أمجد عرار
ها نحن نعد الشهداء والجرحى الذين يسقطون يومياً في غزة بصواريخ طائرات منحتها الولايات المتحدة مع ذخائرها لـ"إسرائيل". مسرح العدوان مكتمل عناصر الجريمة يعرض تسعة شهداء، عشرة، أحد عشر شهيداً، عشرات الجرحى وبيوت مهدّمة وسيارات "مجعلكة" ودراجات نارية مبعثرة الأجزاء في شوارع غزة، كل ذلك في ثلاثة أيام.
نعد الشهداء والجرحى ونحصي الخسائر، فنتوه في عد الأيام التي أضربها عن الطعام الأسير محمود السرسك الذي كانت كل جريمته تنفيذ هجمات "إرهابية" على ملاعب كرة القدم. غزة لم يعد لديها وقت لعد ضحاياها، لم تعد مثل قصائد محمود درويش التي يعدّ أبطالها أضلاعهم وتمر أيامهم كتحية الغرباء في المنفى.
الفصائل الفلسطينية هجرت إحصاء أيام الانقسام وصارت تعد سنواته، وقد نعدّه عقوداً لأنها فسخت عقد الوحدة الوطنية بعدما رحل القادة الكبار وركدت مياه المقاومة طويلاً ونبتت على حوافها طحالب التسلّق وطفيليات الانتهازية. من يفطن للشهداء إذن؟
ولا يصدق الهتاف في تشييع الشهداء إذا لم يكف دمهم المعطّر بتراب الأرض لاستعادة وحدة الشعب والأرض وسواعد المقاومين! لا تكفي شلالات الدم لصنع لبنة في مدماك وحدتنا، ولا تدنيس الأعداء محاريب مقدّساتنا يكفي لاهتزاز قصبة لنا، ولم تعد أنشودة "قد تآخينا هلالاً وصليبا" تنفع في زمن جيفري فيلتمان.
ما دمنا أصبحت مهنتنا كعدادات المياه والكهرباء، فلندمن عدّ الشهداء ونوقّع بأصابع الخيبة مقولة ايهود باراك "قتيلهم رقم أما شهيدنا فقصة". فلنعد أيام إضراب الأسرى وسنوات الانقسام وعقود النكبة وقرون وجودنا في الأندلس. ثم نغني مع فيروز في المساء "غاب نهار آخر.. أنا وظل الحور والخريف.. ويبعد الرصيف يمعنوا في الفراغ والغبار"، وننشد في ساعات انبلاج الفجر "عندما يأتي المساء".
فلنعد الشهداء الذين سقطوا وننشئ لهم النصب التذكارية من الرخام، ولا ضير إن كان أولادهم لا يجدون قبل النوم وجبة للعشاء. لنحصهم أرقاماً، من قضى منهم ومن ينتظر، ندفنهم ونكمل وقد بدّلنا تبديلا.
المجتمع الدولي مثل جمهور يتفرّج علينا بلا تذاكر، أو بتذاكر مدفوعة من جيوبنا، فنحن العرب والشرق مشهود لنا بالكرم وحسن الضيافة، وأهل الغرب يتقنون دور "الضيف"، وهم اليوم يحملون عن "جدارة واستحقاق" اسم المعتصم المغيث الذي يتحوّل إلى أصم عندما تستغيث غزة. كيف يسمع صراخاً مخنوقاً لرضيع أمطروه بالفوسفور الأبيض؟ هل أحصى أحد عدد الشهداء الرضّع في فلسطين؟ آخرهم هديل حداد ابنة عامين فحسب!!.
الجامعة العربية ليس لديها وقت للعد، فهي ولي أمر الأمة الوحيدة التي اخترعت مثلاً يقول "الشهر اللي ملكش فيه، لا تعد أيامه"! لذلك أتقنت مهنة رفع العتب ببيان جاهزة ديباجته مثل استمارة عبئت لوظيفة شاغرة. عمر الجامعة يساوي عمر التقسيم الذي حل بالعرب وفق نسخة محدّثة لبرنامج "سايكس- بيكو"، فيها ما يكفي من جينات داحس والغبراء لتصنع جيلاً قادراً على إصدار نسخة أكثر حداثة من "إبداع" البريطاني سايكس والفرنسي بيكو. النسخة الأكثر حداثة ترفّعت عن الأرض واستوطنت العقول والعقائد واستحضرت من التاريخ كل ما فيه من فيروسات الفتنة، وحمّلتها عقولاً مغلّفة بدفيئة جاهزة لإنضاج كل مشتقات التقسيم والتشرذم والتقاتل.
الله الله، كم عششت في عقولنا لعبة الطفولة حين كنا نبني بأيادينا الصغيرة في الحواكير قصوراً حجرية ونهدمها بعد دقائق. اليوم يحاول بعضنا أن يبني قلاع بقائنا، وربما انتصارنا، فيتطوّع بعضنا الآخر أو يكلف هدمها. هذا لسان حال بعضنا لبعضنا: انتصارك هزيمتنا، وهزيمتك انتصارنا، لأنك أنت أنت وأنا أنا، ولا نحن تجمعنا، ولا عاش من ضمائرنا إلا المنفصل.
<!--EndFragment-->
نشرت فى 23 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
271,973
ساحة النقاش