برجاء نشر هذا المقال أو نشر معانيه
العاشرة مساءً، لواءان وإعلاميان.. وتمخض الجبل
بقلم
أ.د. محمد نبيل جامع
أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية
0127435754
20 أكتوبر 2011
بعد ثلاث ساعات "مشفية" ونحن نتوقع "المصارحة مع المجلس العسكري في العاشرة مساءً"، كما كان عنوان الحلقة، تمخض اللقاء فولد ..... كان عنوان اللقاء من البداية "توتر وتنمر ودفاع واستفزاز". كان اللواء محمود حجازي عسكريا ملتزما بمعنى الكلمة هادئ اللحن، صارم النص، أما اللواء محمد العصار فكان على غير عادته الهادئة جدا متوتر الطلعة متحفز الطالع، وكانت الإعلامية منى الشاذلي حريصة على تحقيق الصراحة في الحلقة كما وعدت وأطلقت مسمى "المصارحة" على عنوان حلقتها، وكان الإعلامي القدير إبراهيم عيسى كطبيعته استفزازيا يحاول أن يدق على الأوتار الحساسة، ولكن كان التوتر والتوجس، بل والخوف يبدو على الجميع وخاصة الإعلاميين القديرين عيسى ومنى. بصراحة كان الجانبان "ممثلا المجلس العسكري"، من ناحية، والإعلاميان "ممثلا المشاهدين"، من ناحية أخرى، صورة مصغرة للعلاقة بين الحاكم (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) والمحكوم (الشعب). حاول الشعب أن يعبر عن أوجاعه ويشكوها للحاكم، ولكن كان الحاكم لا ينصت، ويقول ما يريد أن يقول، وهو معذور فهو حاكم عسكري.
كانت أحداث مذبحة ماسبيرو في يوم الأحد الحزين وتبعاتها مسيطرة على اهتمامات اللواءين الكريمين مما أدى إلى استهلاك وقت طويل من جانبهما في الدفاع عن القوات المسلحة مما أعجز الحلقة عن تناول القضايا الجذرية وراء الأداء الهزيل لإدارة المرحلة الانتقالية وجمود سياساتها عن تحقيق مطالب الثورة أو على الأقل إحياء روح الثورة وبث الأمل في نفوس الشعب ليصبر علي هذا الأداء الهزيل.
أكد اللواءان الكريمان على مدار الحلقة بصورة فاقت الحدود، حدود الوقت والتنظيم، على العلاقة بين الجيش والشعب، وهو أمر لا يستحق التركيز عليه على الإطلاق، فهو أمر واقع، لأن الجيش هو الشعب، هو الشعب الذي مثلته بائعة الفول التي وزعت قوت يومها على مجموعة من الجنود كما قال اللواء محمود حجازي، هو الشعب المجند (أكثر من 400 ألف مجند) دون أجر يذكر، ومعهم ضباط الصف والضباط الشباب بمرتبات ومزايا عادية تتفوق عليها منافع فئات أخرى في الدولة.
كان الإعداد للحلقة من جانب إدارة البرنامج بما فيها رؤية المذيعة اللامعة منى الشاذلي ضعيفا للغاية مما أدى بصورة أساسية إلى تواضع الفائدة المتوقعة من تلك الحلقة. حاولت منى الشاذلي أن تحقق المصارحة بحشر بعض أسئلة المشاهدين التي تزاحمت على صفحة الفيسبوك بما تعدى ثلاثة آلاف متداخل، وما كانت النتيجة إلا عدم صبر اللواءين الكريمين على استمرار عرض الأسئلة والتعليق عليها بأنها أسئلة مختارة من جانب المعارضين للمجلس العسكري. ولو كان الإعداد جيدا لأمكن للمذيعة أن تقول أن النسبة المئوية للمعارضين أو المتشككين كذا في المائة، وتلك الخاصة بالمؤيدين للمجلس العسكري كذا في المائة. كان من الممكن أن يتم الاتفاق من جانب معدي البرنامج مع اللواءين الكريمين على الموضوعات التي سيتم تناولها والتوقيت المحدد لكل موضوع حتى تستوفي الساعات الثلاث القضايا المهمة، وليس مجرد ما يراد إعلانه فقط.
