د. هادي حسن حمودي*
"1"
نتيجة ما أراه في الأوضاع العربية التي لا تسر الصديق ولا تغيظ العدى.. وحبا لعُمان وحرصا عليها، ولأني من وطن عزيز على القلب اكتوى بالفتن التي عصفت به منذ عقود عديدة.. ونتيجة دراساتي المتمعنة للمجتمع العماني وانتقالات نهضته من مرحلة إلى أخرى، يصعب علي أن أصدق أن العمانيين يمكن أن يسيئوا إلى بلدهم ورجالاته.
فكيف يمكن أن أصدق أن الذين يدونون البذاءات والإساءات للبلاد ونهضتها على مواقع شبكة المعلومات هم عمانيون أو على الأقل عمانيو الانتماء، حتى لو كانوا بعدد أصابع اليد الواحدة؟ إلا بناء على مقولة: لكل قاعدة شواذ.
لا أزعم أن المجتمع العماني مجتمع ملائكي، فهو مجتمع بشري يمكن أن يقع فيه ما يقع في غيره، ولكن الإساءة والبذاءة لم تكن يوما من عادات العمانيين وأخلاقياتهم، ولن تكون، مهما تفنن الآخرون في الدس والوقيعة والحث على الفتن. لذلك أعتقد أن الذين بدأوا بتلك البذاءات ليسوا عمانيين، فإذا كان بعضهم عمانيا، فهو عماني النسب لا الانتماء، أو أنه من الراكضين وراء رنين الكلمات والشعارات، ووهم السراب الزئبقي.
ولا أشك في أن السبيل القويم لتصحيح أي خطأ من أي عماني يجب أن يتم بملاحظة مصلحة الوطن والظروف التي يمر بها، داخليا وخارجيا. فإذا كان هناك قصور أو تقصير في أداء جهة حكومية أو أية مؤسسة فيناقش بهدوء ولمصلحة الوطن والنهضة.
وإني حين أقرر ذلك فلأسباب عديدة منها:
أولا: إن كل من يعرف العمانيين في داخل عمان وخارجها يشهد لهم بما يناقض تلك التدوينات. ولقد لاحظت مرارا وتكرارا أنّ كل عماني يبتعد، في كلامه وسلوكه، قدر الإمكان عن تجريح الآخرين وتسقيطهم، بل لاحظت ما هو أكثر من ذلك: إن العمانيين لا يسيئون القول حتى في وصف الذين صدرت بحقهم أحكام الإدانة القضائية. ومن الأدلة على هذا أن القرارات القضائية التي تصدر في عُمان بحق المذنبين، لا تتضمن أسماءهم، وذلك حرصا على سمعتهم، بل تكتفي بذكر الحكم من غير أن تذكر اسم المذنب، فتحدد جنسية المذنب فقط، فتقول: صدر حكم كذا بحق مواطن، أو من جنسية آسيوية، مثلا، أو من جنسية عربية، أو أفريقية أو أوروبية.. وهكذا..
هذه ممارسة أخلاقية متفردة نابعة من صميم قيم المجتمع العماني وأخلاقياته الموروثة، مع أن للقضاء كل الحق في أن يعلن الأسماء، خاصة مع قيام البيّنة والدليل، ولكن حرصا على سمعة عائلة المذنب لا تعلن تلك الأسماء.
فكيف ينسجم هذا مع تدوين البذاءات والإساءات وتسقيط الناس، من غير بيّنة ولا دليل؟! ولنفترض الآن أن أحد هؤلاء المدونين كان هو المسؤول عن صياغة تلك البيانات، فماذا كان سيكتب؟!
ثانيا: أنا أعيش في أوروبا منذ أكثر من ربع قرن وأتابع وسائل الإعلام الغربية ويتنابني الخجل من أخبار بعض العرب وسلوكياتهم في مونت كارلو ونيس وباريس ولندن وغيرها. وعلى الرغم من أن الصحف الغربية تطالعنا من وقت لآخر بفضائح عفنة يقوم بها بعض الطارئين العرب على أوروبا أو المقيمين، فلا تجد واحدة منها ذات علاقة بأي عماني مهما كان موقعه في السلم الاجتماعي والوظيفي في سلطنة عمان، وسواء كان مقيما هنا أم مسافرا.
