لا تديين للسياسة ولا تسييس للدين

المقولة الشهيرة التي تقول : " لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين" هي عبارة غير دقيقة في صياغتها بل نستطيع أن نقول أنها خاطئة الصياغة ؛ ولذا يجب أن يعاد صياغتها بطريقة صحيحة لكي تعبر عن المعنى المقصود.

إن المفكرين الذين يقولون هذه العبارة يقصدون بها أنه لا يجب توظيف الدين لخدمة أغراض سياسية كما أنه لا يجب إضفاء القداسة الدينية على المواقف السياسية وهذا صحيح تماما ولا يختلف عليه عاقل.

ولكن الذين لهم مصلحة في مخالفة هذا المعنى يستغلون خطأ الصياغة في تأليب عامة الجماهير على هذه العبارة ويقولون لهم إن الدين قادر على سياسة أمور الوطن وهذا صحيح فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من بعده يسوسون شئون البلاد بهدي من الدين ونور من تعليمات السماء وهذا صحيح تماما مما يجعل عامة الجمهور مصدقا لهم بسهولة ويسر لأنه يؤمن تماما أن سياسة أمر البلاد والعباد لا يجب أن تخالف الدين وهذا صحيح تماما أيضا.

إن المشكلة والتناقض الظاهري يكمن في أن أصحاب تلك العبارة يقصدون معنى صحيحا لا توضحه العبارة بينما تؤدي العبارة بسهولة إلى معنى غير صحيح وبالتالي يستغل المخالفون خطأ الصياغة في رفض هذه العبارة مما يسهل عليهم إقناع الجمهور برفض تلك العبارة ، وتلك مغالطة كبيرة تسبب فيها أول من أطلق هذه العبارة حيث لم يحسن صياغة المعنى المقصود في كلمات معبرة عن المعنى بوضوح ودون لبس.

ونستطيع إعادة صياغة العبارة للتعبير عن المعنى المقصود بوضوح تام دون أي لبس فنقول : "لا تديين للسياسة ولا تسييس للدين" فهذا هو المعنى الصحيح المقصود في صياغة صحيحة معبرة فهذه العبارة الجديدة تعبر بوضوح أنه لا يجب تديين السياسة بمعنى أنه لا يجب إضفاء القداسة الدينية على المواقف السياسية فمثلا يمكن أن يحدث زورا وبهتانا القول أنه إذا أيدت هذا الموقف دخلت الجنة وإذا أيدت ذاك دخلت النار بينما يكون الخياران مباحين تختار أيهما شئت بلا حرج مثلما إذا ترشح في دائرتك شخصان لا غبار على أي منهما فيوعز لك فريق ما أنك إن اخترت أحدهما دخلت الجنة وإن اخترت الآخر دخلت النار ؛ فهذا استغلال فج للدين للانتصار لموقف سياسي معين فيقحم لك الجنة والنار والحلال والحرام في الموضوع دون أي مبرر.

ونستطيع أن نكتشف يسهولة تامة كذب وضلال أمثال هؤلاء المتاجرين بالدين عندما نلاحظ تغير مواقفهم في كثير من الأحيان فمثلا إن وجدوا أن في مصلحتهم التعاون مع جهة ما أو دولة ما أضفوا على ذلك قداسة دينية وأكدوا أن ذلك مرضيا لله تعالى ومدخلا في رحمته ؛ فإذا ما وجدوا مصلحتهم في البعد عنهم أكدوا أن التعاون معهم مخالفة للدين وبعدا عن طريق الله ودخولا في معصيته ومستوجبا لكل لعنة ، وهذه تجارة سافرة بالدين فالموقف الواحد يشكرونه أو يلعنونه حسب المصالح والأهواء ، وما يحللونه لأنفسهم يحرمونه على غيرهم ؛ وبمعنى أوضح أن تجار الدين يدّعون أنهم يملكون ناصية الدين فيحلون لأنفسهم ما يشاءون ويحرمون على غيرهم ما يشاءون ، ولا يوجد جرم أشنع ولا أفظع من استغلال الدين بهذه الطريقة الفجة فهم بذلك يريدون من الناس أن يعبدوهم من دون الله تعالى ؛ فما أفظع وما أضل ما يسعون إليه وما يجتهدون من أجله.

كما أن العبارة تفيد في شقها الآخر أنه لا يجب تسييس الدين ، بمعنى أنه لا يجب استخدام عقيدة معينة أو مبدأ ديني معين في خدمة أغراض سياسية ، فمثلا نجد أن تجار الدين قد يدّعون أن هذا الرجل هو من نسل أهل البيت أو هو إمام المسلمين أو هو يشبه الصحابة خلقا ويكون الغرض من ذلك خلق شعبية لهذا الرجل من أجل وضعه في منصب سياسي معين ؛ فتلك الأفعال وأمثالها هي من قبيل تسييس الدين وكل هذه الأفعال مرفوضة لأنها تجارة بالدين.

وقد كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقبلون أبدا تديين السياسة ؛ فمثلا حينما اقترح الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعطي نصف محصول تمر المدينة لإحدى القبائل لتحييدهم ؛ حينئذ سأله الصحابة الكرام إن كان هذا وحيا من السماء أم رأيا فلما أخبرهم أنه رأي فإنهم أبدوا رأيهم بخلاف هذا واستجاب لهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

كما كان المسلمون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يرفضون أيضا تسييس الدين ؛ فعندما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه تحت إمرة أحدهم وأمرهم بطاعة هذا الأمير ثم سار الأمير برفقائه وفي أحد المواقف حدث أمر ما جعل الأمير يخرج عن صوابه فجمع حطبا وأشعل نارا وأمر من هم تحت إمرته بإلقاء أنفسهم في تلك النار فأصبحوا في حيرة هل ينفذون أمر أميرهم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بطاعته أم ماذا يفعلون ، وظلوا في حيرة حتى خمدت النار وانطفأت ، فلما عادوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أخبروه بالأمر فأقرهم على عدم الطاعة في مثل هذا الموقف وقال لهم لو دخلتم تلك النار ما خرجتم منها بمعنى أنه جرم عظيم على من يستغل الدين لتنفيذ أمر معين وكذلك جرم عظيم على من يستجيب ويطيع مستغلي الدين والمتاجرين به.

والمواقف كثيرة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده في رفض التديين للسياسة ورفض التسييس للدين.

فيجب على كل عاقل أن يتنبه ويرفض تماما كل تجارة بالدين سواء أكانت تلك التجارة على صورة تديين للسياسة أم كانت على صورة تسييس للدين.

كما يجب أن نترك العبارة القديمة التي لا تعبر عن المعنى المقصود وهي "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة" وأن نستخدم العبارة الجديدة المعبرة عن المعنى المقصود وهي : " لا تديين للسياسة ولا تسييس للدين ".

 

المصدر: الكاتب د. عبد العزيز محمد غانم
masry500

طابت أوقاتكم وبالله التوفيق

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 109 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

112,788