هوية مصر.. أهم معارك الدستور الجديد
جمال عرفة
ظلت قضية هوية مصر الحضارية والدينية باهتة غير واضحة منذ انفصالها عن الدولة العثمانية (دولة الخلافة الإسلامية)، في العهود الملكية والجمهورية، وظل النص على هويتها الحضارية الإسلامية غير واضح المعالم برغم النص على أن الإسلام دين الدولة بحكم واقع أن غالبية السكان مسلمون، إلى أن أدخل الرئيس الراحل أنور السادات تعديل المادة الثانية من الدستور التي تؤكد أن (الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع).
وبرغم النص على أن مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، فلم يطبق هذا فعليًّا في عشرات القوانين المطبقة ولا الواقع، ولكن أثير حولها جدل لم ينته من قبل حقوقيين أقباط مثل نجيب جبرائيل، تزايد في السنوات الأخيرة عندما بدأت شخصيات كنسية رسمية تتحدث عن ضرورة إلغاء هذه المادة والنص على مدنية الدولة لا إسلاميتها.
والمفلت أن قرار رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المشير طنطاوي رقم واحد لسنة 2011م تضمن تحديد مهمة لجنة تعديل الدستور التي يرأسها المستشار طارق البشري بدراسة إلغاء المادة 179 من الدستور، وتعديل المواد 88، 77، 76، 189، 93 وكافة ما يتصل بها من مواد ترى اللجنة ضرورة تعديلها لضمان ديمقراطية ونزاهة انتخابات رئيس الجمهورية ومجلسي الشعب والشورى, كما تختص اللجنة بدراسة التعديلات اللازمة للقوانين المتعلقة بالمواد الدستورية محل التعديل.
وهي مواد تتعلق بالإشراف القضائي الغائب على الانتخابات، وإعادة الحق للقضاء في تحديد صحة عضوية الأعضاء، وقيود الترشح للرئاسة.
ومعنى هذا أن اللجنة الدستورية لن تتطرق للمواد المتعلقة بهوية الدولة مثل المادة الثانية في الدستور، وسينصب عملها بدرجة أكبر على المواد المتعلقة بانتخابات الرئاسة والبرلمان فقط، وما يتصل بها من قوانين -وفق التكليف العسكري- لأنه حتى نص القرار العسكري على حق اللجنة في تعديل (كافة ما يتصل بها من مواد ترى اللجنة ضرورة تعديلها) أي حقها في تعديل مواد أخرى ارتبط هنا بهدف حدده المشير طنطاوي هو أن يكون التعديل (لضمان ديمقراطية ونزاهة انتخابات رئيس الجمهورية ومجلسي الشعب والشورى) فقط.
بعبارة أخرى لم يذهب القرار العسكري للحديث عن أي تعديلات تتعلق بهوية الدولة أو نظامها، بما يعني أن اللجنة قد لا تتطرق مثلاً لنص المادة الخامسة رقم (5) التي تقيد حق الإخوان وأي قوى دينية في تشكيل حزب بقولها: "ولا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أية مرجعية دينية أو أساس ديني، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل"، ما يثير تساؤلات حول كيفية مشاركة الإخوان في الحياة السياسية بعد إعلانهم الرغبة في تشكيل حزب سياسي بشرط إزالة العوائق أمامها.
ويزيد من القيود على هذه اللجنة الدستورية أن نص القرار العسكري، حدد في مادته الثانية أن: "على اللجنة الانتهاء من عملها في مدة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ هذا القرار" ما لن يسمح للجنة -التي تضم عضوًا من الإخوان وعضوًا مسيحيًّا- بمناقشة تعديل مواد أخرى خلاف ما هو محدد من مواد تتعلق بشروط انتخابات الرئاسة والبرلمان، لو أرادت!
استمرار الجدل يكشف الخلل :
والحقيقة أنه برغم الروح الجميلة التي ظهرت في الثورة الشعبية من ابتعاد إسلامي مسيحي عن إحداث أي فتن، فقد لوحظ أنه بمجرد إعلان تجميد العمل بالدستور والحديث عن دستور جديد، عاد بعض المتشددين يتحدثون عن إلغاء المادة الثانية من الدستور، فيما غلبت على جميع المطالب -بما فيها تصريح جماعة الإخوان- الدعوة لـ (دولة مدنية).
حيث بدأ بعض أقباط المهجر يثيرون اعتراضات حول اختيار المستشار طارق البشري لرئاسة لجنة تعديل الدستور بدعاوى أنه "إسلامي" رغم الحيادية المعروفة عنه وانتصاره لـ"الدولة المدنية"، وفكرة الهوية الحضارية ذات المرجعية الإسلامية التي تضمن حقوق المواطنة للجميع، وتحرك نجيب جبرائيل رئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان مع عدد من أقباط المهجر وناشطين من منظمات حقوقية لتقديم عريضة سبق أن أعدوها للدستور الجديد، تقترح إلغاء بند الشرعية والنص على أن (مبادئ القانون الإنساني والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية هي مصدر التشريع)!.