إن أعظم ما قيل في هذه الحلقة كلمة قالها اللواء محمود حجازي وهي أن الجيش مدين للشعب المصري، وضرب المثل بموقف الشعب بعد حرب 67 ودعمه للجيش، وموقفه في حرب الاستنزاف قائلا أن عدد الشهداء المدنيين أثناء تلك الحرب كان أكثر من عدد الشهداء العسكريين، بالإضافة إلى مثال بائعة الفول سابق الذكر أعلاه. ومن عجائب الصدف أن هناك مقالا غير مكتمل لي من قبل تلك الحلقة وهو بعنوان "الدين المستحق على المجلس الأعلى للقوات المسلحة"، وهو المقال الوحيد الذي لم أتمه بعد أن شرعت في كتابته. اللواء محمود حجازي يقر بالدين، ولكن عليه أن يرده بالكيفية التي يمكن أن تكون في ذلك المقال المزمع والتي تتمثل في الانحياز الكامل للشعب وثورته ومطالبها وغاياتها.
هذا الدين المستحق بشر به اللواء محمد العصار بأنه الشروع في الانتخابات البرلمانية الحالية ثم بناء الدستور ثم إعلان الترشح لمنصب الرئاسة في اليوم التالي لإقرار الدستور، والإقرار بأن الجيش ليس له طموحات سياسية، والتأكيد على مدنية الدولة وتحديد منتصف 2013 كميعاد للانتهاء من الدستور ثم الشروع في انتخابات رئاسة الجمهورية وتسليم السلطة والعودة لثكناته. هذا وقد دافع اللواء العصار عن الحكومة الهزيلة للدكتور شرف والاعتزاز بشخصية الدكتور حازم الببلاوي كعضو بها والإيحاء بأن الرجل فوق النقد والتشكك من جانب الشعب (وربما هذا كان ما وراء عدم قبول استقالته)، وكما لو كان الدكتور الببلاوي أول الحاصلين على جائزة نوبل في الاقتصاد، ونحن لنا على سياسته وفكره ملاحظات علمية خطيرة. ويكفي اللواءين أن يعلما أن بعض العلماء الاقتصاديين أمثال إي إف شوماخر يحذرون من تفويض إدارة اقتصاد الدولة إلى الاقتصاديين فقط.
ولا يرى اللواءان الفاضلان حلا لمواجهة الجمود، بل والتدهور الاقتصادي والسياسي والانحلال الاجتماعي والأمني الذي نحن فيه الآن، والذي ورثناه من الدكتاتور المخلوع، إلا أن يتوقف المعتصمون والمحتجون والمتظاهرون والمطالبون بمطالب فئوية عن ذلك، والتوجه نحو العمل ... العمل ... العمل ... مما أدى بالإعلامي إبراهيم عيسى أن يوجه نفس النداء العمل .. العمل.. إلى المجلس العسكري نفسه أيضا في آخر كلمات الحلقة. ترتعد فرائصي إن كان هذا هو الحل فقط طيلة الفترة الباقية حتى 2013 ونحن تحت هذه الفلسفة الإدارية العسكرية، "إطاعة الأوامر والعمل دون شكوى ثم التظلم بعد ذلك، أي بعد 2013".
لقد خلت الحلقة من الحديث عن آمال الشعب وطموحاته وقواه السياسية الفاعلة الآن والشخصيات المؤثرة في ميلاد الثورة وحركتها، كما خلت من بث الأمل واستمرار الروح الثورية لدي الشباب والشعب المصري، كما خلت من الحلول والبدائل المتاحة لإدارة الدولة، وأكدت تماما على الإصرار على سياسة المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإدارة المرحلة الانتقالية، وهي بكل تأكيد التمسك بالفشل، وعدم الاستجابة للمطالب الشعبية والسياسية، وهذا أمر تعدى حتى الثقافة العسكرية التي تؤكد على الشؤون المعنوية ورفع الروح المعنوية بين أفراد الجيش وكوادره. أما ما يحدث مع الشعب المصري الآن فهو عين الدكتاتورية.
ساحة النقاش