انقراض الأحياء السكنية فى القاهرة الكبرى
ممدوح عبد الغفور حسن
هيئة المواد النووية
— تقسم المدن الكبيرة إلى أحياء تتميز بصفات خاصة حسب النشاط السائد فيها، ومن هذه الأحياء ما يعرف بالأحياء السكنية التى تمتاز بأن غالبية مبانيها هى مبان سكنية، سواء أكانت فيلات أو عمارات، وتنطبق عليها شروط تضمن المحافظة على طابعها السكنى الذى يوفر للمواطن الراحة اللازمة لكى يجيد ويبدع فى عمله، وليس هذا للمحافظة على راحة المواطن فحسب؛ بل هو أيضا للمحافظة على الإنتاج القومى ومعدل التنمية؛ فسكان هذه الأحياء السكنية هم غالبا من فئات الشعب العاملة، مثل المدرسين ورجال القانون والحرفيين والفنيين والأطباء والعلميين والمهندسين والتجار والمحاسبين ..... إلخ. وتحرص الحكومات على أن تحصل من هذه الفئات على أقصى عائد ممكن من عملهم؛ والعامل إذا لم يحصل على الراحة الكافية فى بيته، فلن يستطيع أن يجيد ويبدع فى عمله؛ فيهبط مستوى أدائه، ويعود ذلك فى النهاية بالسلب على الناتج القومى. لذلك نجد أن العواصم والمدن الكبيرة فى الدول المتقدمة، كباريس وفيينا وسان فرانسيسكو مثلا، لها قوانين صارمة تحدد طبيعة الأنشطة فى أحيائها السكنية، وتمنع مزاولة الأنشطة المزعجة، وتحدد مواعيد فتح وإقفال المحلات العامة المسموح بها، وبعض الإجراءات الأخرى، حتى توفر الراحة والهدوء للسكان، وتقوم الشرطة والسلطات المحلية بمتابعة وتنفيذ تلك القوانين بصرامة شديدة وبدون استثناءات لأى سبب، وتسرع فى إزالة شكوى المواطنين من أى خروج على هذه القوانين؛ فالذى لا يحب الهدوء ويبغى الإزعاج والضوضاء عليه بالأحياء التى توفر له ذلك، فهى موجودة أيضا فى هذه المدن، مثل الأحياء التجارية والصناعية والسياحية، وأماكن السهر والترفيه البرىء وغير البرىء، ولكل حى طابعه وشروطه.
— ساد هذا الحال فى القاهرة منذ فترة طويلة، ولكن مع زيادة عدد السكان، والاتجاه إلى جلب السياح سعيا لزيادة الدخل القومى الذى قل نتيجة قلة العمل، ولأسباب أخرى، بدأ طابع الأحياء السكنية ينقرض، وبدأت هذه الأحياء تتحول إلى أحياء فوضوية يتم فيها قتل القانون والنظام والاعتداء الصارخ على حريات وحقوق ساكنيها تحت سمع وبصر الجميع دون أن يتقدم أحد ليفعل شيئا، لا من السكان ولا من السلطات، فأصبح من الممكن مزاولة أى نشاط يخطر على البال فى هذه الأحياء السكنية بغرض الربح السريع، الذى يزيد كلما ازداد خرق القانون والاستهتار بحقوق السكان وأمنهم وسلامتهم، ولنذكر بعض الأمثلة:
- الاستيلاء على شقق الدور الأول فى العمارات السكنية وتحويلها إلى أنشطة متعددة من بوتيكات، أو محلات بيع الكاسيتات التى تفرض على السكان إفساد آذانهم بما تصبه فيها من الأغانى الهبابية رغما عنهم، أو نوادى ألعاب فيديو لاصطياد الشباب الحائر لتضييع وقته وسلب ما فى جيبه ووضعه على أول طريق الانحراف، بالرغم من قرارات المحافظين المتتالية بغلق هذه الأماكن، وغيرها كثير، وكل هذه الأنشطة لا تتقيد بمواعيد، وتتعمد السهر لساعات متأخرة من الليل تنشر الضوضاء والفوضى والتلوث وتفرضه على السكان الغلابى.
