إبراهيم العسعس
يحدثنا التاريخ المعاصر عن أساليب متنوعة لإجهاض الثورات، ابتكرها القاهرون لتوجيه الثورة وجهة غير وجهتها التي قامت من أجلها، ولتفريغها من أفكارها التي حركتها بادي الأمر، ولتشتيت قواها وكسر وحدتها.
ومن أعظم الخلل في مشروع أي ثورة ألا يستبين القائمون عليها سبيل القاهرين في إجهاض الثورات! لقد جرت العادة أن يوجه القائمون على الثورات اهتمامهم على طرق القاهرين في ضرب الثورة باليد الحديدية، وأن يكون خوفهم على ثورتهم من جهة القمع لا من جهة اللطف، ولذلك فإنهم يفاجئون ويفقدوا كثيرًا من توازنهم عندما تمد لهم يد القاهرين أن تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم.. ماذا تريدون.. وبم تأمرون.. ألا تجلسون معنا كي نتحاور؟ إلخ, هذا الكلام المعسول فيظن المعترضون أنهم قد قطعوا المسافة المطلوبة، وأرغموا السلطة على تحقيق مطالبهم.
تفاوض لا تحاور:
ليست فلسفة لغوية، ولا تلاعبًا بالألفاظ، ولا من التي يقال فيها لا مشاحة في الاصطلاح، بل هي من صلب العملية السياسية أعني دقة انتقاء الألفاظ في السياسة، فلكل لفظة دلالتها التي لا بديل عنها. فالثورة لا تتحاور، لكنها تتفاوض، والفرق هائل فالحوار خلاف على مسائل داخل إطار عام متفق عليه حيث الكل راض على البقاء داخل الإطار، والأساسيات ليست محلاً للبحث.
أما التفاوض فهو خلاف على الإطار وعلى أمور أساسية قامت الثورة لنقضها, وعندما يصر القديم على الدعوة إلى الحوار، ويصر على هذا التعبير، فهذه أول محاولاته اللفظية لتفريغ الثورة من مقاصدها.
وهذه ليست مسألة شكلية قد يظن الظان أنها غير مؤثرة، والواقع أنها مؤثرة جدًّا؛ لأنها توصل رسائل إلى الثوار تتراكم مع الزمن القليل فتُهدِّئ من اندفاعها، وقــد تــربك الدوافع الأولى للثورة.
إشاعة الفوضى:
وقد جُرِبت هذه الطريقة في دول أمريكا الجنوبية، عندما كانت تقوم ثورات أو بوادرها ضد طواغيت تلك الدول, وتنص هذه الطريقة على وجود خطة بديلة في حالة وجود مأزق يهدد استقرار النظام الحاكم، فتنزل قوات من الأمن المدربة لمثل هذه الحالات إلى الشارع بملابس مدنية وتـشيع الفوضى، وتقوم بأعمال إجرامية ضد المتظاهرين، وضد الأهالي الموجودين في بيوتهم خارج حدود ساحة المظاهرات.
وهذه الجرائم تجعل الموجود في المظاهرة يفكر في حماية بيته، فيرتد إليه عندما يسمع عن وجود حالات نهب وسلب وقتل, وقد أشارت بعض المصادر إلى تلقي قوات أمنية في بعض الدول العربية تدريبات لمثل هذه الحالات في مدارس أمنية خاصة.
وللعلم فإن المدرسة الأمنية الصهيونية تبنت هذا الأسلوب وساهمت في الترويج له لدى الدول الصديقة، ووضعت لهذه الدول خطط لمواجهة ثورات الشعوب, وقد أحسن المنتفضون في مصر بتجاوز هذه الخطة وذلك بتفريغهم لمجموعات من الشباب لحراسة الناس والممتلكات.
والغريب الجدير بالملاحظة أن الجيش المصري عندما هجم البلطجية على المتظاهرين انسحب أو انتشر إلى نقاط أوسع من النقاط التي كان فيها!!! وأعتقد أن حكاية الملابس العسكرية المسروقة لم تنتهِ بعد وسيعاد تفعيلها لإلصاق تهمة ما بأحدهم، فالحذر الحذر..
التخويف من الإسلام:
كان الإعلام في دول أمريكا الجنوبية يخوف الغرب من خطر الشيوعية القادم في ذلك الزمان، وأنهم صمام الأمان ضد الشيوعية، وأن الثورات إذا نجحت فإن الشيوعية ستهدد الفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية.
أما في حالتنا فإن النظام المصري يخوف الغرب أنه إذا ذهب فسيأتي الإسلام، وأن الإخوان سيحكمون، وقد صرح مبارك أنه إن سقط فسيحكم الإخوان المسلمون, وقد نشرت وثائق ويليكس أن عمر سليمان كان طوال السنوات السابقة يهدد أمريكا بالإخوان، ويقول بأن الإخوان هم مفرخة للإرهاب والجماعات المتطرفة.
