(( أنطولوجيا السرد العربي )) الأستاذ نقوس
 المهدي .. يحاور :   " العقاد الثاني "
 القاص والشاعر السوري العصامي 
                  مصطفى الحاج حسين .
------------------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين أو " العقاد الثاني "
 كما يحلو للأدباء تسميته، أديب عصامي من
 مواليد حلب سنة 1961 ، انقطع عن
 الدراسة في حدود المرحلة الابتدائية ، و
 ألتحق بمهنة البناء رفقة والده .. بدأت
 موهبته الادبية تظهر في سن مبكرة .. من
 خلال شغفه بقراءة القصص والروايات
 والشعر.. في هذا الحوار يفتح لنا الاستاذ
 مصطفى الحاج حسين قلبه ليطلعنا على
 تجربته الابداعية بصدر رحب وبأريحية
 معهودة فيه .. وببسط معاناته مع الكتابة
 ومكابداتها و الهجرة والغربة القسرية وما
 يليها و التي اضطرتها الظروف التي تعيشها
 سوريا .
- أجرى الحوار لموقع ( أنطولوجيا السرد
 العربي ) نقوس المهدي
*************************:*********
** - مصطفى الحاج حسين الإنسان والمبدع
 صفتان إنسانيتان تتضافران لصياغة
 شخصية عصامية يصفها النقاد ( بالعقاد
 الثاني) ماسر هذا اللقب؟
- منذُ أدركتُ فداحة غلطة أبي بحقّي، حين
 حرمني من المدرسة لمساعدته في عمله،
 وبالتالي لتحسين دخله. أمّا أخي الأكبر فقد
 وجد مخرجاً له في متابعة دراسته في دار
 المعلّمين، وكان لها نظام داخلي، صار أخي
 وزملاؤه يتهرّبون من مجالستي ورفقتي،
 بحجّة أنّهم مقبلون على الامتحانات، لأنّ
 وجودي معهم صار يؤثّر، كما يبدو لهم، على
 دراستهم وتركيزهم، وبالتالي سأتسبّب في
 ضياع وقتهم. في تلك الأثناء أحسّستُ
 بالغيرة والضّيق والانزعاج والاختناق، فأنا
 بنظرهم مجرّد عامل بناء، وهم طلبة، أي هم
 يشكّلون مستوى آخر، أرفع وأعظم، ولهذا
 وجدتُني وبدافع التّحدّي وردّ الاعتبار أبادر
 لكتابة أوّل قصّة لي، كانت تشبه المسرحية،
 ثمّ اقتحمت على أخي ورفاقه جلستهم
 وعرضت عليهم ما كتبت، فأعجب أخي
 وأصحابه بما كتبت، بل قمنا بتحويل
 القصّة.
 إلى تمثيلية، وتمّ توزيع الأدوار، حيثُ قام
 أخي بمهمّة الإخراج وبتأليف موسيقى
 تصويريّة للعمل، ثمّ سجّلناها على شريط
 كاسيت. وهكذا أعادوني إلى صحبتهم
 والسماح لي بمجالستهم، وصرتُ أمضي
 الوقت والسّهرات معهم، وأنا أقرأ، مثلي
 مثل أيّ طالب مدرسة، وأثبتُّ لهم بأنّي
 لست بالجليس الضّارّ والمتسبّب باللهو
 وضياع الوقت لهم. اندفعتُ للمطالعة
 والكتابة، لدرجة أنّ أصدقاء أخي استنكروا
 عليّ الأمر، وراحوا يشكّون بأنّي أقوم
 بسرقة قصائد «نزار قباني» وأنّني أنسبها
 لي، فذهبوا إلى أستاذهم يسألونه: (هل من
 المعقول أن يكتب هذه القصائد فتى لا
 يتجاوز الرابعة عشر من عمره، يعمل في
 البناء، ولم يحصل على وثيقة الإبتدائي؟!)
