محمد شو

العالم بين يديك

authentication required

عبد اللطيف مهنا

قبل أيام غشتنا ذكرى "النكسة". من العرب من لم يعد يستسيغ هذه التسمية. وهناك منا من يعيب علينا إطلاقها على هزيمتنا في الخامس من يونيو 1967، باعتبار أن ما حدث لنا كان أكثر من نكسةٍ ولم يكن أقل من هزيمةٍ نكراء ما زلنا نعيش عقابيلها الكارثية حتى يومنا هذا. بل لا نعدم من بيننا من لا بأس عنده من أن يفضِّل استخدام تسميتها الإسرائيلية، "حرب الأيام الستة"!!

نعم، لقد كانت هزيمة مرة ما زلنا نتجرَّع صبرها ويسري علقمها في عروقنا، لكنما تسميتها في حينه لم يكن إلا باعتبارها، عند عرب مواجهتها لا التسليم بها، هزيمةً ناجمةً عن عدوان لا بد من إزالة آثاره، وجولة في صراع مديد لا نملك إلا خوضه، والانتصار فيه بالنسبة لنا ضرورة وجود. بمعنى آخر، كانت التسمية إعلانا يعكس إرادة أمة لا تقبل نتائج عدوان ولا تعجز عن مواجهته والرد عليه، وتعبيرا في حينه عن ثقتها بإمكانية نهوضها من كبوتها وعن إيمانها بنفسها وبقدرتها على استعادة كرامتها ونيل كامل حقوقها. 

وعليه، ومنذ اليوم الأول بدأ العمل لإزالة آثار تلك النكسة، وكانت لاءات الخرطوم الشهيرة، وبعد قليلٍ من الأعوام لم تزد على الستة كانت حرب 1973 التي انتصر فيها الجندي العربي، فخذله السادات وحوَّلها موضوعياً إلى أم النكسات التي تلت جميعاً. بمعنى أنها كانت نكسة في عرف الواثقين في عظمة هذه الأمة المجيدة القادرة على إزالة آثارها وعلى مواصلة صراعها التناحري مع أعدائها وحسمه لصالحها أو انقضائه فحسب بانتصارها... وكانت مجرَّد هزيمة ماحقة لا غير بالنسبة لمن ساروا على هدى المنطق الساداتي فحوَّلوها فعلاً إلى نكبةٍ مضافةٍ، أو ثانيةٍ، استدامتها فيما بعد انهزاميتهم وتعايشت معها دونيتهم.

قبلها، قبل خمسةٍ وأربعين عاما، كانت فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية، أو ما لا يجرؤ عربي على القول بخلافه، وكانت مسألة تحريرها مهمة معلنة لكامل الأمة وتعد واحدةً من مسلماتها. وكان تحريرها يعني استعادة كامل ما اغتصب منها إثر نكبة 1948، أو هذا الجزء الذي يظهر اليوم في "خوارط" ونشرات وحوارات بعض الفضائيات العربية تحت مسمى "إسرائيل"... وبعدها، وإثر تحوُّل مفهوم النكسة إلى آفة التسليم بالنكبة، أي من هزيمةٍ في معركةٍ إلى هزيمةٍ لإرادةٍ، تبدَّلت المهمة العربية المعلنة من تحرير ما بعد النكبة إلى استعادة ما بعد النكسة، واختُصرت فلسطين في غالب الأدبيات الرسمية العربية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة...

ومع استشراء المنطق الساداتي نفض النظام العربي يده من القضية التي لم تعد عند قطرياته الغارقة في أولوياتها مركزية. وهذه الاستعادة لا تعني تحريراً، لأنها غدت بعهدة منطق "السلام خياراً استراتيجياً وحيداً" رهينة التفاوض حتى التصفية. أسهم في هذا استشراء العجز العربي وساعد على تبريره سيادة منطق "يا وحدنا"، الفلسطيني، وأحبولة "الممثل الشرعي الوحيد" الفلسطينية- العربية الرسمية المشتركة، وجاء الانحراف الأوسلوي الكارثي لينعش باطل التذرع العربي الرسمي اللاحق بمقولة "لسنا ملكيين أكثر من الملك"! فأصبحت الـ22 بالمئة المحتلة من فلسطين بعد العام 1967 عند هؤلاء أراضي متنازعا عليها لا أكثر، وأتاحت خطيئة أوسلو وملهاة "المسيرة التسووية" برعاية عدو العرب الأول الولايات المتحدة الأمريكية الوقت الكافي لتهويد القدس وبقايا ما لم يهوَّد بعد من الضفة الغربية، وتشديد الحصار الإبادي على قطاع غزة بمشاركة عربية مشهودة ومباركة دولية معروفة، وجاري التمزيق الموضوعي لوحدة الساحة السياسية الفلسطينية، أي انشطارها ما بين مساومٍ ومقاومٍ، ليضيف لأولئك المتذرعين ذريعةً أخرى.

وإذ تمر ذكرى النكسة التي حُوِّلت إلى نكبةٍ مضافةٍ، أو هزيمةٍ مستدامةٍ، أو سموها ما شئتم، وكأنما هي لم تمر بالنسبة لغالب العرب، تماما كما هو حال ذكرى النكبة السابق عليها بأسابيع، تلك التي، كما قلنا في حينها في مقالٍ سابقٍ، قد تفرَّد الفلسطينيون وحدههم، أو كادوا، بإحيائها، لكنما، بالنسبة لهذه التي أعقبتها، فلولا ما كان من إحيائهم لذكراها في غزة لمرت عليهم مرورها على أشقائهم... 

أما "السطلة" فقد أحيتها على طريقتها الأسلوية. إذ اشتكى رئيسها في آخر ما جد من الحلقات الدافوسية في مسلسل اللقاءات الاقتصادية الدولية المنعقد منتداها السنوي الدوري مؤخراً في إسطنبول من أن "شركاءه" في "السلام"، الذين، كما قال "تنازلنا لهم عن ثلاثة أرباع فلسطين قد أداروا لنا ظهرهم"! وبالتوازي مع ما قاله، وكأنما هو الرد عليه، جاءه من راعي "الشراكة السلامية" ووسيطها "النزيه" الولايات المتحددة، ومن قبل رئيسها باراك أوباما، حين استقبل في مكتبه في البيت الأبيض وفداً من يهود بلاده المتدينين، ليطمئنهم إلى أن ما جرت عادته على وصفها بنافذة السلام "قد أُقفلت"، لأن الفلسطينيين، لا يرغبون في فتحها! وليوضح لضيوفه أن كل ما بدا سابقاً ضغوطاً من قبل إدارته على حكومة نتنياهو بشأن تلك "النافذة" التي أُقفلت إنما كان لحرص الولايات المتحدة على مصلحة إسرائيلها.

... أربعةٍ وستون عاماً من النكبة، وخمسة وأربعون من النكسة، وإلى أي مدىً قادمٍ قد يتطلبه حسم الصراع العربي الصهيوني على فلسطين لصالح أمتنا، تظل مهمة تحرير فلسطين ضرورة وجود ومهمة أمة بكاملها، والفلسطنة هوية نضالية وليست زمرة دم أو امتياز بالتنازل لمن توهموا أن الغزاة سوف يقبلون عليهم لتنازلاتهم ولن يديروا لهم ظهرهم بعدها... ولن تعود فلسطين قبل أن يعود العرب لفلسطنتهم.

<!--EndFragment-->

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 44 مشاهدة
نشرت فى 11 يونيو 2012 بواسطة mhmadshoo

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

269,132