواحد منهم ينظر إلي نظرة المهزوم إلى نده المنتصر. هنا أدركت الحال المزري الذي يكون قد وصل إليه أسيادهم الأباطرة الذين كانوا يلتهمون اللحم المميز ويرمون لهم العظام والشغت والدهن، فقلت "سبحان مغير الأحوال" واطمأننت وتفاءلت أكثر على مستقبل مصر بعد هذه الثورة الشبابية والشعبية العظيمة.
أدرك تماما الأحوال المضطربة التي يموج بها المجتمع المصري بعد انقضاء تسعة أشهر منذ الثورة، وأقول سامح الله الإدارة غير الفعالة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، ذلك المجلس الذي يمتلك السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية مائة في المائة، بل ويمتلك أيضا في تقديري ما هو أكثر من 50% من السلطة القضائية، سواء من خلال النيابة والقضاء العسكري أو من خلال تأثيره على القضاء المدني، هذا التأثير الذي تمثل في صورته الفجة في تحويل قضية قتل المتظاهرين في ماسبيرو من القضاء المدني والنيابة المدنية إلى القضاء العسكري. والذي أتعجب له هو كيف يتحمل المجلس الأعلى للقوات المسلحة هذا الفشل الإداري والاستمرار فيه؟ ثم كيف يتحمل هذا النقد الشعبي الهائل لأدائه السياسي؟ وكيف يتحمل أن تكون المكاسب القليلة التي تحققت بالنسبة لمطالب الثورة وأهدافها تكون قد تحققت إما بضغط الاحتجاجات المليونية الشعبية أو بالقضاء المدني وليس بإرادته؟ وآخر هذه المكاسب الحكم بحق تصويت المصريين العاملين في الخارج في مقار سفاراتهم وإلزام الحكومة بتحقيق ذلك.
التاريخ سوف يأسف أن يسجل بكل تأكيد الموقف المجهض لثورة يناير من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة والمشير طنطاوي بصفته الشخصية كقائد أعلى لهذا المجلس. ولكن الذي أتعجب له هو الكيفية التي يغفل فيها، أو يتجاهل الاحتمال القوي الذي يمكن أن يحدث من جانب المتحمسين الغاضبين اليائسين من الشعب المصري الذين قد يلجئون إلى العنف والاغتيالات لرموز النظام القديم والمدافعين عنه مما قد يؤدي إلى مذبحة لا أتصور أبدا أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة سيكون راضيا عنها أو متحملا لها. وقد هدد بعض القيادات الثورية العليا صراحة بثورة المليون شهيد على المجلس العسكري إن لم يسلم السلطة في يناير أو إبريل 2012. إني أدعو المجلس العسكري أن يفكر جديا في هذا الموقف خاصة وأن الشعب المصري لم يعد كما كان قبل الثورة.
وحتى لا يشتعل الموقف في هذا الاتجاه الانتحاري المحتمل، وتهدئةً للأمور، وتأكيداً أيضا على واقع موضوعي أود أن أؤكد على حقيقة قائمة وهي نجاح الثورة الينايرية المستنيرة، وعلى أكذوبة ما يدعيه أو يشيعه البعض من "سقوط الدولة" كتكأة تهديدية لعودة النظام القديم:
<!--الثورات ظواهر صحية في تاريخ الشعوب، فلولاها ما تحررت تلك الشعوب. الثورات كحرائق الغابات، تجدد حيوية الغابة وتبعث الحياة فيها بعد الذبول والوهن. الثورات كالزلازل والسوناميات والبراكين تتخلص من الضغوط الهائلة وتطلق الطاقات الفائضة فتسكُن الكرة الأرضية وتستقر حفاظا على سلامة قاطنيها وصونا لحياتهم. والثورات، شأنها شأن تلك الحرائق والزلازل والبراكين، لها توابع متكررة، ولكنها ضعيفة الأثر وسرعان ما تنتهي تماما. إن ما نعيشه الآن في مصر خلال تلك المرحلة الانتقالية هي من نوع تلك التوابع الثورية.