- الاستيلاء على المسافات البينية بين العمارات السكنية ومزاولة الأنشطة الخطرة فيها، مثل: الأفران لصناعة الخبز السياحى أو الورش المتنوعة التى تمثل خطورة كبيرة على السكان وتنشر القذارة والقبح متحدية بذلك ما يسمى التنسيق الحضارى الذى ينادى به السيد وزير الثقافة، مع العلم بأن قانون البناء يحتم ترك هذه المسافات خالية أو خضراء. والأمثلة كثيرة لا يمكن حصرها. وجميع هذه الأنشطة لا تراعى أبسط شروط الأمن الصناعى ولا إجراءات السلامة لكى لا تتكبد تكاليف هذه الإجراءات وتضيفها إلى أرباحها، وبهذا تتحول المخاطر والمتاعب التى يتعرض لها السكان إلى أرباح خيالية لأصحاب هذه الأنشطة، ليس هذا فحسب بل إن المخاطر والمتاعب التى يتعرض لها سكان هذه الأحياء تؤثر على أدائهم فى أعمالهم وبالتالى على الناتج القومى، ليصبح انخفاض الناتج القومى ربحا وفيرا لأصحاب هذه الأنشطة.
— وهنا يثور التساؤل: هل هذه الأماكن التى تتحدى القانون والذوق العام وتعتدى على المواطن العامل مرخصة أم غير مرخصة؟ فإذا كانت غير مرخصة فهى لا تخضع للنظام ولا للضرائب مثل الأماكن المرخصة وتحقق ربحا أكثر منها، متحدية كل السلطات المسئولة، وإذا كانت مرخصة فهى مصيبة؛ إذ كيف حصلت على هذا الترخيص رغم أنف القوانين؟
— وهكذا أصبحت القاهرة جنة الفوضوية ومتفننى خرق القانون والنظام والتعدى على حرية الآخرين، ويتمثل ذلك فى عرف أصبح سمة سائدة، وهو: افعل ما تشاء، حيثما تشاء، وقتما تشاء، كيفما تشاء، ولا تضع فى اعتبارك أى قانون أو أى احترام لراحة الآخرين خاصة إذا كانوا من السكان المساكين، ولن يصيبك شىء إذا اشتكى هؤلاء السكان، إلا محضر إدارى فى قسم الشرطة ويحفظ، وإذا أصررت على حقك يُحَوّل المحضر إلى النيابة ليكون القرار "يبقى الحال على ما هو عليه وعلى المتضرر أن يلجأ للقضاء"، وحتى إذا لجأ المتضرر إلى القضاء فلن يحصل على حكم إلا بعد عشر سنوات، وحتى إذا حصل على حكم فى صالحه "لو شاطر ينفذه"!!! وأصبح هذا من أسباب كوننا دولة نامية بالمعنى المجازى (أو متخلفة بالمعنى الحقيقي)، لأن هؤلاء السكان المساكين من أعمدة الإنتاج والدخل القومى والتنمية، أما الفوضويين ومحبى خرق القانون والاعتداء على الحريات فهم الفئات الطفيلية التى تعيش على دماء الآخرين. وهكذا أصبحت القاهرة المكان الذى يستطيع فيه السياح فعل أى شىء لا يستطيعون فعله فى بلادهم حيث القانون والذوق والأخلاق ومبدأ احترام الآخرين يمنعهم من ذلك، والعقاب سريع ورادع، وخاصة الأشقاء العرب الذين يعايروننا بالتجاوزات التى نسمح لهم بها فى بلدنا، الذى نقول عليها أم الدنيا، ولا يستطيعون أن يأتوها فى بلادهم.
نشر هذا المقال فى الأهرام الصباحى منذ فترة طويلة ليعرض صورة من صور الفساد الذى ساد فى الحياة العامة، وكان شعاره فى مجلس الشعب "الفساد فى المحيات وصل إلى الركب"؛ فالمحليات هى المسئولة عن هذا النوع من الفساد؛ لكن بعد ثورة 25 يناير لاح الأمل فى بداية علاج هذا الفساد فى مرحلة التغيير الذى نمر بها بعد تطهير المحليات على يدى المجلس العسكرى الحاكم وحكومة التطهير الشامل.
ممدوح عبد الغفور حسن
رئيس هيئة المواد النووية سابقا
33442749
010 560 4772
ساحة النقاش