 ومن حسن الحظّ أنّ أستاذهم في دار
 المعلمين، كان ناقداً وروائيّاً كبيراً ومعروفاً
 على مستوى الوطن العربي، وهو الأديب
 «نبيل سليمان»، وحين عرفَ من أخي أنّي
 مولع بالقراءة ولا أتوقّف عنها، قال: (هذا
 ممكن.. طالما هذا الفتى يقرأ ويثقّف نفسه،
 ثمّ أنّ الموهبة لا علاقة لها بالشهادات
 المدرسية). وهكذا وصلني أوّل وأعظم
 وأهمّ تشجيع من ناقد وأديب مهمّ
 ومعروف، وله قيمته. كانت القراءة
 هاجسي، ولذّتي، ومتعتي، وسعادتي، وكلّ
 شيء في حياتي، أشتري الكتب والجرائد
 والمجلّات، بكلّ ما أحصل عليه من نقود ،
 فقد كان والدي يمنحني نصف أجرتي،
 وكنت أبخل على نفسي بشراء المأكولات
 والشطائر والألبسة والأحذية في سبيل
 شراء الكتب والدّواوين الشعرية، وخاصّة
 الأعمال الكاملة، ذات الجلد الأحمر... وكان
 أخي يستعير لي الكتب القيّمة والمهمّة
 والتي تهمّني وتفيدني من مكتبة دار
 المعلمين، حيث كانت المكتبة ضخمة وغنيّة
 بكنوز من الكتب الأدبيّة والفكريّة
 والتاريخيّة. أعمل مع والدي في البناء،
 أحمل الأحجار الثقيلة طوال النهار، وأكون
 على مرّ الدوام شارداً وحالماً في الكتابة،
 فلقد عزمتُ على أن أكون شاعراً كبيراً مثل
 «نزار قباني»، وحين تداهمني جملة
 شعريّة، أظلّ أردّدها لكي لا أنساها - ومع
 هذا كم ضاعت منّي جمل وصور شعرية
 ونسيتها، لأنّي لم أتمكّن من تسجيل ما
 يأتيني من إلهام مباشرة، فقد ضاع عنّي
 ومنّي الكثير، من الصور الشعريّة العظيمة
 التي لا يمكن لها أن تعوّض... لذلك كنتُ
 ألجأ أثناء عملي، حين تداهمني قصيدة، أو
 مقطع منها، إلى حفر كلماتها بالمسمار على
 الجدران الطّرية التي لم يجفّ إسمنتها بعدُ،
 وفي اليوم التالي كنت أحضر دفتراً وقلماً
 لأنقل ما كنت حفرته بالأمس على الحائط،
 دون أن ينتبه أبي طبعاً، لأنّه كان ينزعج
 ويغضب ويعتبرني مقصِّراً في شغلي. من
 روعة حظّي أرسلَ لي اللهُ أخاً يكبرني بهذه
 الروعة والمستوى، فهو مثقف وموهوب في
 الغناء والموسيقى، وهو محبّ للأدب والفكر
 والفلسفة وعلم النفس... وكان دائماً
 يشجعني ويحثّني ويدفعني للمتابعة،
 ويطلب منّي أن لا أكون جاهلاً مثل العمّال
 الذين يعملون مع أبي، وأن لا أتأثّر بهم
 وأقلّدهم في تصرّفاتهم المتخلّفة. كان
 يسأل أساتذته في دار المعلمين عن أهمّ ما
 يحمله لي من كتب من المكتبة، وكنت
 أتلقّفها بنهمٍ شديد... كتب عربية ومترجمة.
 كان شغلي الشاغل التعرّف على كلّ أدباء
 مدينة حلب، بل على كلّ من يهتمّ ويحبّ
 الأدب، لذلك توسّعتْ علاقاتي وصداقاتي
 مع الكثير من المبدعين والمثقّفين،
 وتعرّفت على أشخاص يهتمّون بالثقافة
 والسّياسة، لذلك توجّهت لألتهم الأدب
 الروسي، لدرجة أنّي كنت لا أنام، بعد نجيب
 محفوظ، وحنّا مينه، وزكريا تامر، ومحمود
 درويش، عشقتُ الأدب الروسي، وأكثرهم
 «دوستوفسكي» و«تشيخوف»، أفتتح كتباً
 عديدة لأقرأها دفعة واحدة، رواية، قصصاً،
 شعراً، مسرحاً، نقداً أدبياً، مذكّرات، كتباً
 تاريخيّة، وعلميّة، وسياسيّة، وفنيّة، حتّى
 إن تعبتُ من كتاب، أنتقل إلى غيره من
 غير أن أضيّع وقتي، وكانت إذا انقطعت
 الكهرباء أقرأ على ضوء الشّموع أو «البيل»،
 ومطلوب منّي الاستيقاظ باكراً للذهاب
 للعمل المتعب والذي لا أحبّه. وبدأت
 المشاكل بيني وبين أبي لأنّي بدأت أتمرّد
 وأتهرّب من العمل معه، وكانت المشاكل
 تنعكس على أمّي وأخوتي وأخواتي، فنحن
 ستّة ذكور وستّ أناث، عائلتنا كبيرة،
 ومشاكلنا كثيرة لا تتوقّف ولا تنتهي...
