د. مصطفى يوسف اللداوي
الإسرائيليون يتذكرون اليوم بحسرةٍ وأسى وحزنٍ وألم، مقولة وزير دفاعهم الأسبق موشيه دايان "إن شرم الشيخ بلا سلام خيرٌ لنا من سلامٍ بلا شرم الشيخ"، فها هم اليوم أمام حقيقة مقولة وزير دفاعهم التي تحققت وإن كانت متأخرة.
فقد استعادت مصر أرضها، وستستعيد سيادتها، وسترد على دولة الكيان سلامه، وستنقض العهد معه، وستنكث الاتفاق الذي أبرمته على كرهٍ من أبنائها، وعلى غير رضىً من أهلها، برعايةٍ وخديعةٍ ممن يوالون الكيان الصهيوني ولا يحبون الخير لأمتنا.
فقد كان سلاماً ممزوجاً بالذل، وصلحاً أشبه بالاستسلام، ومعاهدة أقرب إلى شروط الهزيمة، كبلت مصر سنين، وغلت أيديها لعقودٍ من الزمن، وألحقتها بالدول المتخلفة، وفرضت عليها جوعاً وحاجة وتبعية، أضرت بالشعب كله، وعطلت نموه، وسيرت إلى غير اتجاهٍ مصالحه ومقدراته، ونزعت المال من بين أيدي الفقراء لتضعه بين يدي قلة من الأثرياء وأصحاب النفوس.
يتذكر الإسرائيليون كلمات وزير دفاعهم وهم يرون أحلامهم تتطوح، وآمالهم تتمزق، ورؤوسهم المخمورة لا تكاد تصدق، بعد أن رأوا الجموع الشعبية المصرية وهي تجتاح سفارة كيانهم في القاهرة، وتمزق علم دولتهم، وتحطم الأسوار المحيطة ببناء سفارتهم، وتهدد بمصيرٍ أسود لمن يبقى منهم، فتأكد الإسرائيليون أن أحلامهم تتهاوى، وسلامهم مع مصر يحتضر، وأمانهم القديم يتزعزع، وأنهم لن يعودوا إلى شرم الشيخ مجدداً لينعموا بسمائها الصافية، وشمسها الذهبية، ومياهها الدافئة، وشواطئها الجميلة، ولن تكون لهم في شرم الشيخ أولوية، ولا بواباتٌ خاصة، ولن يسمح لهم بحرية الدخول إليها دون تأشيرة دخول، وفي حال دخولهم فلن تواكبهم قوى أمنية إسرائيلية وأخرى مصرية لحمايتهم.
ولن يتمكن الإسرائيليون من الانتقال إلى شرم الشيخ بزوارقهم ومراكبهم الفخمة، وسيخضعون كغيرهم إلى التفتيش والتدقيق والدخول إلى مصر أصولاً، فقد أدرك الإسرائيليون أن شرم الشيخ قد عاد إلى أصحابه وملاكه، ولن يعود بعد اليوم حديقةً لهم، تتعرى على شواطئه نساؤهم، ويسهر في كازينوهاته سواحهم، ممن يدمنون القمار، ويتطلعون إلى إفساد الأجيال المصرية وتخريبها، وسيعود شرم الشيخ قطعةً من أرض مصر، محوطاً بسيادتها، مصوناً بكرامتها، ومحفوظاً برجالها.
لسان حال الإسرائيليين جميعاً يقول إن الثورة المصرية قد قضت على آمالهم في سلامٍ مع مصر، الدولة العربية الأكبر والأقوى، حتى ولو كان سلاماً بارداً، فقد عاشوا عليه رغم برودته أكثر من ثلاثين سنة، ونعموا بهدوئه ردحاً طويلاً من الزمن، مكنهم من البناء والاستيطان والتعمير والتطور والتسلح، وخلالها غزوا لبنان أكثر من مرة، وطردوا منظمة التحرير منها، وأجبروا رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في حينها على تشتيت قواته، وتوزيع جنوده، وتمزيق قوته، والتخلي عن كثيرٍ من أهدافه؛ وفي السنوات الأخيرة لحكم مبارك قتلوا خيرة قادة ورموز الشعب الفلسطيني غيلةً وغدراً، وشنوا حرباً دموية على قطاع غزة.
