علي محمد فخرو:
ما الذي يحدث عندما تقوم ثورة من أجل الديمقراطية فإذا بها تواجه، وهي تحث السير من أجل تحقيق جميع أهدافها، وتحاول تنظيم صفوف قواها، بمن يريد إخضاعها لمنطق الديمقراطية بدلاً من منطق الثورة؟ ما الذي يحدث عندما تتحكم متطلبات غصن الشجرة في مسار ونمو جذعها وفي عمق ومقدار جذورها؟
ليست هذه أسئلة جدلية أكاديمية، وإنما هي جزء من واقع كل ثورات وحراكات الربيع العربي، وهي تستجدي إجابات لا تؤدي إلى الفوضى من جهة، ولكن لا تؤدي إلى حرف أو خمول سير الثورة من جهة أخرى.
هذا المشهد المحيّر الصعب البالغ الدقة والحساسية واجهته كل الثورات التاريخية وتعاملت معه بطرق مختلفة. البعض عالجه بمزيد من الدّماء والتضحية بالأبرياء فأدخل الثورة في جحيم الفوضى، والبعض الآخر عالجه بالضعف والتردد واضطراب المعايير، فأمات الثورة أو جعلها عقيمة لا تلد حتى ولو تباهت بحملها الكاذب.
هذا المشهد هو أمر طبيعي ناتج عن عوامل عدة، فمن جهة لا تكون الثورة المضادة قد حيّدت تماماً ولم تقلع بعد أسنان فلولَها، ومن جهة لا تكون قوى الثورة قد أكملت رص صفوفها في تنظيم أساسي قائد لمسيرة الثورة. فما من ثورة إلا وواجهت الانقسام بين من قاموا بها، وما من ثورة إلا دخل من شباكها لصوص الثورات وانتهازيّو كل موسم ومولد. ومن جهة ثالثة لا يكون المجتمع والشعب قد ذاقا بعد حلاوة منجزات الثورة، وعلى الأخص البعيدة المدى منها، لتصبح الثورة جزءاً من مقدساتهما وآمالهما وأحلامهما.
ما الحلّ إذن؟ ألا تضيّع قوى الثورة نفسها في متاهات الحذلقات اللفظية والفكرية، وأن تتعود أن تكون شديدة التركيز على مسار الثورة الأساسي، على مسار النّهر المتدفّق وليس على جدول يصب من هنا أو هناك. ولذلك ففي مصر مثلاً، لو أن رئيس وزراء العهد السابق نجح في الانتخابات الرئاسية فإنها نكسة رمزية تحتاج إلى المواجهة من دون هلع، ولو أن ممثل الإخوان المسلمين نجح فإنه تقدم جزئي في مسار الثورة من دون نشوة النصر، إذ إنه لا يكفي ويحتاج إلى أن يضاف إليه.
التركيز على مسار الثورة يحتاج إلى أن يتمّ بتذكير أنفسنا بأن الثورات تقوم من أجل تغييرات كبرى شاملة. ولأنها كذلك فإنها تحتاج إلى أساليب عمل متعدّدة ومتغيّرة على الدوام في شكل كر وفر، والذين يعتقدون بأنها كر دائم سيواجهون بحائط منطق الحياة التي لا ترحم . وحتى هذا ليس بكافٍ، فالمجتمع برمته يجب أن يغمس في هكذا نظرة، نظرة التغييرات الكبرى ذات النفس الطويل، ذات كرّ وفرّ الكبار وليس الصغار اليافعين.
لكن ذلك كلّه غير ممكن إلا إذا وجدت نواة صلبة محركة ومقنعة، تدور من حولها قوى مجتمعية مساندة ومتعاطفة. مثل هذه النواة لم تتكون بعد في كل أرض عربية قامت فيها ثورات، وهذه قضية القضايا التي ستحتاج إلى حلّ، وإلا فإنّ ما نراه من صعوبات تواجه ثورات ربيع العرب ستتكرر وستسهم في إثباط همة الأمة العربية كلها، وليس شعوب تلك الأقطار العربية فقط.
ولنكن هنا واضحين وصريحين: إن شبكات التواصل الاجتماعي التي اعتُمد عليها في تفجير الثورات ولا يزال يُعتمد عليها في هذه المناسبة أو تلك، لا تصلح ولا تستطيع أن تكون بديلاً عن بناء النواة السياسية القائدة التي نتحدث عنها. إن شبكة التواصل تلك يجب أن تكون رديفاً لتلك النواة ولمن يتعاونون معها، أي لعملية المأسسة التنظيمية السياسية التي من دونها لا توجد حياة سياسية فاعلة.
خلق وتنظيم تلك النواة سيحتاج إلى وقت، ولذلك وحتى يكتمل بناء تلك النواة، لا مفرّ من التعاون التام مع بعض قوى المجتمع المدني، حتى ولو لم تكن فيها كل الصفات المطلوبة، وأفضل محاولة من هذا النوع جرت في تونس ما بعد الثورة.
ما حدث ويحدث في أرض العرب المباركة هو تغير تاريخي هائل لا يستطيع أن يتعايش، لفترة مستقبلية معقولة، إلا مع متطلبات ومقاييس الثورة الصارمة، مقاييس الديمقراطية ستكون لها اليد العليا عندما تحقق الثورة أهدافها الكبرى المتعددة بما فيها إيصال المجتمعات إلى الديمقراطية الشاملة العادلة.
<!--EndFragment-->
نشرت فى 23 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
272,559
ساحة النقاش