 وبدافع الخوف عليّ من الجنون والهستيريا
 من قبل أمّي وأبي اللذين يعتبران كثرة
 القراءة والكتابة وقلّة النوم تؤدّي حتماً إلى
 ضياع العقل والجنون، فلجآ إلى المشايخ
 ورجال الدّين، لكتابة الحجابات والتعاويذ
 لتحميني وتبعدني عن الهوس الأدبي الذي
 يخشون منه ولا يحبّونه. ففي الوقت الذي
 كانوا يتضايقون وينتقدون أخي لأنّه لا
 يولي دروسه الاهتمام الكافي، فهو يمضي
 جلّ وقته بالغناء والعزف على آلة العود،
 ومحاولات التلحين، كانوا يتضايقون من
 سهري وشغفي بالمطالعة التي لا تقدّم ولا
 تؤخّر طالما أني لستُ طالباً مدرسيّاً، بل
 عاملَ بناء وعليّ أن أنهض باكراً للذهاب مع
 والدي إلى العمل... كنت أقول لهم: (لا
 عليكم... ولا علاقة لأحد بي... سوف
 أستيقظ دون أن أعذّبكم وأذهب للشغل)
بفضل أخي كنت دائماً ألتقي وأصادق من
 هم أكبر سنّاً منّي وأكثر وعياً وثقافة،
 وكانوا يحبّونني ويشجّعونني على
 المواظبة والاستمرار، وكنتُ أستفيد من
 نقاشاتهم وملاحظاتهم، وهم يدلّونني دائماً
 على كتب جديدة ومهمّة، عربيّة ومترجمة.
 هكذا كانت البدايات، قبل أن أندلّ على مقرّ
 «اتّحاد الكتّاب العرب». وكان لوصولي إلى
 اتّحاد الكتّاب العرب، قصّة لا أنساها أبداً...
كنت أتردّد على مكتبة تبيع الكتب الأدبية
 والجرائد والمجلات، وحدث وكنت هناك
 أتفحّص الكتب وأقرأ العناوين لأنتقي
 وأشتري ما يعجبني، وفجأة تنبّهت إلى
 شخصٍ يعطي نسخا من مجموعة شعرية
 لصاحب المكتبة، ليعرضها له للببع، فأخذتُ
 أراقب وأستمع لحديثهما، حتّى تأكّدتُ أن
 هذا الأستاذ، هو الشاعر صاحب المجموعة
 الشّعرية... اقتربت منه، ألقيت عليه التّحية
 بارتباك... وحين ردّ عليّ ولمست منه
 الطّيبة. والتّواضع، سألته: (أستاذ هل أنت
 شاعر؟ وهل هذه المجموعة الشعرية لك؟
 أجابني: (نعم... أنا الشّاعر الفلسطيني
 «عصام ترشحاني»). قلت بصوتٍ متلعثم :
 (أستاذ أنا أكتب الشّعر منذ سنوات، ولكنّي
 لا أعرف إلى أين أتوجّه، وعلى من أعرض
 شعري). قال لي: (تعال إلى اتّحاد الكتّاب
 العرب، وهناك نسمعك وممكن أن نفيدك).
 فرحت كثيراً حين دلّني على الاتّحاد
 ووعدني أن يكون بانتطاري يوم غد.
عدتُ إلى المنزل وأنا في غاية السّعادة
 والفرحة، لأوّل مرّة في حياتي أقابل شاعراً
 حقيقيّاً مشهوراً، وله كتب مطبوعة ينشر
 في الجّرائد والمجلات... وكانت فرحتي
 أعظم لأنّي سأذهب حيث يجتمع الكتّاب
 وأسمعهم ما أكتب.
