الشيخ محمد أسعد قانصو
.. أن تنادي الشعوب بالحريّة والديمقراطيّة أمر طبيعيّ ومطلب واقعيّ، وليست منكراً مطالبة النّاس بالعدالة والمساواة، والعيش في وطن يُحترم فيه الإنسان وتُصان حقوقه، ويملك الفرد فيه حقّ التعبير عن الرأي دون خوف أو منّة.
النقاش يتجاوز الخوض في هذه المسلّمات ويتعدّاها إلى إشكاليّات تُطرح بقوّة على طاولة البحث ومسرح الواقع، ويمكن اختصار هذه الإشكاليّات بعناوين محدّدة: كيف تُصنع الديمقراطيّة؟ ومن الذي يُنتجها؟ وما هي شروط الوصول إليها؟
يعتقد الكثيرون أنّ الديمقراطيّة هي صنيعة السّلطة وأجهزة الحكم التي تأخذ على عاتقها تبنّي النظام الديمقراطيّ، وتتعهد باحترام إرادة النّاس، وإدارة الحياة السياسيّة بجوّ من الأريحيّة والانفتاح، وتقبّل الاختلاف والتنوّع، وتؤمّن تداول السّلطة من خلال انتخابات شفّافة ونزيهة، على أن يكون الشّعب هو الحارس لهذا النظام، والمراقب للسّلطة والمحاسب لها فيما لو نحت في إطار الممارسة منحىً تفرديّاً واستبداديّا.
هذا الاعتقاد يجعل من السّلطة المسؤول الأول عن تطبيق الديمقراطيّة وتعميمها، ويضع الشّعب في موقع المتقبّل المتلقي الذي يفترض به ممارسة ديمقراطيّته ضمن الأطر ووفق المفاهيم التي تُقدم له جاهزة خالصة.
غير أنّ إعفاء الجمهمور من مسؤوليّاته في فهم الديمقراطيّة وآليات تطبيقها، وتحميل السّلطة بمفردها- وهي مسؤولة- تبعات الفوضى والظلم، وقمع الحريّات وضياع الحقوق، والتردّي الأخلاقي والاجتماعيّ يُعدَ تجاوزاً عن المنطق وابتعاداً عن الإنصاف.
إنّ من يدرس تاريخ الحضارات البشريّة يدرك أن التحوّلات الكبرى لم تُسقط على الشّعوب إسقاطاً وإنّما جاءت بعد مخاضٍ عسير من التّجارب والإخفاقات والتّضحيات، وإنّ هذا المسير التقدميّ لم يكن ليحصل لولا وعي الفرد بضرورة التغيير والتقدّم للوصول نحو الأفضل. ولم تنل الشّعوب المقهورة حريّتها وحقوقها بسحر ساحر أو بتفضّل من حاكم خلع ثوب الاستبداد وانقاد طوعاً لإرادة الأمّة خادماً لها وأميناً على مصالحها.
تعلو الأصوات في أرجاء عالمنا العربيّ مطالبة بالعدالة والديمقراطيّة، وخلع الأنظمة الديكتاتوريّة القمعيّة، كما أنّ الدعوات إلى الإصلاح تتزايد في كثير من البلدان العربيّة نتيجة للوضع القائم الذي يزداد بؤساً وسوءا، ولا شكّ أنّها دعوات صادقة تعبّر عن مطالب حقّة لا يمكن إغفالها، ولكن بقسط من التجرّد والواقعيّة، أو على الأقلّ بالاعتراف أمام الذات لا جلدها، لنقل إن شعوبنا حتّى اللحظة تفتقر إلى فهم واقعيّ وتربيّة حقيقيّة على أصول الديمقراطيّة وكيفيّات تطبيقها.
إنّ الوصول إلى الدّولة الديمقراطيّة العادلة الحاضنة للتعدّديات يبقى بعيد المنال طالما أنّنا نفتقر للمعرفة المقرونة بالإرادة، وطالما أننا ما زلنا نرى المواطن العربيّ يمارس القمع والتسلّط في بيته ويطلق لاءاته في وجه زوجته وأولاده، ونرى ربَّ العمل يفتئت العمال حقوقهم دون رحمة، ونرى المعلّم يحمل العصا في مدرسته ويجبر طلّابه على تجرّع أفكاره دون نقاش، ونرى المرأة كياناً تابعاً للرجل وضلعاً معوجّاً من ضلوعه، ونرى رجل الدين يسوق النّاس إلى الجنّة حفاة جوعى!، عندما نرى النّاس يستحضرون التاريخ ليضرموا به نيران أحقادهم الطائفيّة والمذهبيّة، ويتقاتلون على الله وباسمه. عندما نرى النّاس يُغالون في حبّ زعمائهم حتّى العبادة، ويتّبعونهم كالقطيع نحو المذبح، عندما نرى المواطن يتأفّف من الظلم والعدم، والعتمة والجوع، دون أن يُحرّك ساكناً أو يعلن موقفاً، حين تصبح الانتخابات عراكاً سياسيّاً، وتحلّ المواقف مكان البرامج، ويقترع الناخب المسكين طمعاً بحقير مال، أو وعداً بوظيفة، أو خوفاً من نقمة الأولياء!..
لقد لخّص الإمام عليّ عليه السلام مسؤوليّة الأمّة في إنتاج حكمها وحكّامها حين قال: "كما تكونون يولّى عليكم"، وهو بهذه العبارة الرائعة يشير إلى أن الحاكم هو صنيعة الأمّة، ونتاج وعيها، وثمرة غرسها، وبالتالي فإنّ الأمّة التي تعي العدالة وتعيشها لا بدّ أن تنتج الحكم العادل وتختار الحاكم اللائق، والعكس هو الصحيح.
إنّ خلع الحكام المستبدّين للوصول إلى النظام الديمقراطيّ خطوة مطلوبة وضرورة لازمة، ولكن المهم أن لا يُعاد إنتاجهم في كلّ حين تحت عناوين أو مبرّرات مختلفة، والأهم أن تتحوّل العدالة والديمقراطيّة إلى معتقد وسلوك وممارسة، لا مجرّد شعارات نردّدها أو رايات نرفعها حين تدعونا الحاجة إليها.. <!--EndFragment-->
نشرت فى 11 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
271,970
ساحة النقاش