بل على العكس تماما، هناك شهادات إيجابية كثيرة بحق العمانيين من كل من يخالطهم، سواء في عمان أم في البلدان العربية، أم في أوروبا. وهذا يصح أن يكون مصدر افتخار لكل عماني. ولقد رأيت حرص العمانيين على أن تظل تلك الصورة نقية صافية. فلا أدري لماذا يصر بعض المدونين على تشويه تلك الصورة بالتدوينات البذيئة المسيئة؟!
ثالثا: الموظفون في الحكومة العمانية والمؤسسات العمانية، كأي موظفين في أية حكومة ومؤسسة في العالم، تتراوح مستويات وعيهم ومدى التزامهم بتطبيق اللوائح والأنظمة والقوانين، فقد يسيء التصرف أحدهم أو بعضهم بقصد وبغير قصد، فهو إنسان أولا وأخيرا، عليه ضغوط ويعايش مشكلات جمة: عائلية وغير عائلية، فإذا تصرف بخشونة أو ضيق صدر فهذا لا يعني أن نحكم عليه بالإعدام وأن نهاجم المؤسسة التي يشتغل فيها ونكيل لها البذاءات والتجريح والتسقيط!
وأرى أن على أولئك المدونين المولعين بالإساءات والبذاءات أن يقلعوا عن إساءاتهم وأن يشيروا إلى ذلك السلوك ويطالبوا بمزيد من التوعية والتطوير. ولهم أيضا أن يوكلوا الأمر للقضاء كي يقول كلمته فيما إذا كان السلوك يقتضي ذلك. وفي الوقت نفسه عليهم أن يبدأوا بأنفسهم توعية وتثقيفا والتزاما بأساليب الحوار البناء.
وليس من ضرورة لاستعراض العضلات في مواجهة مصلحة الوطن العليا ووحدة المجتمع وتماسكه في طريق نهضته. ولنعلم أن الشائعات مظهر للتخلف يجب التخلص منه.
ولا يمكن لأحد أن يُنكر أن عمان الآن بوتقة عمل وتوجيه وتطوير: ندوات تعقد في مختلف مجالات العمل والدراسة، واجتماعات تتوالى تبحث شؤون البلاد، وهيئات تُشكّل ويتوسع دورها في المراقبة العامة، ومجلس شورى انتخبه المواطنون بملء حريتهم، وصارت له كلمة عليا في شؤون البلد.
إن نقل جلسات مجلس الشورى في وسائل الإعلام وعلى الهواء مباشرة بادرة غير موجودة حتى في الدول ذات العراقة في الممارسة الديمقراطية والتي يعرف أعضاء مجالسها النيابية وبرلماناتها حدود حريتهم في الكلام.
وفي إطار هذا النشاط الاجتماعي الرسمي والشعبي المتعدد الجوانب يجب أن نفهم جملة حقائق، منها:
* كل دولة في العالم تحارب شبكات ترويج المخدرات سيظهر لها أعداء جدد من تجار المخدرات ومروجيها..
* كل دولة في العالم تحارب شبكات الدعارة ستجابه أعداء جددا..
* كل دولة في العالم تشدد الرقابة على حدودها منعا للتهريب منها وإليها تخلق لها أعداء جددا..
* كل دولة في العالم، تتلف آلاف المعلبات الفاسدة والأغذية التي لا تصلح للاستهلاك البشري حماية لصحة مواطنيها، تخلق لها أعداء جددا..
* كل دولة في العالم تحارب التسطيح الفكري.. ستجد أمامها أعداء جددا..
* كل دولة تريد بناء مجتمع متماسك بإعلام واع وثقافة رصينة.. ستصطدم بأعداء جدد..
ولقد قامت عُمان بكل تلك الخطوات وما زالت توالي إجراءاتها القانونية لحماية مواطنيها من تلك الآفات الصحية والاجتماعية والأخلاقية.. ويُنشر كل ذلك في الصحف وبقية وسائل الإعلام.
فمن السهل، وفي مواجهة تلك الخطوات الوطنية، أن يوجه المتضررون الاتهامات والإساءات والبذاءات عبر شبكة المعلومات وغيرها، مستغلين حالات اجتماعية وظروفا معينة، مطمئنين إلى التسامح وسعة الصدر والطيبة المعروفة عن العمانيين عموما. هنا يظهر دور العمانيين الأصلاء في كشف القناع عن الحقيقة.