وكنّا في حارتنا أنا وأخي والعديد من
 الأصدقاء نلتقي يومياً مساء، في بيت واحد
 منّا... واليوم حين التقينا حدّثتهم عن لقائي
 بالشّاعر عضو اتّحاد الكتّاب وعن موعدنا
 في يوم غد، في مبنى الاتّحاد... وهنا طلبوا
 من صديقنا طالب الطّب، الذي نال الدّرجة
 الأولى على القطر السّوري بنجاحه في
 شهادة البكلوريا... وكان صديقنا هذا أكبر
 منّي بالطبع وهو يكتب الشّعر العمودي،
 وكان الجّميع يعتبره نابغة عصره ليس
 بسبب شعره، بل بسبب نيله الدّرجة الأولى
 في البكلوريا. أقول لهذا كانت الاقتراحات
 من الأصدقاء أن يذهب معي وَيُسْمِعَ الأدباءَ
 شعرَه، كما سأفعل أنا.. ووجدّت الفكرة
 جيّدة، لأنّي لو ذهبت لمفردي سوف يكون
 الأمر صعباً عليّ ومحرجاً.. بينما أكون
 متشجّعاً لو كان برفقتي.. وهكذا اتّفقنا
 وذهبنا في مساء اليوم الثاني معاً. وذهبنا،
 ودخلنا مقرّ الاتّحاد، وتطلّعتُ فوجدْتُ في
 الغرفة الواسعة عدداً غفيراً من الأساتذة،
 انكمش قلبي، شعرتُ بالحرج والخجل،
 وأردتُ العودةَ والهرب، من هذا المأزق الذي
 أوقعت نفسي فيه.. لكنّ الأستاذ «عصام»
 كان قد شاهدني، وربّما أحسّ بما أنا عليه
 من ارتباك وحرج، فناداني... فاضطررتُ
 للدخول أنا وصديقي طالب الطّب... سلّمنا
 على الجّميع، وجلسنا وكنّا في غاية التهيّب
 والحرج. الغرفة مليئة بالأدباء، وكانت بينهم
 أديبة عرفتها فيما بعد، وهي الكاتبة «ضياء
 قصبجي»، قال لهم الأستاذ عصام: (هذا
 الشّاب يكتب الشّعر، ويريد أن يسمعنا شيئاً
 من كتاباته، ليعرف رأينا). التفتوا نحوي،
 انقبض قلبي، تضاعف حرجي، ازداد
 خجلي، انبثق العرق يزخّ منّي بغزارة...
 سألني أستاذ، جميل الشّكل، يصلح أن
 يكون ممثّلاً من فرط أناقته وجماله وروعة
 نظارته، وعظمة غليونه، وقد عرفت أسمه
 فيما بعد، وهو الأديب الكبير الأستاذ «وليد
 إخلاصي»: (ماذا تدرس؟). قلت بصوتٍ
 متلعثم ومرتجف: (أنا لا أدرس... تركت
 المدرسة قبل أن أحصل على الابتدائيّة،
 وأعمل في مهنة العمارة). ارتسمت الدّهشة
 على الأوجه، وازداد الاهتمام من قِبَلِ
 الجّميع، وبدأت الأسئلة تنهال عليّ من
 الجميع. وحين عرفوا قصّتي، طلبوا منّي أن
 أسمعهم ما عندي. أردتُ أن أتدارى أولاً
 بصديقي، لكي أستمدّ منه الشجاعة، فأنا
 غير واثق من قراءتي، حتماً سأخطئ في
 النّحو، وهنا مكمن ضعفي وعدم ثقتي
 بنفسي، فقلت: (هذا صديقي، وهو طالب
 سنة أولى طب بشري، وقد نال الدرجة
 الأولى على سورية في نجاحه بشهادة
 البكلوريا.. وهو أيضاً يكتب الشعر الموزون،
 وعنده ديوان ضخم). وهكذا استطعت أن
 أجعله يبدأ قبلي بإسماعهم قصيدة كان
 يعتبرها من روائعه، فهي لا تقلّ عظمة عن
 شعر المتنبي، على حدّ زعمه هو
 وأصدقاؤنا. ولكنّي وجدت منهم عدم
 الانشداد والاهتمام، حتّى أنّهم لم يطلبوا
 منه أن يسمعهم قصيدة ثانية. جاء دوري
 أخيراً، بدأت أقرأ، بالتأكيدِ كان وجهي
 محمرّاً، وصوتي مرتجفاً.. ولكنّي لمحت
 إطلالةً لبعض الابتسامات، وبريقاً في
 العيون، واهتزازاً بالرؤوس، وهذا ما
 أراحني، وجعلني أتنفّس وتتسرّب إليّ
 الطمأنينة... وحين انتهيت، وقبل أن أجمع
 أوراقي، طلب منّي أحد الأساتذة أن
 أسمعهم قصيدة ثانية... وكان هذا الأستاذ
 هو الشاعر «سعيد رجّو» كما عرفتُ فيما
 بعد، وهو شاعر عصامي معروف، وهذا كان
 سبباً لي لتزداد شجاعتي وثقتي بنفسي
 وفي المستقبل. أسمعتهم ثلاث قصائد...