وسبق أن دعا الأنبا مرقص المتحدث الرسمي باسم الكنيسة بدوره، في حوار صوتي مع "الهيئة القبطية الأمريكية" -هيئة لأقباط المهجر بولاية نيوجيرسي الأمريكية- عام 2007م لتعديل المادة الثانية من الدستور بحذف الألف واللام من كلمتي (المصدر الرئيسي للتشريع) لتصبح (مصدر رئيسي)، ودعوته بموجب ذلك لإيجاد مصادر أخرى للتشريع منها الشرائع المسيحية.
حيث تحدث عن "تطبيق بعض شرائعنا فيما يتعلق بالمسيحيين" مثلما يطبق المسلمون شريعتهم، بيد أنه قيادة الكنيسة تعاملت بحكمة أكبر مع هذه التصريحات حينئذ، وأعلن البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية رفضه تدخل الأقباط في مسألة التعديلات الدستورية، "باعتبارها من صلاحيات أولي الأمر".
بل وحذر شنودة في الأمسية الدينية، التي نظمها نادي روتاري إسكندرية سبورتنج حينئذ تحت عنوان "فلسفة السلام بين الأديان" من مطالبة بعض الأقباط بإلغاء المادة الثانية من الدستور المتعلقة بالشريعة الإسلامية حتى لا يتسبب ذلك في تهييج المسلمين حسبما قال.
ولوحظ في هذا الصدد أن الأزهر الشريف أدلى بدلوه -في أول بيان يصدره بعد تنحي الرئيس مبارك عن الحكم وتولي الجيش السلطة- عندما أكد أنه يطمئن تمامًا إلى أن هوية الأمة وروحها متجذرة في ضمير كل منهم (أعضاء المجلس العسكري)، وأن مبادئ الحرية والعدالة والمساواة والمشاركة الشعبية الحرة هي القيم الهادية لنا جميعًا في هذه الظروف الدقيقة.
وشدد الأزهر -فيما يبدو كرسالة طمأنة للأقباط أن الشريعة الإسلامية تحمي عقائد الآخرين ولا تضرهم- على أن مكتسبات شعبنا في اعتزازه بمصريته وعروبته وتشريعاته المستمدة من مبادئ الإسلام وروح شريعته السمحة هي الضامنة لحقوق المواطنة والمساواة ووحدة النسيج الوطني بين المصريين كافة دون تمييز على أساس من الجنس أو الدين أو أي اعتبار آخر.
والملفت هنا أنه عندما تحولت ندوة "الهوية المصرية" -التي عقدت في إطار ندوات معرض القاهرة الدولي للكتاب يوم 21/1/2004م- إلى هجوم شديد على الإسلام والشريعة الإسلامية من جانب بعض المحاضرين العلمانيين، لم ينبر لهم سوى قبطي، الدكتور إسحق عبيد أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة عين شمس وانتقد مزاعم المطالبين بالتخلي عن عروبة مصر، وأضاف أن الفتح الإسلامي لمصر كان إنقاذًا لها من فساد الرومان واستعبادهم للمصريين؛ ودلل الدكتور إسحق عبيد على سماحة الإسلام بأن الفضل في إنشاء الكنيسة القبطية المصرية كان بسبب فتح المسلمين لمصر, فيما اعتبر د. رفيق حبيب المفكر القبطي الإنجيلي أن ما يهم الأقباط هو استقرار حقوقهم القانونية والدستورية، والشريعة الإسلامية السمحة والدستور يكفلان لهم ذلك حسبما قال.
المشاريع المسيحية وطبيعة المشاكل :
والحقيقة أنه يمكن الحديث عن مشاريع مسيحية متنوعة يطلقها أطراف الطوائف المختلفة والشخصيات المسيحية العربية عمومًا فيما يخص هوية الدولة المصرية أو الدول العربية ومسألة الشرعية:
• فهناك -من الأقباط والمسيحيين العرب عمومًا- فريق ينتمي إلى مدرسة المسيحية الليبرالية التي تعتمد في أفكارها على مشروع لاهوتي غربي، يطالب بتطبيق العلمانية الغربية على الشرق العربي الإسلامي بحجة أنها هي الحل لمشاكل المسيحيين العرب ويدعو لمشروع علماني يحترم الدين، ينصهر فيه المسيحيون العرب ليتمكنوا من المشاركة السياسية الفعالة، ويعتبر أن هذا هو الحل لضرب ما يسميه انتعاش الأصولية الإسلامية و"الأسلمة"، ولكن هؤلاء ينسون أن هذه العلمانية لا تتجزأ، وهي ضارة للمسلمين والمسيحيين على السواء لأنها -بالمفهوم الغربي- تعادي الدين وتمنع أي دور له في حين أن الجماعة المسيحية العربية تبني حياتها الفردية والجماعية والأسرية على القيم والقواعد الدينية المسيحية، وتحافظ على قداسة الدين، وقدسية العلاقة الأسرية المبنية على القواعد الدينية.