ولقد سبق لعُمان أن جابهت متربصين بها منذ أول بدايات النهضة وكشفتهم بوحدة مجتمعها وتماسكه والتزامه بقيمه وأصالته. وتلك الحالة نفسها منطبقة على أحوال اليوم أيضا. فهناك من لا يرضى للسلطنة أن تسير في مسار التطوير والمضي قدما في تنفيذ مخططات تحسين مستوى العيش للمواطنين. وهي مخططات لا يمكن الانتهاء منها بين عشية وضحاها. وكل تنمية تحمل في طياتها مشكلاتها. ولكن الوعي الاجتماعي هو الذي يعمل على إزاحة الأصوات النشاز. وبالتأكيد أنه مما يزيد من فاعلية هذا الوعي الاجتماعي إسراع الحكومة في تلبية متطلبات المرحلة وبذل أقصى المساعي في هذا الصدد.
"2"
يجب الانتباه إلى أن استقلال القضاء، لا يعني استقلاله عن السلطة التنفيذية "الحكومة" فقط، بل يعني استقلاله عن أية ضغوط من أية جهة كانت. ولقد صدرت مراسيم تطوير الجهاز القضائي بما يضمن المزيد من استقلالية القضاء باعتراف الجميع.
وإذا نظرنا إلى الدول المتقدمة فنرى أن الرأي العام لا يتدخل في قرارات القضاء مهما كانت. ولقد حكمت المحاكم في أوربا وغيرها على من يشهّر بالآخرين بأحكام وصلت إلى أربع عشرة سنة من السجن المنفذ غير القابل للاستئناف، إضافة إلى غرامات مالية ضخمة، ولم يعترض أحد. هذا عن التشهير أما عن عمليات التخريب فيكفي أن تطالعوا قرارات المحكمة البريطانية العليا بشأن ما حدث في الصيف الماضي. فللقضاء حرمته لدى كل مواطن يحترم نفسه ووطنه.
أما بعض هؤلاء المدونين فالغريب من أمرهم هيجانهم اللامبرر حين أصدر الادعاء العام العماني بيانا يحذر من البذاءات والإساءات للآخرين وتسقيطهم وتشويه سمعتهم وأن من يفعل ذلك سينال عقوبته القانونية، حيث ارتفعت بعض الأصوات باتهامات ما أنزل الله بها من سلطان. وياليت كل واحد منا ينظر إلى سلوكه هو أولا ثم من بعد ذلك فلينقد الآخرين!
لماذا غضبوا؟ بيان الادعاء العام لم يمنعهم من إبداء الرأي ولم يصادر حرياتهم ولكنه طلب منهم احترام الآخرين، لأنهم إن أباحوا لأنفسهم الإساءة "فجزاء سيئة سيئة مثلها" بحكم القرآن الكريم، فيأتي القانون ليمنع الإساءات المتبادلة، ويحافظ على وحدة المجتمع وتماسكه.
ولكن.. من الطبيعي أن من الناس من لا يريد وحدة المجتمع وتماسكه، ولا أن تتطور عُمان، ولا أن تتمسك بمواقفها الإقليمية والدولية، حفاظا على سلامتها وسلامة شعبها، فيعمد إلى مختلف الأساليب كي يعرقل المسيرة. ولهذا وأمثاله وجدت العقوبات القانونية. وهذا شأن جميع دول العالم المتحضر بلا استثناء. بل إن أي عماني بذل الجهد الكبير في البناء والتشييد، يعترف بفضل الوطن عليه وعلى غيره، ويتفهم الظروف التي تمر بها بلاده وتمسكها بإرادتها وعدم ذوبانها في الآخرين، وتفاعلها مع العصر بأسس تراثها العريق الأصيل.. ويعرف أن المجتمع العماني، بكل أفراده وأينما كانوا في سلم التسلسل الاجتماعي، مجتمع بشري لا ملائكي.
أقول: من حق هذا المواطن أن يطالب بتطبيق القوانين بالعدل المرافق للرحمة، لوأد الفتنة في مهدها وإنقاذ البلاد من شرها، وفي نفس الوقت بالمزيد من التطوير للوضع العام وتحسين مستوى معيشة السكان عموما ومواصلة تعميق الوعي بالإعلام الملتزم بقضايا النهضة، والثقافة المعبرة عنها.
__________________
* باحث جامعي عراقي- لندن <!--EndFragment-->
نشرت فى 12 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
271,986
ساحة النقاش