 واستطعت أن أنال التعاطف والاستحسان...
 في حين لم توجّه أيّة كلمة طيّبة لصديقي
 طبيب المستقبل. وطلب مني الشّاعر
 «سعيد رجو» والأستاذ «عصام ترشحاني»
 أن أبقى أتردّد على اتّحاد الكتّاب، لأحضر
 الأماسي والنشاطات التي تقام بشكل
 أسبوعي. وصرت دائماً أذهب وأسمع ما
 أكتب للأستاذ «سعيد رجو» الموظّف
 بالاتّحاد، وكذلك للأستاذ «عصام»، وكانا لا
 يبخلان عليّ بالنصائح والتشجيع.
أعترف أن سؤالك يا أستاذ «مهدي» هذا
 طويل وصعب، ويمكن لي أن أردّ عليه
 برواية من أجزاء عدّة.. حتّى أصل إلى سرِّ
 لقب «العقّاد الثّاني» الذي أطلقه عليّ
 الأستاذ الأديب والناقد «محمد بن يوسف
 كرزون». ولا أدري هل أفرح بهذا اللقب
 الذي هو فوق ما كنت أتصور وأتخيّل
 وأحلم، أم أبقى مرعوباً ومرتجفاً من هذا
 الشّرف العظيم الذي لا أستطيع الإجابة
 عليه، لذلك اعذرني.
** - يقولون أنّ الأسلوب هو الكاتب، وقد
 عرفناك قاصّاً، فما هي قصّتك أنت بالذات؟..
 نودّ أن تحدّثنا عن البدايات، وكيف
 تسترجع محطات تشكّل هذا الشغف
 بالكتابة؟.
- الأدب الشعبي الموروث، هو السّبب
 والأساس في تفجير الموهبة عندي، السّير
 الشعبية، والملاحم، والحكايا، وسّعت عندي
 مدارك الخيال، وكان للبساطة في الطرح
 الدّور الكبير، عشقت السّندباد البحري،
 والزير سالم، وأبو زيد الهلالي، وعنترة،
 وهارون الرشيد.. وصرت أحلم أن أكون
 مثلهم، العفويّة والصدق والقدرة على
 الإقناع لشدّ إنتباه المتلقي.. هذا ما عملت
 عليه منذ البداية. في البداية كتبت الشعر،
 ولكنّني كنت مولع جداً بقراءة القصص
 والروايات والسّير الذّاتية والمذكّرات
 الشّخصية للأدباء، أو أيّ فنّان وعبقري..
 وأدركت أنّ المجد الأدبيّ يصنعه الأديب
 بنفسه.. أي الإبداع عمل فردي، يختلف عن
 العمل في السّياسة الذي يعتمد في النهاية
 على العمل الجماعي والمنظّم. وكنت أحبّ
 الشخصيات المتميّزة والمتمرّدة، حيث لكلّ
 أديب تجربته الخاصّة، وقصّته المختلفة،
 والغنيّة، وهذا ينطبق على الأدباء العرب
 وغيرهم من الأدباء الأجانب.. فكنت أحبّ
 أن أدرس وأعرف خصوصية كلّ أديب.. لأنّ
 في خصوصيته تكمن أسرار عطائه
 وإبداعه.. فمن لا يعرف تاريخ الأديب
 الشخصي وتفاصيل حياته، لا يمكن له أن
 يفهم أو يدرك فحوى كتاباته، ولن يصل إلى
 قرارها وأعماقها. ولأنّ قراءتي للأدب
 غيّرتني وهذّبتني وحوّلتني من فتى طائش
 كثير المشاكل.. أدركت أن للأدب قدرة هائلة
 على التأثير والتغيير، وإيقاظ الحسّ
 الإنساني عند كلّ شخص.. وبالتالي تحوّله
 من إنسان سلبيّ إلى إنسان إيجابي..