والملاحظ في الحالتين التونسية والمصرية أن هذه العدوى انتقلت للشعب فعلت أصوات هنا وهناك تحذر من الانقلاب على منجزات المرحلة السابقة كما في الحالة التونسية، أو إقامة حكم ديني كما في الحالة المصرية، وقد بلغ من تأثير هذا التهويل أن الإسلاميين أنفسهم صاروا يحذرون من أنفسهم، وينفون عن أنفسهم تهمة سعيهم للحكم!!! وكأنها تهمة؟!! وكأنه يحل لجميع القوى أن تسعى للحكم، ويحرم ذلك على الإخوان أو غيرهم من الإسلاميين.
والوعي هنا في تصرفين:
الأول: أن يعرف الجميع ممن ينادي بالحرية وحق التعبير أن هذا حق لكل القوى، وأي تحييد لقوة ما هو في حقيقته تناقض شنيع مع الشعارات المعلنة, مع التنبيه هنا إلى أنني أتحدث إليهم بمنطقهم، وإلا فإن حق الإسلام في أن يحكم ليس مما ينزل تحت رغبات الناس.
الثاني: أنه على الإسلاميين ألا ينثنوا تحت الضغط فيتبرءوا مما قاموا من أجله، بل عليهم أن يعلنوا على الملأ أنهم يسألون حقهم كما يسأل الناسُ حقهم.
إحداث الانقسام بين الثوار:
وهو أمر سهل في ثورة بلا قيادة واضحة، وقد بدأت تظهر بعض حالات الانقسام، خاصة بعد الخطوات التي قامت بها الحكومة، من دعوة سليمان إلى الحوار، وبعد خطاب مبارك العاطفي، وبعد الوعود المقدمة، فأدى هذا إلى:
انسحاب بعض الشباب من الميادين، مع احتفاظهم بمطالبهم، لكنهم رأوا أنه لا داعي للاستمرار في انتظار تحقيق الوعود.
إعلان بعض الأحزاب الانسحاب من الميدان، وهي وإن كانت من الأحزاب التي لا تُـستأمر إن وُجدت، ولا تُـفـقـد إن غابت، إلا أن هذا الإعلان يؤثر على معنويات بعض الناس.
إنَّ الإصرار على أنَّ الثوار لا يوجد لهم ممثــل واضح، وأنَّــه ما يدرينا إن فاوضنا بعضكم ولبينا لهم مطالبهم، أنه سيخرج لنا من يقول إن لنا مطالب أخرى، وأننا لا نرضى بما وافق عليه الآخرون, قال الكواكبي: "يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد".
إنها وسيلة قديمة جديدة يلجأ إليها القاهرون عندما يثور عليهم المقهورون، ولا زال الشعب المصري يذكر كيف أرسلت بريطانيا أيام الاستعمار البريطاني لمصر ما سمي بلجنة (ملنر) لتحطيم وحدة الشعب المصري، فكان نصيبها المقاطعة الرائعة التي فوتت عليها أهدافها، والمرجو اليوم أن يكون وعي المنتفضين في ميادين التحرير المصرية كوعي أجدادهم.
والوعي هنا كما أرى:
أنه قد آن الأوان لفرز قيادة واضحة للمتظاهرين إن أرادوا أن تتحول حركتهم إلى ثورة حقيقية.
تحديد مطالب محددة ولو كانت مرحلية، وإعلانها ممثلة لمطالب المتظاهرين، وتحديد مرحليتها، وأنها وإن اختلف في ترتيبها بحسب أهميتها بالنسبة للبعض، فإنها تبقى مطالب الجميع.
تحديد علاقة الشباب مع الأحزاب الموجودة لقطع لعبة العزف على انفصال الشباب عن الأحزاب.
وفي هذا الصدد أرى أن إعلان الإخوان موافقتهم على الدخول في عملية التفاوض خطأ يسيء لدعوتهم ولما يمثلون، ويفقدهم مصداقيتهم في الشارع المصري, إن قرارهم المشاركة يدل على أنهم متأخرون عن كثير ممن جاء بعدهم، وأنهم يخسرون حيث يربح الآخرون، وأنهم لا زالت تتحكم فيهم المصالح الحزبية الضيقة، ولقد صدرت عن كثير من الشباب تصريحات ومواقف أكثر وعيًا من الاخوان, فعليهم ألا يستمروا في هذه العملية.
اغتيالات وهمية:
أحذر من محاولات وهمية لاغتيالات رموز النظام تسويغًا للقمع وتدخل الجيش, وإن توحيد القيادة، وتحديد المطالب يفوت الفرصة على هذا الترتيب.
المراهنة على الوقت:
سأل مراسل البي بي سي أحمد شفيق رئيس الوزراء المكلف: إذا استمر المتظاهرون في تظاهراتهم فماذا ستفعل؟
فأجاب: ولم لا، وأنا مستعد أن أبعث إليهم بطعام الإفطار، وبالبومبوني (أي الحلوى)!
إن القاهرين يراهنون في مثـل هذه الحالات على الوقت، فالوقت كفيل باستـــنزاف الجهود، وتـفـتيت الحشود، وكل ما يحصل من ترتيبات وعروض ما هو إلا إضاعة للوقت.
المصدر: صحيفة المصريون.
ساحة النقاش