• وهناك فريق ثان يدعو لهوية مسيحية واضحة والأخذ بالشريعة المسيحية بجانب الإسلامية، وهو ما يجعل الحديث عن "الدولة المدنية" و"المواطنة" التي تعني عدم التفريق بين المواطنين على أساس الدين أو العرق غير ذات معنى.
• ولذلك بدأ يظهر في الآونة الأخيرة فريق ثالث من أقباط مصر والمسيحيين العرب عمومًا يرى أن الحل هو القبول بالشريعة الإسلامية والهوية الحضارية للدولة المصرية ذات المرجعية الإسلامية التي ضمنت على مدار سنوات ولا تزال تضمن حقوق المسيحيين العرب وتحميهم -بصرف النظر عن الفرق الإسلامية الشاذة- وتجعل طبيعة العلاقة بينهم وبين الدول الإسلامية مستقرة وهادئة دونما نظريات غربية شاذة مثل فكرة (العلمانية الإيجابية) التي تطرحها الكنيسة الكاثوليكية، أو خروج الكنائس العربية عن أدوراها الدينية لأدوار سياسية بما يصعد العداء بين المسلمين والمسيحيين.
والحقيقة أنه إذا جاز تلخيص المشاكل التي يطرحها البعض بشأن الهوية والإسلام السياسي فسوف نجدها تتمحور حول قضية العلمانية.. فالفريق الذي يطالب بتطبيق العلمانية في مصر والعالم الإسلامي (الشرق الأوسط) يعتبر أنها الحل لمشاكل التعصب الديني ضد المسيحيين والحل لإضعاف التيار الإسلامي النشط سياسيًّا، والحل لما يعانونه مما يسمى (أسلمة) أو (عدم تمييز المسلمين بين الدين والسياسة).
ولكن هذا الفريق يطالب في الوقت نفسه بـ (علمانية تحترم الدين وتحترم دوره!) وإلا لأصبحت هذه العلمانية معول هدم للمسيحية العربية أيضًا، ما يعني أن هذا الفريق يطالب بما يطالب به المسلمون, فالجميع هنا يطالب بأن يكون هناك دور للدين في الحياة العامة، بمعنى دور للمسجد وللكنيسة في الحياة العامة بحكم تدين المصريين، ويطالبون بتفعيل دور المسيحي في الحياة السياسية، كما يطالبون بدور للإسلام في الحياة العامة وعدم الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي!.
والمشكل الأكبر أن تعاظم التدخل الغربي -عبر الفاتيكان والحكومات الغربية- في شئون العالم الإسلامي والهجوم على الإسلام ومحاولة خلق ما يسمى إسلام معتدل أو مسلم علماني، رفع من أسهم المطالبين بهذه العلمانية وإبعاد الشريعة، برغم الاختلاف حولها وتسمية البعض لها (علمانية إيجابية) وآخرون (علمانية ميكانيكية)، وهو ما أخرجنا من دائرة الأساس التاريخية للحضارة العربية الإسلامية ومحاولة مسخ (هوية الأمة) بدعاوى حماية (هوية الأقلية)!.
ولهذا يرى الجناح العقلاني المعتدل الذي يمثل غالبية الأقباط أن الحل في الشرق الإسلامي لا يحتاج لتعقيدات العلاقة بين الكنيسة والدولة في الغرب ولا يحتاج لتصدير تلك المشكلة التي تواجه الغرب (فكرة الحق الإلهي للكنسية في مواجهة الملك) إلى البلاد العربية والإسلامية، حيث الدين يلعب دورًا أساسيًّا لدى المسلمين والمسيحيين.
فلا توجد مشكلة في العلاقة بين الدين والدولة في الشرق الإسلامي، ما دامت لا توجد سلطة دينية سياسية مطلقة، ولا نموذج الحكم بالحق الإلهي، الذي أسس على يد الكنيسة الكاثوليكية في الغرب، وهنا يصبح نموذج ما يُسمى بالدولة المدنية ذات الهوية الحضارية التي تحترم عقائد الأقليات هو النموذج المقبول بمصر لأن الشريعة هنا, كما قال شيخ الأزهر: "هي الضامنة لحقوق المواطنة والمساواة".
المصدر: موقع المسلم.
ساحة النقاش