 وبالتالي فهمت أن للأدب دور ورسالة..
 والأديب هو القائد الحقيقي الذي يقود
 الناس، ولكن بشكل غير مباشر، ومن دون
 أسلحة وجنود .
** - صدرت لكَ إبداعات ورقية حدّثنا
 عنها؟.
- صدر لي.. والآن يصدر لي.. وخلال فترة
 وجيزة سيصدر لي.. وعندي كتابات كثيرة،
 اتّفقت مع الناشر على طباعتها بالتسلسل
 في أسرع وقت ممكن، خشية أن أموت
 وتموت كتاباتي معي، لأني متأكّد أن لا
 أحد. سيهتمّ بكتاباتي بعد موتي.
ولكن سأقول الحقيقة المؤلمة والموجعة
 والمبكية والمضحكة.. فأنا حتّى الآن لا
 أعتبر أنّ كتاباً واحداً طبع ونشر لي.. هل أنا
 أخدعكم؟!.. هل أكذب على نفسي؟!.. أم
 على القرّاء والتاريخ؟!.
صدر لي ولم يوزّع ما أصدرته، فما
 الفائدة؟!.. صدر لي ولم يصل ما نشرته
 للقارئ!!!.. إلّا نسخ معدودة وضئيلة وزّعت
 كهدايا.. وعلى أشخاص معظمهم لا يهتمّون
 بالأدب، وقد لا يقرؤون كتابي، ويمكن أن
 يرموه بأقرب حاوية، هديّتهمُ مجاملة،
 وأخذوا الهديّة مجاملة، فهم أشباه أمّيين
 ولا يكترثون بالأدب. أطبع على حسابي،
 نسخاً قليلة، وأضع الكتب في كراتين في
 منزلي.. ممّا يسبّب مضايقة في البيت
 وإرباكاً وإزعاجاً، وهمّاً لي وللعائلة حين نودّ
 الانتقال إلى بيت آخر، فنحن نعيش في
 بيوت للإيجار هنا في إسطنبول، وكلّ سنة
 نكون في بيت.. والكتب التي أخزّنها عندي
 مهدّدة بالتلف بسبب الرّطوبة. في البداية،
 حين طبعت مجموعتي القصصية الأولى
 «قهقهات الشيطان» في سوريا، وبالتعاون
 مع اتّحاد الكتّاب العرب، وبسبب الظروف
 المادية، طبعت فقط (200) نسخة.. ذهبت
 أكثر النسخ هدايا لكتّاب تجاهلوها، ومعارف
 أهملوها.. لم تُبَعْ منها نسخة واحدة، ولم
 تدخل لأيّ مكتبة للعرض.. ولم تُقَمْ أيّة
 حفلة لتوقيع الكتاب، ولم تشارك في أيّ
 معرض للكتاب.. رغم البحث الحثيث
 لأشخاص عنها كثيرين.. وخاصة الطلبة في
 الجامعة.. فقد كتب لي أحد الأساتذة أنّه
 وطلابه بحثوا عن المجموعة وعنّي كثيراً..
 وكانت لدى واحد منهم نسخة، فكانوا
 يستعيرونها منه لتصويرها من أجل حلقات
 البحث التي يكلّفون بها. وهذا ما دفعني
 لإعادة طباعة المجموعة للمرة الثانية، هنا
 في تركيا.. حيث تراكمت مع الدّواويين
 الشّعرية التي طبعتها من قبل ومن بعد. لا
 أعرف أين أوزّع كتبي.. لا أستطيع أن أرسل
 نسخ كهدايا، حتّى لمن كتب لي المقدمات..
 لا أعرف مكتبات تهتمّ بالأدب العربي هنا..