وما كان للإسرائيليين أن يقوموا بهذا كله وأكثر، لولا ثقتهم بأن مصر نائمة، وجيشها مستكين، وقيادتها خانعة، وعن سلوك إسرائيل راضية، ولأهدافها مؤيدة، وعلى مصالحها حريصة وأمينة، وقد اطمأن الإسرائيليون إلى صدق حاكم مصر، وإلى سهر أجهزته الأمنية وحرصها على سريان الاتفاقية، وضمان استمرارها، والحيلولة دو تهديها أو الإضرار بمصالح الكيان الذي قبل التخلي عنها مقابل سلامٍ يؤمن له البقاء، ويضمن له دوام السيادة عليها، والسياحة فيها.
لعل قارئاَ يقول بعد الذي حدث في مصر مؤخراً، من محاولاتٍ للانقلاب على الثورة، واستعادة أركان النظام القديم ورموزه، حيث نجح المتطلعون إلى العودة، والخائفون من القادمين الجدد، في حل مجلس الشعب المصري، واستعاد المجلس العسكري صلاحيات التشريع وإصدار القرارات، وبعد الأحكام المخففة التي صدرت بحق الرئيس المصري السابق ووزير داخليته، والبراءة المحصنة قضائياً التي نالها أبناؤه وكبار مساعدي وزير الداخلية، فمن حق بعض القراء أن يقولوا إن هذه أضغاث أحلام، وأماني غير واقعية، وإن مصر التي كنا نتطلع إليها بعد الثورة قد سقطت من جديد في براثن فلول النظام القديم، وإن أحلامنا بإسقاط اتفاقية كامب ديفيد، وتقييد الإسرائيليين، وإعادتهم إلى مربعاتهم الأولى التي كانوا عليها، قد باءت بالفشل، وإن أرباب الكيان الصهيوني الذين بكت عيونهم على سقوط مبارك ونظامه، اليوم تتراقص عيونهم فرحاً بعودة أبنائه، واستعادتهم لزمام الأمور من جديد، وسيبقى لهم شرم الشيخ الذي ظنوه قد ضاع، وستعود أحلامهم من جديد ليرويها فلول النظام القديم...
أقول رداً على اليائسين والظانين بأن أحلامنا وأمانينا كلها قد ضاعت أدراج الرياح، ممن لا ينظرون إلى التغييرات بأبعادها، والتطورات بآثارها، وممن لا يدركون قوة الشعب ووعيه، وإرادة المصريين وعزمهم، أدعوهم لأن يقرأوا للإسرائيليين، وأن يستمعوا إلى المحللين منهم، وأن يتابعوا حلقات نقاشهم وحوارهم، فهم قد أدركوا أن مصر التي انتفضت لن تعود وتخمد نارها، وأن عقارب الساعة التي انطلقت وتجاوزت الزمن، لن تعود إلى الوراء، وأن شبابها وأجيالها الطالعة والقادمة قد عرفت قوتها، وأدركت عمق إرادتها، وقدرتها على التأثير والتغيير.
لذا فلن يحلم الإسرائيليون باستعادةٍ ماضٍ جميل مع أي قيادةٍ مصرية قادمة، ولن يقوَ أحدٌ في مصر أن يعطي الإسرائيليين أماناً، ولا أن يمنحهم عهداً، ولا أن يؤثرهم على مصالح الشعب المصري والأمة العربية والإسلامية، إذ أصبح الاقتراب من الكيان الإسرائيلي تهمةً تشوه صاحبها، والتعاون معهم جريمة يحاكم فاعلها، والمدافع عنهم والخائف على مصالحهم مارقٌ يرجم، ومجرمٌ يعاقب، بينما يكرم ويقدر من يصفهم بالعدو، ويطالب بنقض الاتفاق معهم، فهؤلاء لهم اليوم والمستقبل، وأفكارهم هي التي ستسود، وعقيدتهم هي التي ستظهر، وإرادتهم هي التي ستنتصر، هذا هو لسان حال الإسرائيليين عنا، فهل هم أدرى بنا وبقدراتنا من أنفسنا؟ وهل يعرفون حقيقتنا أكثر منا؟ ربما... فقد يكون الخاسر دوماً أقرب إلى الحقيقة من المنتصر.
[email protected] <!--EndFragment-->
نشرت فى 18 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
272,564
ساحة النقاش