لطفي زغلول
منذ سنوات أواسط القرن العشرين المنصرم، وهي السنوات التي بدأ العالم العربي بالاستقلال عن كل من بريطانيا وفرنسا، لم تشهد الأمة العربية تغييرا جذريا في هيكلية مؤسساتها. لقد كان التغيير شكليا، وبخاصة فيما يتعلق بالمؤسسات السياسية، وتحديدا الأنظمة السياسية.
تحت ظلال هذه الأنظمة العربية السياسية، عاش المواطن العربي زاحفا لاهثا وراء تحصيل لقمة عيشه، وحبة الدواء لمريضه، وقسط من التعليم لأبنائه الذين قدر لهم أن يتعلموا، وأما أولئك الذين لم يكتب لهم أن يتعلموا، وهم كثر، فظلوا رهينة الجهل والأمية والفقر المدقع.
إلا أن منظومة لقمة العيش، وحبة الدواء، وهذا القسط من التعليم، وارتفاع مستوى البطالة التي تنتمي إلى الوضع الاقتصادي السائد في معظم أقطار العالم العربي باستثناء القلة، ليست هي الحدود التي تنتهي عندها مشكلات العالم العربي والإنسان العربي. ثمة مشكلات سياسية خطيرة هي الأخرى، لا تقل خطورة عن المنظومة آنفة الذكر.
سياسيا، يمكننا الحديث عن الوضع السياسي من منطلقين:
الأول المنطلق السياسي الداخلي. هنا تظهر صورة انعدام الحريات السياسية العامة، وانعدام الديمقراطية، والإفتقار إلى منظومة حقوق المواطن العربي، والعدالة الإجتماعية، والتعددية السياسية وحرية تأسيس الأحزاب، أو ما يحلو للبعض أن يطلق عليها التعددية السياسية. من ناحية أخرى تتجلى صورة القمع والاستبداد والاضطهاد، وعلى خلفية هذا وذاك تغص السجون والمعتقلات العربية بسجناء الضمير والرأي ومعارضة السلطة.
المنطلق الثاني يتمثل في التبعية السياسية للقوى الأجنبية المتنفذة التي تهيمن على السياسات العربية، وترسم مساراتها المحلية والإقليمية والدولية وتتحكم فيها. إن الأنظمة العربية السياسية محكومة في الدرجة الأولى للولايات المتحدة الأمريكية التي تخوض منذ أحداث الحادي عشر من إيلول/ سبتمبر 2001 ما تسميه الحرب على الإرهاب، وتفرض إفرازاتها على كثير من الأنظمة السياسية العربية.
ثمة بعد ثالث للوضع السياسي العربي يتمثل في إقليمية متقوقعة داخل حدود سياسية مصطنعة مفروضة من الخارج، وعلى الأرجح أنها تتقاطع مع روح العصبية القبلية في أكثر من نقطة، فولدت مع مرور الأيام هذه الأنظمة السياسية بشكلها الحالي على خارطة العالم العربي الذي يفترض أنه يضم بين ظهرانيه أمة واحدة متجانسة تواقة إلى الوحدة في وطن عربي واحد، لا مجرد شعوب ناطقة باللغة العربية.
إن ما كان يحدث على ساحة العالم العربي شيء لا يصدق ويخالف قوانين التغير والتطور. فبدل الوحدة والتضامن هناك الفرقة والتنافر، وبدل القوة والمنعة هناك الضعف والعجز، وبدل التحرر والحرية هناك التبعية الطوعية، وبدل الاستثمار القومي للموارد هناك الهيمنة الغربية عليها، وبدل التنمية الحقيقية الشاملة هناك التنمية التظاهرية، وبدل الحمية والنخوة هناك اللامبالاة وعدم الاكتراث والتخذل، وبدل الوقوف مع الأشقاء في محنتهم ومأساتهم هناك الصمت المريب والتحالف ضدهم مع المعتدي عليهم. وهناك الكثير الكثير.
إنها صورة العالم العربي، فهو والحال هذه كان "رجل العالم المريض" الذي يعرف العلة والداء ويأبى تناول الدواء. إلا أن هذه الصورة القاتمة التي كان يظن أنها نمطية ملاصقة للوضع العربي العام، قد أخذت تتغير، وأخذ الإنسان العربي ينطلق من القمقم الذي حكم عليه أن يتقوقع داخله.
إن الإنسان العربي لا ينام على ضيم، وإن صبر طويلا على القمع والقهر والاستبداد، فإنه لا بد أن يتحرر من هذه المنظومة الشرسة التي لونت أيامه بالشقاء والعذاب والمعاناة، وقد آن أوان زوال الشدائد التي حاقت به، وآن له أن يعيش حياة كريمة لا تشوبها أية شائبة أيا كانت.
لقد آن للإنسان العربي أن يتمتع بخيرات بلاده التي نهبها تجار حروب جشعون وصوليون حرموه منها طوال عقود، واستغلوها لأطماعهم وجشعهم الذي لا يقف عند حدود. آن للإنسان العربي أن يعيش مكرما رافع الرأس تحت راية أوطانه. آن له أن يتمتع بالحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية ومنظومة حقوق الإنسان. آن له أن لا يعيش منفعلا، بل فاعلا، آن له أن يرفع عن كاهله أردية التبعية للآخرين الذين تفننوا على مدار الأيام في استعباده وإذلاله.
جراء ذلك، شهد العالم العربي تغيرات هي في حقيقتها تغيرات شكلية، أدت إلى الإطاحة ببعض رموزه السياسية، ليس أكثر، إلا أن الأوضاع الأخرى التي ذكرناها آنفا بقيت على حالها.
إن الاستعمار القديم بأقنعته الجديدة، قد عاد، وإن لم يكن قد خرج من العالم العربي، إلا أنه في كل مرة يأتي بلبوس جديد، هادفا من وراء ذلك السيطرة المستدامة على ثرواته، وحارما إياه من تنسم التحرر والحرية، والسيادة، والديمقراطية، مبقيا عليه في عداد الشعوب الاستهلاكية لأسواقه.
إن الاستعمار القديم الجديد يحاول أن يتسلل إلى ما يشهده العالم العربي من تغيرات، محاولا توجيهها لمصلحته، وسياساته الاستعمارية.
إن ما يسمى الربيع العربي هو في الحقيقة أمر سابق لأوانه، وهو من قبيل التمني والرجاء، أو إنه ما زال مجرد حلم من أحلام الشعب العربي ليس أكثر. لقد أثبتت الأحداث في الأقطار العربية التي شهدت بعض التغيرات التي ذكرناها آنفا، أنها ناقصة، وأنها لم تصل إلى درجة اكتمال الأهداف المنشودة، والتي تحرك الشارع العربي من أجلها. إن الماضي الكريه ما زال يلقي بظلاله القاتمة على ساحاتها وميادينها، وما زال يلعب أدواره في ملاعبها.
كلمة أخيرة لا بد منها، إن الإنسان العربي يرفع يديه عاليا إلى السماء داعيا الله أن يلهمه تعزيز وقفته في وجه التحديات الراهنة والمنتظرة. إن التفاؤل المفرط وهو في أول الطريق يحمل في ثناياه مخاطر هو في غنى عنها. إنه يدعو الله جلت قدرته أن تكون خطاه على طريق التغيير الصحيح الذي هو في أمس الحاجة إليه، وأن يعيد إليه ما فقده طوال هذه العقود الجوفاء تحت ظلال الأنظمة السياسية العربية. وإن غدا لناظره قريب. <!--EndFragment-->
نشرت فى 12 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
271,986
ساحة النقاش