 ولا أحد يتّصل بي ويعلمني حين يكون
 هناك معرض للكتاب الذي حصل مرّات عدّة
 هنا في إسطنبول.. ولم أتلقَّ دعوة من أحد
 لأوقّع كتاباً أو أشارك في أمسية أو
 مهرجان.. هنا لا قيمة للطباعة الورقيّة، فقط
 أقوم بهدر نقودي.. وهذا ما يجعل أفراد
 عائلتي يطلبون منّي أن أكتفي بطباعة
 المجموعات القصصية والدّواوين الشعرية
 طباعة الكترونية.. فهي أقلّ تكلفة ولا
 تسبّب المضايقة والغلبة. عوائق كثيرة هنا
 أعانيها في تركيا.. وأهمّها اللغة التي هي
 أساس التواصل.. طبعت هنا في تركيا على
 التوالي:
1- ديوان ( قبل أن يستفيق الضوء )، يقع
 في/ 220 /صفحة، عدد القصائد / 52 /
 قصيدة.
2- ديوان ( راية النّدى )، يقع في / 220 /
 صفحة، عدد القصائد / 56 / قصيدة.
3- إعادة طباعة مجموعتي القصصية
 ( قهقهات الشيطان )، تقع في / 120 /
 صفحة، عدد القصص / 10 / قصص.
4- ديوان ( تلابيب الرّجاء )
5- ديوان ( أصابع الرّكام )
6- مجموعة ( المبدع ذو الضفتين )،
 مجموعة قصصية تحت الطبع.
7- مجموعة ( فشّة خلق )، مجموعة
 قصصية تحت الطبع.
8- ديوان ( نوافذ على الجرح )، يحتوي
 على قصائد كثيرة كتبتها قبل أن أتحوّل
 لكتابة القصة القصيرة.
9- مجموعة ( الساخرون ) نماذج من القصة
 الساخرة في سوريا.. مجموعة مشتركة..
 أعدها الكاتب ( خطيب بدلة ).
10 - ديوان ( محابر عربية )، لنخبة من
 الشعراء العرب.. أعدّه الشاعر الأردني
 ( محمد خالد النبالي )، لي خمس قصائد
 مشاركة به.
11 - وهناك كتاب ضخم ( قصصي ) مشترك
 لكتاب من الوطن العربي.. سأشترك فيه
 بثلاث قصص.. يشرف عليه الأستاذ الأديب
 والناقد «محمد بن يوسف كرزون».
** - الكتابة الأدبية بوصفها تاريخاً موازياً،
 إلى أي درجة يمكن أن يعوَّل عليها ؟..
 ولماذا تكتب؟
- نعم.. كتاباتي هي مذكّرات نبضي.. هي ما
 استطعتُ أن أقرأه من عوالمي الدّاخلية..
 هي نقش آلامي على جدار الاحتراق..
أستطيع أن أقول: أنّي أودعتُ جلَّ
 طموحاتي وأحلامي وذكرياتي وهواجسي
 ورغباتي بين أسطري وجملي الشعرية
 والقصصية.. هي باختصار تاريخ الرّوح،
 حيث يستطيع أيّ متأمّل أن يقرأ تاريخي
 الشخصي.. وتاريخنا الاجتماعي، من خلال
 ما كتبته، ولا سيما التأزّمات واللواعج
 والأحلام.. أنا لا أكتب لمجرّد التّسلية أو
 اللهو، بل كنت دائماً في حالة تمرّد
 واحتجاج على واقع سيّء، أطمح لتغييره
 والانتصار عليه.. أكتب لأعلن عن وجودي..
 وعن رغبتي بالتميّز والتّحدّي.. والواقع كان
 دائماً يثقل عليَّ ويحاصرني، ويحاول أن
 يحطّ من شأني ويحدّ من قوّتي.. وهذا ما
 كان يدفعني للتمسّك بالكتابة والإصرار على
 الاستمرار والمتابعة.. فحين أمتنعُ عن
 الكتابة أكون في حالة موت.. ولهذا أنا أعتبر
 نفسي قد بعثت للحياة مرّة ثانية بعد أن
 عدت أمسك بالقلم.. كنت في حالة موت
 سريري، أو بحالة انهزام واستسلام لمرض
 عضال.. فيه من الألم الكثير. أعوّل على
 الكتابة لأنّها بالنسبة لي المنقذ وبوّابة
 الخلاص من جهنّمي الدّاخلي. أنا فشلت في
 كلّ الأعمال والمهن التي زاولتها، لأنّني لم
 أخلص لها وأعطيها حقّها من الاهتمام.. كان
 دائماً إخلاصي للكتابة وللحلم الذي لم
 يفارقني. ولكنّي حين توقفت عن الكتابة،
 كنت في عداد الموتى، متوقّف عن الحلم،
 والرغبة في استمرار الحياة التي لم يكن لها
 طعم سوى المرار.