<!--لا تسقط الدول بالثورات وتوابعها، وإنما تسقط بسوء الإدارة والحكم. تسقط الدول كما سقط الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية بزوال كيانها الأصلي وتفتتها إلى دويلات أصغر، وهنا لا تستثنى السودان في آخر مشهد من مشاهد سقوط الدول بعد انقسامها إلى دولتي الشمال والجنوب. تسقط الدول بسبب غياب الحكم الرشيد، ذلك الحكم الذي ذكرناه تفصيلا في مقال سابق، وقلنا فيه أن المجلس العسكري بثقافته وعقليته العسكرية يستحيل عليه تحقيق هذه المطالب وتلك المقومات العشرة للحكم الرشيد، ومن ثم فيطالب الشعب والخبراء السياسيون والاجتماعيون بسرعة تسليم السلطة للحكم المدني القادر على تحقيق تلك المقومات والتي نذكر مسمياتها فقط في هذا المقال:
<!--توافر الإرادة السياسية المخلصة.
<!--توافر الرؤية وإرادة الفعل وليس مجرد رد الفعل.
<!--مبدأ المشاركة وثقافة العمل الجماعي.
<!--تأمين الحقوق الإنسانية.
<!--الشفافية.
<!--المسئولية (المحاسبية) وفعالية الثواب والعقاب.
<!-- تحقيق التوافق أو الإجماع النسبي.
<!--الاستجابة للمطالب الشعبية وحقوق الرعية.
<!--العدالة والرعاية الشاملة.
<!--الكفاءة والفعالية.
<!--كانت ليبيا دولة هلامية المؤسسات، وبالرغم من جنون حاكمها وإهراق دماء شعبها فلم تسقط تلك الدولة، ولن تسقط اليمن أو سوريا بإذن الله. إذا كان الأمر كذلك فما بالك بمصر، تلك الدولة العتيدة ذات المؤسسات الراسخة، بل ونتذكر هنا أيضا لبنان وحربها الطائفية المدنية الرهيبة، والتي كانت تختلط فيها حركة القنابل والقتل والتخريب بحركة المؤسسات التعليمية والدينية والاقتصادية والسياسية والأسرية، ولم تسقط لبنان. الدول نظم عملاقة لا يسقطها إلا غياب الحكم الرشيد بصورة مزمنة.
<!--لقد ذُبح النظام السابق. لقد ذُبح ذكر الإوز، ولكنه لا زال يتحرك مختالا بين سربه القديم، ولكنه راقد .. راقد.. لا محالة إلى مثواه الأخير. لقد تحرك قطار الثورة ولن يتوقف. لقد عادت الروح إلي شعب مصر الجميل، ولن يوئدها فلول أو مخربون أو حاقدون أو جشعون شرهون أو أغبياء متطرفون. لقد اكتشف المصريون أنفسهم العظيمة، واكتشفوا مواقيت الهمة الجمعية والوحدة الوطنية، اكتشفوا أين ومتى ينفخون "بروجي" الجمع، وأين ومتى يدقون طبول الزحف المقدس نحو تحقيق ما فقدوه، وأعادته لهم الثورة الينايرية المستنيرة من كرامة وانتماء وفخر، وما سوف تقودهم إليه من عزة وقوة ومنعة وحرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية. لقد اكتشف المصريون أنهم ظلموا، ظلموا بالتخلف الذريع، وهم أحق شعوب العالم بالسبق والحداثة والقيادة. مصر، أم الحضارة وأم الأديان وأم الدنيا تدين اليوم لثورتها العظيمة وشبابها الأفتياء وشهدائها الأبرار. واذكروا عبارة الدكتور القصبي زلط "واعتبروا يا أولي الأبصار،" ومعها قولة الزعيم مصطفى كامل "لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة."
ساحة النقاش