أنا أكتب اليوم لأعوّض عن غربتي، لأبعث
 بصوتي إلى فضاء بلدي، لأخاطب أهلي
 وأصدقائي وجيراني، الذين فقدتُ التواصل
 معهم..
أكتب لأقول (كفى قتلاً ودماراً.. كفى عبثاً
 بمصير بلد عظيم قدّم للبشرية أوّل
 أبجدية)..
أكتب لأكون شاهداً على موتٍ رخيص
 عشناه ونعيشه في سبيل أن تهيمن على
 المنطقة قوى الشّر والاستعمار..
أكتب لأقول: (لقد انتهى عصر الطّغاة
 والدّكتاتورية)..
أكتب لأقول: (لا خلاص لنا إلّا بالحبّ.. فكلّما
 ابتعدنا عن الحبّ، تفاقم الشّر عندنا
 وتضاعف العنف أكثر).
** - بما يحلم مصطفى الحاج حسين؟.
- كنتُ في البدايات أحلم بالمجد والشّهرة،
 وأن أترك أثراً قوّياً خلفي قبل موتي،
 ليذكرني التاريخ كما يذكر -المتنبي،
 وجبران خليل جبران، وغيرهم من العمالقة،
 ولهذا كنت أسعى لنيل الاعترافات
 والإعجابات من الآخرين، بداية من الأهل
 والأقارب والجيران والأصدقاء، وصولاً
 للأوساط الأدبية والفنية. شاركت في
 الأماسي والمهرجانات، نشرت في الصّحف
 والمجلات، تقدّمت للمسابقات الأدبية، ونلتُ
 الجوائز على المستوى المحلي والقطري
 والعربي، وطبعتُ مجموعة قصصيّة..
 وكتب عنّي في الكتب والمجلات والصحف.
 كان طموحي لا حدود له، وأحلامي قوّية لا
 أحد يستطيع أن يؤثّر عليها أو يضعفها.
 تحوّلت من كتابة الشعر إلى كتابة القصّة
 القصيرة، لأنّي شعرت أنّ عدداً كبيراً يدّعون
 كتابة الشعر، وأنّ الحركة النقديّة عندنا
 متخلّفة.. أو منحازة، ومقسّمة إلى عصابات
 وشلل ومجموعات مغلقة. لذلك أوّل ما
 كتبت من القصص، كانت مواضيعي تهدف
 إلى فضح حال وسطنا الأدبي المتخلّف.
 نجحتُ في كتابة القصّة.. ولكنني تسبّبتُ
 لنفسي بجلب عداواة الحاسدين والفاشلين
 والمتآمرين وكتّاب التقارير العتاة.. ممّا
 سبّبوا لي النفور والقرف، فدفعوني
 للانسحاب والانزواء، والصمت المطبق.
 ولولا هذه الحرب اللاإنسانية التي نعيشها،
 ولولا خروجي من بلدي إلى بلد أجنبي لا
 أفقه لغته، لكنت حتماً لن أعود للكتابة، وما
 فكّرت بالعودة على الإطلاق. تغيّرت الأماني
 والأحلام، وأنا تضاءلتُ، وصغرتُ، وما عدتُ
 أتمنّى وأحلم سوى بعودة السّلام إلى بلدي..
 وإلى عودة الشعب المشرد إلى وطنه.. وأن
 يلتمّ شملنا مع الأهل، ألتقي أمّي وأخوتي
 وأخواتي، وأموت هناك وأدفن تحت تراب
 بلدي.. فأكثر ما يرعبني أن تطول مدّة
 الحرب هذه، وأموت غريباً هنا.. حينها
 ستكون ميتتي ميتتين * 
                 مطر بيت المبدع العربي 
                      نقوس المهدي .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 40 مشاهدة
نشرت فى 1 يونيو 2018 بواسطة mmansourraslan

عدد زيارات الموقع

109,534